المستقبل

سيارات الكرتون… عالم لا ينضب من الابتكار

الخيال العلمي يؤكد بأن العالم لا يتوقف، فما كان قديمًا خيالاً أو يصعب تصديقه يصبح اليوم متوفرًا وتدريجيًا يتحول إلى ضرورة سائدة

من يستطيع التصديق بأن سيارة العائلة المستقبلية ستكون مصنوعة بالكامل من الكرتون، أو الورق المقوّى؟!

 

تتطور مهارات الخيال والبحث والابتكار، بتطور الحياة عبر العصور، وما كان يراه البشر قديمًا ضربًا من ضروب المُحال، يصبح بمرور الوقت واقعًا مُعاشًا، بل وضرورة من ضرورات الحياة كالغذاء والهواء، من المستحيل تخيل الحياة بدونها.

ففي إحدى معسكرات الجيش الفرنسي وتحديدًا عام 1769م كشف الألماني ذو الأصول الفرنسية “نيكولاس جوزيف كونيوت”، عن عربة فولاذية بثلاث عجلات كبيرة الحجم تتحرك لأول مرة من تلقاء نفسها دون أن تجرّها الحيوانات؛ وذلك بمحرّك بخاري يعمل بقوة دفع البخار المضغوط داخليًا، أثار اندهاش العالم الذي كانت عربات الجرّ حينها هي السائدة ولا يمكنه التخيل بأن يأتي اليوم الذي تسير فيه العربات دون حيوانات الجرّ.

النموذج البخاري

رغم اصطدام سيارة “كونيوت” بجدار المعسكر حينها وإخفاق التجربة لأسباب فنية عدة كصعوبة توجيهها نحو الاتجاه المراد الذهاب إليه بسبب ثقل غلايّة الماء الموجودة في المحرّك والسيارة بشكل عام، وأن سرعتها لم تكن تتخطى سرعة الأفراد الذين يسيرون على أقدامهم، إلا أنها كانت بداية الخيال لانطلاق أفكار العلماء نحو العديد من التحسينات على النموذج البخاري.

نموذج البنزين

وتمكن العالم “روبرت اندرسون” في منتصف القرن التاسع عشر من اختراع سيارة أُخرى تعمل بالطاقة الكهربائية بديلاً عن البخار، ولكنها لم تلق نجاحًا ـ حينها ـ بسبب تكلفتها المرتفعة حينها وانخفاض سرعتها القصوى، ومن ثم تمكَّن العالم الألماني “كارل فريدريش بنز” عام 1886م من تركيب محرّك للسيارة يعمل بوقود البنزين الذي يستخدم حتى الوقت الحالي.

نيكولاس جوزيف كونيوت

الخيال أم المعرفة؟!

فكما قال “ألبرت أينشتاين”، إن الخيال أهم من المعرفة، فكل ما نراه من حولنا من اختراعات واكتشافات كانت في الأصل خيالاً وفكرةً، فمن كان يمكنه التصديق بأن السيارة سوف تسير بلا حيوانات تجرّها، واليوم من يستطيع التصديق بأن سيارته المستقبلية ستكون مصنوعة بالكامل من الكرتون، أو الورق المقوّى! (مادة مصنوعة من ألياف الورق التي تُستخدم في صناعة الصناديق وأغراض التغليف وألعاب الأطفال)، يستطيع أن يجوب بها الشوارع وأن ويذهب بها إلى عمله وينقل بضائعه ويقضي بها مختلف احتياجاته المعيشية.

روبرت اندرسون

خلية نحل

وكشفت من فرنسا أيضًا، إحدى الشركات المُصنّعة للسيارات عن شكل سيارة العائلة المستقبلية، وهي بحسب الشركة المُصنعة (ستروين) سيارة كهربائية يبلغ وزنها نحو طن، ومصنوعة بنسبة %50 من مواد أُعيد تدويرها، وبقية موادها بنسبة %100 قابلة للتدوير، فسقفها خفيف الوزن والألواح الخلفية مسطحة، صُنعت من الورق المقوى المعاد تدويره، والذي تم تشكيله على شكل خلية نحل بين ألواح مصنوعة من ألياف زجاجية قوية، وتبلغ أقصى سرعة لها 109 كيلومترات في الساعة.

كارل بنز

صديقة للبيئة

وتتسم أيضًا بأن غطاء محركها مصنوع من الورق المقوّى والألياف الزجاجية بدلاً من الفولاذ، ويوجد أسفل لوحة غطاء المحرّك حجرات لشحن الكابلات، ومناطق تخزين بما في ذلك الأغراض الشخصية وأغراض الطوارئ، وطلاؤها الخارجي صديق للبيئة، وفي الداخل تتميز بغطاء أرضي مكوّن من قطعة واحدة مصنوع من الإسفنج المرن، وبالتالي إمكانية إعادة تدويرها وسهولة عملية إصلاحها ما يؤهلها للاستمرار حتى ثلاثة أجيال أو خمسين عامًا.

ثورة في عالم المركبات

وتمثل هذه السيارة التي تطوّرها شركة (ستروين) بالتعاون مع شركة الكيماويات الألمانية (بي إي أس أف)،  وأطلقت عليها اسم “اولي” وفقًا لصحيفة (صن) البريطانية تغييرًا جذريًا وثورة في عالم صناعة المركبات، كمفهوم جديد يواكب التوقعات المستقبلية بشأن عالم بلا موارد ويلامس احتياجات العالم المُلحة إلى الاستدامة والحفاظ على البيئة، كونها لا تصدر انبعاثات كربونية، والورق المقوى الموجود في داخلها مُعززا بطبقة بلاستيكية على كل جانب، ويمكن شحنها بسرعة تصل إلى %80 في مدة أقصاها 23 دقيقة فقط.

