رجل وزمان

محمد علي زينل ..
سلطان اللؤلؤ وصديق الفقراء

الملك عبدالعزيز فرض رسماً جُمركياً %1 على واردات المملكة لصالح مدارس الفلاح

أسّست أسرة «زينل» أول شركة تجارية في جدة وحصلت على سجل تجاري «رقم 1» في المملكة

انهارت أسواق اللؤلؤ الطبيعي نتيجة انتشار اللؤلؤ الصناعي فتأثّرَت مدارس الفلاح

مشروع «قرش الفلاح» لفتة إنسانية وتعبير بليغ عن اهتمام الملك المؤسّس بالعلم والتعليم

محمد علي زينل، هو أحد أعمدة بيت التجارة في الحجاز، رجل أعمال من الطراز الأول، وهبَ حياتَه للعلم، وسخّرَها وما يملكُ من مال في خدمة التعليم، ترك تجارة والده في الهند، وسافر إلى القاهرة، ليلتحق بالدراسة في الأزهر الشريف، وعندما أنهى دراستَه، عاد إلى التجارة منطلقا من الهند، واتّسعَ نشاطه التجاري، وافتتح مكاتب تجارية في غير عاصمة عالمية. اشتغل بتجارة اللؤلؤ، حتى ذاعت شهرتُه، فأطلقوا عليه لقب “ملك اللؤلؤ” أو “سلطان اللؤلؤ” فكان يُنفق بسخاء ما يأتيه من تجارة اللؤلؤ على مدارس “الفلاح” التي أنشأها في جدة، ومنها انطلقت فروعُها في مدن وعواصم عدة. امتلك زينل أربعة ألسن كان يتحدث بها أربع لغات، وارتبط بعلاقات قوية مع أصحاب القرار من الملوك والرؤساء والأمراء العرب والأجانب، لكنّه لم ينس قط الفقراء والأرامل واليتامى الذين منحهم الكثير من وقته وفكره وماله وطاقته.

خسر محمد علي نحو %90 من تجارته التي كان يُنفق منها على مشروعاته التعليمية والخيرية، فأعانه وسانده الملك عبدالعزيز ـ طيّب الله ثراه ـ وساعده في الخروج من محنته، ليواصل دوره ورسالته. “الحاج محمد علي” قصة إرادة، حكاية عشق للعلم والتعليم، ومن قبل ومن بعد مشوار كفاح. هنا سطور من سيرة الرجل، وملامح من زمانه.

الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس الباكاستاني أيوب خان والشيخ عبدالله الجابر الصباح في
ضيافة الحاج محمد علي زينل

آل زينل

زينل اختصار لزين الدين، وينتمي آل زينل إلى قبيلة سهم القرشية، وبحكم تجارة جدهم الأكبر علي رضا بن زينل الأول، انتقل إلى السواحل الجنوبية لإيران على سواحل الخليج، حيث العديد من القبائل العربية هناك، وأقام في بلد تسمى «بستك» على الحدود الغربية القريبة من المحمرة، والمعروفة الآن بعربستان، وكان يحكمها آنذاك الحاكم العربي خزعل، وكان علي رضا على علاقة جيدة بحاكم الولاية التي يسكن فيها، إلا أن توترا حدث بينهما جعله يقبض على ابنه البكر زينل، وتمكن والده بعد مدة من أن يخرجه من السجن بحيلة، وسارع بإرساله وأخويه عبدالله وحسين مع قافلة بحرية متجهة إلى الحجاز، بمعية رجل الأعمال علي الزاهد، وهناك بدأ زينل تجارته مع الزاهد، وارتبطت الأسرتان بروابط الرحم والتجارة.

وتعود التجربة التجارية لعائلة «آل زينل» إلى أكثر من 170 عاما، حيث كان لهذه الأسرة السبق في الحصول على السجل التجاري الأول في السعودية، إذ أسس الحاج زينل علي رضا أول شركة تجارية في جدة عام 1286هـ، كما أنها سجلت في عهد الدولة السعودية بسجل تجاري «رقم 1».

