مـخــــاوف مستقبليـة من أن التقنية الجديدة تشكل تهديدًا لمهنة الطب في المستقبل خاصة مع تزايد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير
يبدو أن تقنيات الذكاء الاصطناعي و“روبوتات” الدردشة لا نهاية لها؛ إذ تتطور بشكل مُذهل وملحوظ في مختلف المجالات، حتى وصولها إلى المجال الطبي وأصبحت بإمكان “الروبوتات” إجراء عمليات جراحية دقيقة، أو تشخيص أمراض بدقة كبيرة، واليوم يعلن عملاق محركات البحث في الإنترنت “جوجل” تطويره لبرنامج جديد عبر الذكاء الاصطناعي، يوفر لمستخدميه طبيبًا افتراضيًا يقدم تشخيصًا طبيًا تصل دقته إلى 92%، وذلك وفقًا لدراسة نُشرت مؤخرًا في مجلة “نيتشر” العلمية.
وبحسب صحيفة “ديلى ميل” البريطانية، ذكر الباحث الرئيسي في الدراسة، فيفيك ناتاراجان، أن الناس حين يرغبون في البحث عن معلومات صحية، فإنهم يجدون آلاف الصفحات، وربما يختارون أسوأ التشخيصات الطبية، لكن البرنامج الذي تطوره الشركة في الوقت الحالي، ويستخدم نظامًا شبيهًا بنظام روبوت الدردشة الشهير “تشات جي بي تي”، سيقدم إجابات تتشابه تمامًا مع أداء الطبيب البشري، وأشار إلى أن التجارب الأولية أثبتت أن “الطبيب الافتراضي” يقدم إجابات مماثلة لإجابات قدّمها 9 أطباء من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والهند، سئلوا 80 سؤالاً، مؤكدًا أن هذه الخدمة لا تمثل أي تهديد لوظائف الأطباء.
انتقادات عدة
وتجري شركة “جوجل” اختبارات في عدد من المستشفيات الأمريكية منها “مايو كلينك”، منذ أبريل 2023م على برنامج الذكاء الاصطناعي “Med-PaLM 2″، وهو نسخة أكثر تطورًا من برامج الدردشة المتخصصة، وسيكون أكثر ملاءمة للمناطق التي قد يكون الوصول فيها إلى الأطباء محدودًا، وأن الأشخاص المشاركين في هذه الاختبارات سيكون لديهم القدرة على التحكم في بياناتهم بشكل يضمن عدم وصول “جوجل” إليها.
وثمة انتقادات عدة لبرنامج “جوجل”؛ إذ قامت لجنة من الأطباء البشريين بتقييم الإجابات الطويلة لـ”طبيب جوجل”، ووجدت أن 62% فقط من الإجابات تتماشى مع الإجماع العلمي، وهي مشكلة واضحة في مرافق الخدمات الصحية، حيث قد تؤدي الإجابة الواحدة الخاطئة إلى وفاة شخص ما، فضلاً عن أن 30% من الإجابات قد تؤدي إلى نتائج ضارة، كما أشارت اللجنة إلى افتقاد روبوتات الدردشة الطبية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي إلى المعايير، ولكن ليست “جوجل” هي الجهة المنوطة بها تحديد هذه المعايير، محُذرة في الوقت ذاته من الاعتماد على قاعدة بيانات محدودة نسبيًا للمعرفة الطبية.
وأضافت اللجنة بأن الوقت الحالي يشهد انتشارًا للروبوتات في المستشفيات وأماكن الرعاية الصحية، وإن كانت تقوم بدور كبير في الأعمال الروتينية، أو التي تتطلب دقة بصورة تجعلها مناسبة بشكل أوسع لبعض المرضى مثل كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، لكن المستقبل سيخبرنا عما إذا كانت ذات أهمية في مساعدة الأطباء وإنقاذ الأرواح، أم أنها ستتسبب في قدر كبير من الضرر في المجال الطبي.
ضرب من الخيال
ومع تزايد الاعتماد على الإنترنت وفترات الانتظار الطويلة في المستشفيات وعيادات الأطباء، أصبحت منصات الدردشة هي قبلة الباحثين عن الاستشارات الطبية السريعة، لكن الطبيبة البريطانية كريستال ويلي المتخصصة في صحة المرأة والصحة الإنجابية ذكرت أن الخطر الحقيقي يكمن في أن الخبراء اكتشفوا أن 22.8% من النصائح المقدمة عبر هذه المنصات كانت “ضارة” وقد تقود إلى مسارات خاطئة، خاصة فيما يتعلق بحالات تشمل سرطان المبيض والحمل خارج الرحم والعدوى بفيروس نقص المناعة، قائلة: على الرغم من أن النصائح الطبية التي يقدمها لنا الذكاء الاصطناعي قد تبدو أكثر فائدة من عدمها، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بصحتنا، فمن المهم عدم المخاطرة، مهما بدت صغيرة، وأضافت: حتى لو كان لديك ضيق في الوقت أو تشعر بالتوتر عند التحدث عن مواضيع ذات حساسية مثل “الصحة العقلية ووزن الجسم والأمراض المنقولة جنسياً”، فلا شيء يحل محل التحدث إلى أخصائي طبي مُدرب.
وعلى الرغم من اعتقاد فريق من الأطباء بأن دقة المعلومات الطبية التي يقدمها “طبيب جوجل” تشهد تحسنًا كبيرًا، لا تزال هناك العديد من الأسئلة حول كيفية دمج هذه التكنولوجيا الجديدة في أنظمة الرعاية الصحية مع الضمانات نفسها المطبقة تاريخيًا على إدخال أدوية أو أجهزة طبية جديدة، خاصة أن عملية الدمج ليست سهلة وقد تحتاج إلى سنوات.