ضرورة سائدة

هذا الخيال العلمي يؤكد بأن العالم لا يتوقف، فما كان قديمًا خيالاً أو يصعب تصديقه ووجوده يصبح اليوم متوفرًا وتدريجيًا يتحول إلى ضرورة سائدة، فعندما كشف “اندرسون” عن سيارته الكهربائية لأكثر من المئة والتسعين عامًا جاءت كما أسلفنا مرتفعة التكلفة ومنخفضة السرعة، أما الآن أصبحت السيارات الكهربائية تسير جنبًا إلى جنب سيارات وقود البنزين في الشوارع وتشهد تطورًا متسارعًا وتقدمًا مهولاً في قدراتها وإمكاناتها بفضل قوّتها اللامحدودة وأنظمة التحكم التي تمتلكها في الجرّ والثبات الأكثر تقدمًا، وما أدل على ذلك حجم مبيعات السيارات الكهربائية الذي ارتفع ارتفاعًا كبيرًا منذ عام 2020م.

البطاريات الكهربائية

وفقًا لتقرير “فورتشن بيزنس” بلغ حجم سوق السيارات الكهربائية العالمية نحو 246.70 مليار دولار عام 2020م، متوقعًا أن ينمو السوق من 287.36 مليار دولار عام 2021م إلى تريليون و318.22 مليار دولار عام 2028م، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ %24.3.

كما أوضحت شركة “ماتياس شميت” المتخصصة في أبحاث السيارات أن أكثر من خُمس السيارات المباعة في العام الجاري عبر 18 سوقًا أوروبيًا، بما في ذلك بريطانيا، تعمل بالبطاريات الكهربائية، بينما شكلت السيارات الهجينة نحو من %19 من المبيعات.

السيارات الفولاذية

وقد يأتي اليوم أقرب مما نتخيل لنرى سيارات الورق المقوّى تجوب الشوارع وتنافس مبيعات السيارات الفولاذية، لاسيما أن ما كشفته شركة ستروين عن شكل سيارة العائلة المستقبلية، قد سبقه في عام 2015م أن كشفت شركة (لكزس) اليابانية خلال معرض لها في مدينة برمنغهام البريطانية عن سيارتها المصنوعة بالكامل من الكرتون المقوّى، إذ تمكن مصمموها من صنع سيارة بالحجم الطبيعي باستخدام 1700 لوح من الورق المقوّى، ويمكنها أن تسير بالشكل ذاته الذي تعمل به مثيلتها، وذلك من خلال الدارة الكهربائية الموصولة على هيكل الألومنيوم الذي أسست عليه.

 

نموذج المحاكاة

والملفت في نموذج المحاكاة، الذي قدمته (لكزس) أنه لم يتغاض مصممو هذا النموذج من السيارة عن أي تفصيل في النموذج الأصلي، من العلامة التجارية، سواء من تفاصيل الإطارات الدقيقة، أو شكل المقاعد من الداخل، أو الانسيابية والتصميم السلس للهيكل الخارجي للسيارة، لذا فهي محاكاة بأدق التفاصيل للنموذج الأصلي للسيارة، باستثناء أنها صممت بالكامل من الورق المقوى.

تطور هائل

ويعود هذا التطور الهائل في تحويل أفكار الخيال إلى واقع، سواء سيارات الورق المقوّى أو غيرها بشكل أساسي إلى الضغوطات المناخية التي تقف أمام العالم اليوم الذي أصبح مهدّدا بندرة موارده مستقبلاً، فأخذت الحكومات على تشديد المعايير والقوانين التي تهدف إلى حماية البيئة، وتقليل الانبعاثات الغازية للحد الأدنى وتشجيع كل ما شأنه إعادة التدوير للمنتجات، فعلى سبيل المثال ولاية كاليفورنيا وهي أكبر سوق للسيارات في الولايات المتحدة الأمريكية تخطط الآن لحظر بيع السيارات التي تعمل بالغاز ووقود البنزين بحلول عام 2030م، ومدينة باريس أعلنت كذلك أنها ستحظر كل شيء يسير على طرقاتها باستثناء المركبات الكهربائية عام 2030م.

الوعي بالمستقبل

وكان رؤساء شركة (سيتروين) قد أكـــــدوا بأن مســاعـــيــــهــــم لإنتـــاج سيـــارات كهربائيــــة من الورق المقوّى والألياف الزجاجية، يأتي من وعيهم المستقبلــــي بالتغيرات البيئــيـــــة، إذ أوضــح الرئــيــــس التـنـــفـــيــــــذي للشركــــة، “فينسينت كوبي”، أن الــســــيـــــــــارات الكهربائية الحديثة يجـــــب ألا تحتــــاج إلـــى أن تـــــكــــــون قــصـــــورًا مركبــة على عجلات، ويجب ألا يكون الوعي البيئي عقابيًا يقيّد حركتنا، وبدلاً من أن تكون السيارة قصرًا على عجلات مليء بالشاشات والأدوات، أثبتت “أولي” أنه يمكن تحقيق المزيد بأقل من ذلك، وقال إن الصراع بين الحاجة لحماية كوكبنا والوعود المستقبلية للتنقل المستدام والكهربائي لن يتم حلّه بسهولة، نحن بحاجة إلى جعل المركبات أخف وزنًا وأقل تكلفة وتتماشى مع مفاهيم مُلّحة بأن العالم بلا موارد.