أمير قطر الأسبق الشيخ عبدالله علي آل ثاني والسفير السعودي في الهند يوسف الفوزان في
ضيافة محمد علي زينل في مومباي

المولد والنشأة

ولد الحاج محمد علي زينل في جدة في 12 ربيع الأول عام 1301هـ الموافق 10 يناير 1884م ونشأ في بيئة وأسرة متمسكة بآداب الدين وفي هذه البيئة قرأ القرآن وتعلم مبادئ العلوم الشرعية، كما تعلم القراءة والكتابة. بعد أن علمه والده، دربه على التجارة، وأرسله في ريعان شبابه إلى الهند لإدارة أعمالهم التجارية هناك، إلا أنه لم ينسجم مع الحياة العملية، لتعلقه بالعلم، فقرر التوجه للقاهرة والالتحاق بالأزهر الشريف، رغبة منه في مواصلة تعليمه فكان له ما أراد، وحصل على نصيب وافر من العلم في جدة والقاهرة، وكان يخطب باللغة العربية ويجيد أربع لغات هي الإنجليزية والفرنسية والفارسية والأوردية، وعرف عنه حرصه على مساعدة الفقراء وسد احتياجاتهم ودعمه للأعمال الخيرية والتوعوية، وقد أسس الحاج زينل أول نادٍ بالمفهوم العصري، وسماه نادي الصلاة حيث كان يشرف مع أخيه عبدالله وكبار رجال جدة على الأنشطة المتمثلة في صلاة الجماعة والشعر والأدب والتاريخ ومتابعة الأعمال الخيرية وكذلك رمي الجُلّة «القُرص» وقد أطلق عليه حينها لقب أبو الفقراء، وقد ذكر ذلك الريحاني في كتابه «ملوك العرب».

الشيخ محمد علي زينل مع زوجته روبي جاكسون وابنته
آمنة في باريس

ملك اللؤلؤ

عُرفت أسرة زينل ـ منذ العهد العثماني ـ بتجارتهم في الشحن واستقبال الحجاج والتصدير وغيرها من المجالات التجارية. ويعد الحاج محمد علي أول من دخل تجارة اللؤلؤ من عائلة زينل، حيث كان يشتريه من الموانئ العربية في مواسم الصيد، ثم يقوم بصقله ونظمه في عقود وحُلق وأساور، وبيعه في العواصم العالمية، ومن تلك التجارة اكتسب محمد علي زينل لقب «ملك اللؤلؤ»، إلا أنه تعرض لخسارة كبيرة، بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، أفقدته قرابة %90 من تجارته، لكنه رفض إعلان إفلاسه.

وفي العام 1917م انفصل الحاج محمد علي عن تجارة أسرته وافتتح أول مكتب خاص به، ومع سلوكه المتنوع التجاري والاستثماري بدأ في سداد ديونه حتى أنه تحمل خسارة مائة تاجر من كبار تجار اللؤلؤ واضطر أحيانا للاقتراض لسداد ديونه، ومع ما تعرض له من خسارة، إلا أنه حاول قدرَ طاقته، وبقدر ما يستطيع الاستمرار في الأعمال الخيرية والتعليمية المنتشرة في العديد من البلدان العربية والعالمية وكان قد أرسل عددا من الطلاب المتفوقين للدراسة في الهند وتكفل بمساعدة أسرهم في جدة ومكة المكرمة.

أرسله والده إلى الهند لإدارة أعمالهم التجارية فلم ينسجم مع الإدارة وقرر التوجه للقاهرة والالتحاق بالأزهر الشريف

ارتبط بعلاقات وثيقة مع كبار المسؤولين والحكام وأصحاب القرار والنفوذ في الدول العربية والكثير من دول العالم

أسس جمعية للصداقة العربية الهندية قدمت الدعم للجمعيات والهيئات التعليمية والاجتماعية في مناطق عدّة من الهند

كان يخطب بالعربية ويجيد أربع لغات هي الإنجليزية والفرنسية والفارسية والأوردية

شخصيته وعلاقاته

وُصف محمد علي زينل في كتاب أعلام الحجاز لمؤلفه محمد علي مغربي بأنه رجل قوي الشخصية أعطاه الله مهابة ومحبة وهو معتدل الجسم وسط بين الرجال لا بالطويل ولا بالقصير مستدير الوجه أبيض اللون واسع العينين يرتدي عمامة حجازية، وقد احتفظ بلباسه هذا حتى في زياراته الكثيرة إلى أوروبا. وكان للحاج محمد علاقات واسعة مع أصحاب القرار والنفوذ في مختلف دول العالم حيث ارتبط بعلاقات وثيقة مع الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ والشريف حسين، والملك فاروق، والرئيس جمال عبدالناصر، والملك عبدالله ملك الأردن، والملك أمان الله ملك أفغانستان، ثم الملك نادر شاه، وإمبراطور إيران رضا بهلوي، وسلطان حضرموت القعيطي، والرئيس الهندي أبو الكلام أزاد، والرئيس العراقي عبدالرحمن عارف، وكافة أمراء دول الخليج العربية كأمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح، وحاكم دبي الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، وابنه الشيخ راشد بن سعيد الذي استقبله ذات مرة بـ 21 طلقة احتفاء بزيارته.

