بدأت ظواهر خطيرة تغزو الدنيا، وأخطرها التطرف الأيديولوجي، دينياً وفكرياً وقومياً، وتحولت المنصات العالمية إلى ساحة حرب، بل حتى الليبرالية التي تطرح نفسها ترياقاً للتسامح والصفاء والعفو، هي الأخرى تطرفت وأنتجت أسلحتها التدميرية الاجتثاثية الإقصائية، قولاً وعملاً، عن ليبراليتها ومثل التسامح، وامشتقت خناجرها الغادرة.
ولم يقتصر التطرف على التعبير اللفظي أو الكتابي، بل تطرفت الأزياء، أيضاً، فالأذواق والمزاجات مرايا صادقة تعكس ما يعتلج في المخيخات والنفوس وعفويات السلوك.
كان الناس ينزعون، في أزيائهم، إلى الألوان السمحة المعبرة عن التناسق والتجاوب مع استقرار الحياة واتزانها والشعور بالأمن والثقة بإنسانية البشر، وكانت تسود الألوان الهادئة المعبرة عن السلام والصفاء.
الآن، حينما يلقي المرء نظرة فاحصة على تصماميم أزياء الناس وألوانها في أرجاء الدنيا، ويقارنها بأذواق قبل ثلث قرن سيكتشف تغيراً حاداً وتطبيعاً خطيراً للأشكال العشوائية والفوضوية والألوان الفاقعة، وارتباكاً عبثياً ضاغطاً، ما يمثل تطرفاً حاداً في الذوق الجمعي للناس في المجتمعات الغربية أولاً، ثم تتمدد الموضات إلى كل فج عميق، بحكم سيطرة إعلام الحضارة الغربية الواسعة.
منذ سنوات وأنا أبحث عن ربطة عنق ذات لون هادئ، لكن اقتنعت أن ما تنتجه المصانع منذ عقود ليس سوى ألوان «ستائر» فاقعة مستفزة تجلب التوتر أو قاتمة تجلب الكآبة والأحزان.
في هذه الأيام لا تخطئ عينا المرء مشاهدة الألوان الفاقعة المرعبة ـ أو القاتمة ـ وهي تطغى على أجساد تموج في شوارع مدن الأرض، وحيثما تحل قدم بشرية. وهذا يعني بجلاء أن مصممي الأزياء لا يقودون الأذواق ولا يهذبونها، مثلما يزعمون، لكنهم يعكسون نفسيات الناس وهلعهم وأطوار الخوف.
ولا ريب أن الإنسان المعاصر قلق ومتوتر، ويأكل الخوف جسده وعقله وروحه، بحكم المهددات التي تحاصره في المنزل والعمل والشارع، والرأسمالية المتوحشة التي تنذره، في كل لحظة، بأنها سترميه في غياهب الفقر والعوز وتوشك أن تطلق عليه الرصاص. ووسائل الاتصال تمده يومياً بتشكيلات متنوعة من المصائب والمهددات.
تطرف آخر، حضرت يوماً، حفل ناد غنائيا راقصا، ولاحظت طغياناً خطيراً للطبول الصاخبة، واعتقدت أن الأمر فردي أو حدوث خلل ذوقي ما في المكان أو الزمان. لكن، بعد ثلاث سنوات، جربت مشاهدة حفلة مماثلة أخرى في بلد آخر، فوجدت الأمر أكثر صخباً وتهديداً. وقبل شهر أعدت التجربة، في بلد ثالث ومختلف ثقافياً وجغرافياً، فوجدت أن الجنون يتواصل بحدة و»تطرف» أعنف وأكثر صخباً، وأن المصاب جلل، وأن العالم يتكوم في عين العاصفة، ويتجه لهوة ساحقة، ولم يبق سوى الانهيار التام للمثل التي بناها الناس ورسخت منذ آلاف السنين، بعرقهم وسهرهم وجهدهم ودموعهم ودمائهم، وجدالاتهم النورانية الفكرية الطويلة.
هذا هو الدمار الشامل، السرطان الذي يأكل تدريجياً أذواق الناس وأفكارهم وعقولهم ومثلهم، ويسري في أوصال المجتمعات ويمدها بالتطرف والتزمت وتشريع الكره وأسلحة الاجتثاث، وإنتاج أنواع عديدة من المتطرفين المهددين للحياة والسلام. فالتطرف أصبح كونياً، من وطن ربوع الصفصاف، إلى مهاجع الصقيع، دينياً وفكرياً وقومياً وجهوياً وذوقياً، وحتى إدارياً، فكثير من المديرين «المتطرفين» يخضعون موظفيهم لصنوف من الضغوط والتهديدات وأنواع من السياط والتعذيب والإذلال اتباعاً لمنظرين إداريين ضلوا الرشد، فترعوا أمراضهم ليؤمها أتباع مأخوذين بالغرائب والتشنجات.