هناك عدة تساؤلات تدور الآن في وول ستريت عن الركود وسوق العمل والتضخم، الموضوع هو: كيف سيكون أداء الشركات مع معدلات للفائدة عند مستويات %4.5؟ وكيف سيؤثر ذلك على الربحية؟ فهل ستستطيع الشركات أن تعمل عند هذه المعدلات وتولد أرباحًا مستدامة، وكيف ستكون العلاقة مع موظفيها في المرحلة القادمة خصوصًا على صعيد الرواتب؟ هل سيكون هناك تناغم مع صعود التضخم بتخصيص بعض الدعم أو بزيادات خجولة تراعي الأرباح الجديدة؟ ماذا عن المكافآت هل ستتوقف في هذه المرحلة، وبالتالي ينعكس ذلك على طريقة إنفاق المستهلكين والذي سيؤثر بدوره على أرباح الشركات ونعود بذلك إلى المشكلة نفسها؟
من الواضح أن الأولوية في الوقت الحالي هي ترويض التضخم، ويشكل ذلك أولى الاهتمامات من قبل الفيدرالي الأمريكي، والدليل على ذلك تلك التصاريح التي أتت من المسؤولين حول القلق الدائم من ارتفاع التضخم، إذ يكثر الكلام عن احتمال حصول ركود عالمي ومتوقع في العام المقبل حسب كبرى الشركات المالية، ولكن تأثيره سيكون محدودًا.
والسؤال هنا: هل ستتعامل معه الاقتصادات المتقدمة بالطريقة نفسها؟ وما مدى تأثيره على كل دولة؟ وما درجات التحوّط التي اتخذتها الدول الناشئة لذلك؟ خصوصًا مع التحركات الكبيرة التي حصلت على عملات الدول المتقدمة والناشئة، والتي هي ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم وتأثير هذه التحركات على أرقام الناتج المحلي الإجمالي لكافة الدول.
فإذا استعرضنا هذه الدول نرى أن كل دولة منها تواجه تحديات معينة، فالولايات المتحدة الأمريكية والتي تأتي كأكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي يتخطى 25 تريليون دولار، أصبح شغلها الشاغل لاقتصادها حاليًا هو لجم الارتفاع الصاروخي للتضخم، ويعطيه الاحتياطي الفيدرالي كل الاهتمام، ويستعمل كل الأسلحة المتوفرة التي بحوزته من رفع لمعدلات الفائدة، وأحيانًا بطريقة عدائية متغاضيًا عن المخاطر التي يمكن أن تهدِّد الاقتصاد والأسواق المالية.
أما بالنسبة للصين، التي تقترب أكثر فأكثر من الولايات المتحدة الأمريكية على لقب أكبر اقتصاد في العالم فتواجه تحديات داخلية أبرزها الأزمة الحاصلة مع كبرى الشركات العقارية، واحتمال انتشارها إلى القطاع البنكي ومنها إلى الاقتصاد بشكل عام. عدا ذلك فهناك تحديات الاقتصاد العالمي خصوصًا أن الصين هي أكبر دولة في العالم من حيث الصادرات التي تصل إلى 3.3 تريليونات دولار، وبالتالي فإن صحة الاقتصاد العالمي تحت المراقبة الدائمة بالنسبة لها.
نأتي إلى اليابان والتي كان يطلق عليها في السابق ـ ولفترة طويلة ـ لقب ثاني أكبر اقتصاد عالمي، قبل أن يتجمد اقتصادها طوال 30 سنة، تزامن ذلك مع صعود الصين الكبير وانتزاعها المركز الثاني وأكثر من ذلك وصول اقتصادها إلى مستويات تعادل 4 أمثال نظيره الياباني.
فاليابان حاليًا قلقة من الهبوط الكبير في عملتها والمغالاة الكبيرة في هذا الهبوط، رغم أنها ـ في السابق ـ كانت تنزعج من ارتفاع الين، وتتدخل لفظيًا وأحيانًا مباشرة في أسواق العملات، الآن نرى ذلك في سلوك العملة مع الاتجاه الهابط التي تتخذه. لكن في المقابل أيضًا نرى أن الاقتصاد يحقق مكاسب وأهدافا طويلة عجز عنها في السابق، استعملت فيها الحكومة تقريبًا كل ما لديها من أدوات أبرز تلك الأهداف تخطيها المستوى المستهدف للتضخم عند %2 .
وبالنسبة للقارة الأوروبية وعلى رأسها أكبر اقتصاد فيها وهو الاقتصاد الألماني، ولطالما كانت تتردّد مقولة “ألمانيا بخير.. أوروبا بخير”، هي الآن تواجه ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الغاز وتحاول أن تجد حلولاً سريعة لذلك، وبدا واضحًا أن الموضوع يعد من أولويات الدولة.
وبالنسبة لبريطانيا، نجد أن التقلبات العنيفة التي شهدها الجنيه الإسترليني، والتحديات الكبيرة للحكومة لإنعاش الاقتصاد، والتوترات الحاصلة على صعيد الملف الضريبي، عدا عن المناوشات السياسية ـ كل ذلك يؤثر على حالة الاقتصاد في المرحلة المقبلة والذي ما زال يحاول أن يتكيف مع عامل “بريكست” والعلاقة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي.
وفرنسا أيضًا بات شغلها الشاغل هو ارتفاع أسعار الغاز.
أما إيطاليا التي دائمًا ما تنخرط في عمليات انتخابية لا تنتهي ومتغيرات في تحالفات سياسية إضافة إلى الملف الاقتصادي وارتفاع كبير في الديون وصلت فيه نسبة الدين العام الإجمالي من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من %150.
وأخيرًا وفي جولة سريعة على ما حصل من تحركات في عملات الدول المتقدمة، شاهدنا السقوط الحر للجنيه الإسترليني بطريقة فاجأت المتداولين، وأيضًا كانت هناك التراجعات الكبيرة في الأشهر الأخيرة للين الياباني وعملة منطقة اليورو التي سارعت الحرب الأوكرانية في هبوطها.
طبعًا تزامن كل ذلك مع صعود كبير لمؤشر الدولار والذي يشكل مقياسا للعملة الخضراء لسلّة مكوّنة من 6 عملات لديها نسب مختلفة في هذه السلة، وهذه العملات هي عملات 6 شركاء تجاريين مع الولايات المتحدة الأمريكية (ليس من بينها الصين والهند)، وقد تأسس ذلك المؤشر على يد الفيدرالي الأمريكي عام 1973م، وبالتالي من الطبيعي ألا تكون عملة الصين داخل السلة بسبب ضعف تأثير الاقتصاد الصيني والتعاملات التجارية بين أمريكا والصين فترة السبعينات، واليورو يتصدر المشهد مع النسبة الأكبر في السلة ويشكل أكثر من نصف قيمتها.