وفد المملكة المتوكلية اليمانية برئاسة سيف الإسلام ابن الإمام يحي حميد الدين والسفير
السعودي الشيخ حافظ وهبه وآخرين في ضيافة محمد علي زينل في منزله في لندن

ويعد الحاج محمد علي في الوعي الهندي التاجر العربي الذي ساهم في تنمية الهند القومية، إذ كان صديقا شخصيا لجواهر لال نهرو أول رئيس وزراء في الهند، كما أنه أسس جمعية للصداقة العربية الهندية، والتي قدمت الدعم للجمعيات والهيئات التعليمية والاجتماعية في أرجاء الهند.

كما سافر الحاج محمد علي إلى أوروبا سعيا بتجارته، وكان أول عربي من الجزيرة العربية يمتلك عقارا في أوروبا عام 1920م، وخلال سفره لأوروبا تزوج زوجته الثانية البريطانية روبي جاكسون وكان ذلك عام 1934م، وقد أنجب منها ثلاث بنات هن: آمنة وولدت في باريس في 8 أغسطس 1939م، وحفصة وولدت في الهند في 4 أغسطس 1942م، ثم مريم وولدت في بومباي في يوليو 1944م. أما زوجته الأولى فهي خديجة ابنة عمه عبدالله علي رضا، وأمها السيدة مريم الزاهد، إلا أنه لم ينجب منها.

أمير قطر الأسبق علي بن عبدالله آل الثاني والسفير السعودي الشيخ يوسف عبدالله
الفوزان في ضيافة محمد علي زينل في مومباي

مدارس الفلاح

تعد مدارس الفلاح علامة بارزة في حياة الحاج محمد علي زينل فقد كانت حصيلة اهتمامه وشغفه بالعلم وطلابه وقد أسسها في جدة عام 1905م، وهي نواة التعليم النظامي في الجزيرة العربية، وقد تكفل بالصرف عليها حتى تكفلت وزارة المعارف بها فيما بعد، وقد كان التعليم بها مجانياً منذ تأسيسها، وبعد مرور أربع سنوات على إنشائها افتتح فرع مكة المكرمة، ثم توالى افتتاح الفروع في كل من البحرين وبومباي ودبي وحضرموت. وكان لهذه المدارس السبق بعد حلقات الحرمين الشريفين في تخريج جيل الرواد من العلماء والأدباء والمفكرين وكبار موظفي الدولة من دبلوماسيين ومستشارين وبعض أعضاء مجلس الشورى وكذلك بعض التجار.

وقد جاءت فكرة إنشاء مدارس الفلاح بعد أن تأكد الحاج محمد من الحاجة لها حيث قام باستئجار حجرة في أحد المنازل كانت هي النواة الأولى للمدارس، وقد تكفل مؤسسها ورفاقه عبدالرؤوف جمجوم ومحمد صالح جمجوم ويحيى السالم ومحمد صالح أنور بمهمة نقل الطلاب من وإلى منازلهم في أجواء تعاونية وتكافل اجتماعي، وبعد مدة من الزمن تقدم الحاج محمد بطلب ترخيص للمدرسة وتم له ذلك، الأمر الذي شجعه على إظهار هذا النشاط التعليمي إلى العلن مما زاد من توسع المدارس، وبالتالي زيادة المصاريف التي تجاوزت ميزانية الحاج محمد علي الشخصية، حيث لم تكن تتعدى مصاريفه العشرة جنيهات في البداية وكان يقبضها من والده نظير مساعدته في التجارة، وبعد أن وجد المبنى المناسب ليكون مقرا للمدرسة معروضا للبيع، سارع للبحث عن المال الذي يكفيه لشرائه، ولما علمت زوجته خديجة ابنة عمه عبدالله علي رضا، بادرت إلى بيع مجوهراتها وقدمتها له ليشتري المبنى وكان له ذلك.