وفي ذات السياق، يؤكد الأطباء بأن مهنة الطب لها خصوصية، غير المهن الأُخرى التي قد تفيد فيها أعمال البرمجة والخوارزميات في تطور برامج ذكاء اصطناعي تكون مفيدة بشكل كبير، حيث إن الطب ليس فقط جمع لمعلومات طبية وتشخيص الأمراض بطريقة آلية، لكنها معرفة ودراسة علمية، ثم تجارب وخبرات متراكمة في تخصص معين، تمكن الطبيب من التشخيص المناسب، ومن ثم فإن وجود طبيب (افتراضي) يستطيع تشخيص كافة الأمراض هو ضرب من الخيال، واستهتار بصحة المرضى.
مستشفى “صحة الافتراضي”
ويمكن القول بأن “طبيب جوجل”، يتماشى مع خطوات جادة اتخذتها العديد من الدول نحو الاعتماد على التقنيات الحديثة في تقديم الخدمات الصحية عن بُعد، والاتجاه المتنامي نحو طلب المشورة الطبية بصورة افتراضية.
فقد أطلقت المملكة مستشفى “صحة الافتراضي” منذ أكثر من عام، حيث يعد أكبر مستشفى من نوعه في العالم، والأول على مستوى الشرق الأوسط، وفقًا لأحدث المعايير الطببية العالمية، حيث يقدم خدمات صحية عن بُعد، لأكثر من 30 مستشفى في كافة مناطق المملكة، من خلال أكثر من 30 خدمة طبية تخصصية بطاقة استيعابية تقدر بنحو 400 ألف مستفيد سنويًا، ونظرًا لتطبيقه أعلى معايير سلامة المرضى والجودة، فقد حصل مؤخرًا على أعلى درجات الاعتماد الدولي الكندي للفئة الماسية.
وكانت رؤية المملكة 2030م قد أولت اهتمامًا كبيرًا لبرنامج التحوّل في القطاع الصحي، الذي يشهد تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، سواء من ناحية الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية وبناء المستشفيات والمدن الطبية، أو من ناحية توفير أحدث الأجهزة والمعدات، وتطبيق أعلى معايير الجودة العالمية في الخدمات المقدمة للمرضى، والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة، وهو ما يجعلها مؤهلة لتكون الواجهة الأولى للسياحة العلاجية في الخليج العربي والشرق الأوسط.
التشخيص الخاطئ
ويتجه على المستوى العالمي المزيد من الأشخاص بشكل ملحوظ إلى الحصول على استشارات طبية من خلال برامج الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا أثناء جائحة كورونا؛ ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، كشف استطلاع حديث للرأي عن أن 1 من كل 10 بالغين حصلوا على المشورة الطبية من خلال هذه البرامج، أي حوالي 2.3 مليون شخص، وأن الرجال (15%) أكثر استخدامًا مقارنة بالنساء 12%، وأن 50% من المشاركين أكدوا أن الطبيب ليس الخيار الأول عندما يريدون طلب المشورة، وقال 78.3% أن محرّك البحث “جوجل” هو الأداة الأكثر فائدة عبر الإنترنت للحصول على معلومات طبية مفيدة، و82% من الأشخاص الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي للحصول على المشورة الطبية أكدوا أنهم وجدوا المعلومات التي تم تزويدهم بها مفيدة.
وحين يتم الحديث عن الذكاء الاصطناعي، أول مسألة تتبادر على الذهن، هي الاستغناء عن البشر، لكن المسؤولين في عملاق البحث، أكدوا على عدم حدوث ذلك، وأن ما يثار حول هذه القضية ليس له علاقة بالواقع، وذكرت كبير مسؤولي الصحة في “جوجل”، الدكتورة كارين ديسالفو أن وصول الذكاء الاصطناعي إلى مجال الرعاية الصحية يعني أنه يمكن للجميع في يوم من الأيام أن يكون لديهم طبيب في جيوبهم، لكنها أكدت على ضرورة توخي الحذر بشأن ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي وما هي حدوده، قائلة: ستكون هناك فرصة للناس للحصول على خدمات أفضل، وخدمات عالية الجودة، وأن هذه البرامج الآلية ستكون بمثابة أداة في صندوق الأدوات للأطباء، ويمكن أن تساعدهم في حل المشكلات المتعلقة بنقص القوى العاملة وتحسين جودة الرعاية المقدمة للأشخاص، وأن هذا من شأنه أن يسد الفجوات التي تعاني منها بعض الأنظمة الصحية بدلاً من أن يحل محل الأطباء أنفسهم، مؤكدةً أنه لا يمكن الاعتماد بشكل كلي على التقنيات المتطورة في تشخيص وعلاج المرضى، مشيرةً إلى أنه قد تكون هناك مخاوف بشأن احتمال التشخيص الخاطئ أو التعرض لما يطلق عليه “هلوسة الذكاء الاصطناعي”.
وعلى الرغم من رسائل الطمأنة من جانب مسؤولي “جوجل”، ثمة مخاوف من أن التقنية الجديدة تشكل تهديدًا لمهنة الطب في المستقبل، خاصة مع تزايد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، التي أصبحت تنافس الإنسان في مختلف التخصصات، لدرجة أن دراسات عدة أشارت إلى أنه بحلول عام 2040م ستحل الروبوتات محل 60% من وظائف البشر.