محمد علي زينل وبجواره الشيخ عثمان الصالح خلال حفل أقامه
للملك سعود في مومباي

تحول تجاري

بعد أن انتهى من عملية شراء مبنى المدرسة في جدة سافر الحاج محمد علي إلى الهند لتجارة اللؤلؤ، ونجح في هذه التجارة بل إن اسمه بدأ يقارع أسماء كبار التجار حتى لقب بملك اللؤلؤ، وقد عاد هذا النجاح بالخير والازدهار على مشروعه التعليمي، فبدأ بسداد ديونه، وتوسعت مدارسه، وأصبحت تستقبل أعدادا أكبر من الطلاب، وهيأ لها الخدمات والمرافق الخاصة والمكملة لمسيرتها التعليمية ليكبر بعد ذلك مشروعه التعليمي الحلم، فبدأ بفتح الفروع لمدارس الفلاح، وكان أول تلك الفروع في مكة المكرمة، حيث قام بتأسيس مدارس الفلاح بمكة عام 1330هـ، وتوالى افتتاح فروع مدارس الفلاح بفرع عدن، يليه فرع دبي عام 1347هـ، ثم فرع البحرين، ففرع بومباي عام 1350هـ. وابتعث الحاج محمد، أوائل المتخرجين إلى الهند وقدم لهم رواتب مغرية في عام 1348هـ، وقد بدأ ببعثتين من خريجي مدارس الفلاح بجدة ومكة المكرمة إلى بومباي حيث مقر عمله الرئيسي، وكانت إحدى هاتين البعثتين تجارية لدراسة الشئون التجارية عمليا، والأخرى علمية للتخصص في علوم الدين الإسلامي. وقد نظم من المبتعثين مدرسة عليا تحت إشرافه المباشر في بومباي وتعاقد مع كبار العلماء المتخصصين، ومعظمهم من الشام والبلاد العربية والإسلامية الأخرى ليقوموا بتعليم الطلاب وتثقيفهم ثقافة إسلامية وعصرية، وكان يخالط الطلاب، ويتعامل معهم معاملة الأب لأبنائه وكان ينوي أن تتوالى هذه البعثات لولا أن ظروفه المالية التي انتكست بسبب انهيار سوق اللؤلؤ الطبيعي نتيجة ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، وبالتالي تعرض لصعوبات مالية كبيرة، وخسر قرابة %90 من تجارته.

الحفل الذي أقامه محمد علي زينل للملك سعود خلال زيارته إلى مومباي ويظهر في الصورة
أشقاؤه والوفد المرافق للملك سعود ورئيس وزراء الهند

وقفة الملك المؤسس

بعد أن علم الملك عبدالعزيز بتعرض الحاج محمد علي زينل لخسارة كبيرة بسبب انهيار أسواق اللؤلؤ الطبيعي وكساده وقف معه وقفة حازمة، حيث أمر جلالته بفرض رسم جمركي %1 على جميع الطرود الواردة إلى موانئ المملكة، وتكون حصيلة هذا الرسم لصالح مدارس الفلاح، وكانت لفتة إنسانية عظيمة الشأن من الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وتعبيرا بليغا عن اهتمامه بالعلم والتعليم. وعرف ذلك القرار بمشروع قرش الفلاح، إلا أن هذا المشروع لم يكف مصاريف المدرسة، مما جعل البعض بقيادة الشيخ محمد سرور الصبان يجمعون تبرعات سخية من التجار لصالح المدرسة في تلك الفترة.

الشيخ محمد زينل في آخر أيامه وبجواره ابنته
آمنة وزوجها نسيم عام 1969 م
الحفل الذي أقامه لكبار تجار المجوهرات في أوروبا بحضور محمد عبدالله علي رضا أول وزير تجارة في المملكة والشيخ حافظ وهبه سفير المملكة في بريطانيا آنذاك

وفاته

بعد عمر ناهز التسعين عاما توفي عاشق العلم والتعليم الذي أفنى حياته وسخر أمواله في سبيل العلم، وكان ذلك في الثاني من شعبان عام 1389هـ الموافق 13 أكتوبر 1969م إثر إصابته بتصلب حاد في الشريان التاجي بمدينة بومباي بالهند تاركا ثلاث بنات حفصة، آمنة، ومريم. وقد أمر الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ بإرسال طائرة لنقل جثمانه إلى جدة، إلا أنه ـ رحمه الله ـ كان قد أوصى أن يدفن بالمكان الذي يتوفى به، رحمه الله رحمة واسعه وجعل ما قدمه للعلم في ميزان حسناته.

قبر الشيخ محمد زينل في مقبرة عظماء المسلمين في مومباي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.