بعد استخدامها لأكثر من 100 عام، يبدو واضحًا أن الطبيعة التقليدية لمحطات الطاقة، حيث المداخن الشاهقة ووحدات التخزين الضخمة وتوربينات التوليد الصاخبة، قد تتغير في المستقبل القريب، وستبدو المحطات التي تزود مستقبلنا بالطاقة مختلفة جذريًا، وقد لا يكون للعديد منها شكل مادي على الإطلاق، مما يُبشر بعصرٍ جديد تغزوه محطات الطاقة الافتراضية.
التوازن بين العرض والطلب
وذكر مختصون أن محطة الطاقة الافتراضية، هي عبارة عن نظام من موارد الطاقة الموزعة، مثل الألواح الشمسية على الأسطح، وشواحن المركبات الكهربائية، وسخانات المياه الذكية، التي تعمل معًا لتحقيق التوازن بين العرض والطلب على مصادر الطاقة وبنطاق أوسع.
وأوضح مدير هندسة أنظمة الطاقة في جامعة ليهاي الأمريكية، “رودي شانكار”، أن هذه المحطات هي وسيلة “لربط” مجموعة من الموارد، والتي يمكن أن تساعد الشبكة على الاستجابة للطلب المرتفع على الطاقة مع تقليل البصمة الكربونية لنظام الطاقة، مشيرًا إلى أن الطبيعة “الافتراضية” لمحطات الطاقة تأتي من افتقارها إلى منشأة مادية مركزية، مثل محطات الفحم أو الغاز التقليدية، من خلال توليد الكهرباء وموازنة الأحمال، حيث توفر البطاريات المجمعة والألواح الشمسية عديدًا من وظائف محطات الطاقة التقليدية.
من جانبه، لفت مدير معهد “روكي ماونتن”، وهي مؤسسة بحثية معنية بالاستخدام المستدام للموارد، “كيفن بريهم”، لفت النظر إلى أن محطات الطاقة الافتراضية “تفعل أشياء معينة بشكلٍ مختلف وبالتالي يمكنها تقديم خدمات لا تستطيع محطات الطاقة التقليدية تقديمها”، مبينًا أن أحد الفروق المهمة هو قدرة محطات الطاقة الموزعة على تشكيل استخدام المستهلكين للطاقة في الوقت الفعلي، فعلى عكس محطات الطاقة التقليدية، يمكن لمحطات الطاقة الافتراضية التواصل مع موارد الطاقة الموزعة والسماح لمشغلي الشبكة بالتحكم في الطلب من المستخدمين النهائيين.
فعلى سبيل المثال، يمكن لـ “ثرموستات” ذكية مرتبطة بوحدات تكييف الهواء ضبط درجات حرارة المنازل وإدارة كمية الكهرباء التي تستهلكها الوحدات، وفي أيام الصيف الحارة، يمكن لهذه “الثرموستات” تبريد المنازل مسبقًا قبل ساعات الذروة، عندما ترتفع معدلات استخدام تكييف الهواء، ويمكن أن تساعد أوقات التبريد المتقطعة في منع ارتفاع الطلب المفاجئ الذي قد يغمر الشبكة ويتسبب في انقطاع التيار الكهربائي، وعلى نحو مماثل، يمكن لشواحن المركبات الكهربائية التكيف مع متطلبات الشبكة إما عن طريق توفير الكهرباء أو استخدامها.

مرحلة الانتشار الواسع
ففي الولايات المتحدة، مثلًا، قدرت وزارة الطاقة، سعة محطات الطاقة الافتراضية بحوالي 30 – 60 جيجاوات، وهذا يمثل حوالي 4 – %8 من ذروة الطلب على الكهرباء، وأشارت إلى أن نشر 80 إلى 160 جيجاوات من محطات الطاقة الافتراضية بحلول عام 2030م، يمكن أن يوفر حوالي 10 مليارات دولار من تكاليف الشبكة السنوية.
ويسعى العديد من الولايات وشركات المرافق إلى إضافة مزيد من هذه المحطات، ففي ولاية كولورادو، تعمل شركة “إكسيل إنرجي”، على تطوير مشروع تجريبي لمحطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية، يعمل بكامل طاقته بحلول الصيف المقبل، وفي تكساس، أعلنت شركتا “رينيو هوم” و”إن آر جي إنرجي”، عن إنشاء أكبر محطة طاقة افتراضية في الولاية بقدرة تصل إلى 1 جيجاوات، من خلال استخدام وربط مئات الآلاف من الألواح الشمسية والبطاريات والمركبات الكهربائية.
وفي أوروبا، تسهم بعض محطات الطاقة الافتراضية مثل “ستاتكرافت” بقدرة محطات طاقة تقليدية متعددة، حيث تدير الشركة أكبر محطة طاقة افتراضية في القارة، ولديها أكثر من 10 جيجاوات من الطاقة المركبة من أكثر من 1000 مولد طاقة من الطاقات المتجددة، وهذا يعادل 10 محطات طاقة حرارية يمكنها إمداد مدينة كبيرة بالطاقة.
وتسمح “ستاتكرافت” لمحطات الطاقة الموزعة المتصلة بالعمل معًا كمحطة طاقة واحدة وافتراضية من خلال نظام تحكم مركزي يمكن استخدامه لتزويد الشبكة الأوسع بالطاقة بشكل موثوق، حيث يستطيع النظام المركزي الاتصال مباشرة بالمستهلكين الصغار والكبار مثل الشركات الصناعية.

تنظيم ذكي للطاقة
وفي الصين، وتحديدًا في منطقة “نينغشيا”، تم إطلاق منصة للتحكم في محطات الطاقة الافتراضية في سبتمبر 2023م، وتدير حاليًا 5 محطات، بطاقة تصل إلى 600 ميجاوات (تعادل 3 محطات طاقة حرارية)، باستثمارات تصل إلى 1.2 مليار دولار، تسهم في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 8.3 مليون طن متري.
وأوضح نائب مدير شركة “جوجين كيمكال”، “يو شينغ يوان”، أن محطة الطاقة الافتراضية التي تديرها شركته، تعمل كإطار تنظيمي ذكي للطاقة، يجمع بين مستخدمي الكهرباء المختلفين ومصادر الطاقة الموزعة ومقدمي خدمات تخزين الطاقة، بشكل يتيح للمستخدمين تغيير سلوك استهلاكهم للكهرباء طواعية من خلال الحوافز السوقية”، مضيفًا: “المشاركة في مثل هذه المحطات الافتراضية يمكن أن تساعد في الحصول على المكافآت والتحول إلى مزيد من الطاقة الخضراء، وهي نتيجة مربحة للجانبين اقتصاديًا وبيئيًا”.
ويشارك عدد متزايد من الأشخاص في محطات الطاقة الافتراضية، فعلى سبيل المثال، يميل العديد من أصحاب المركبات التي تعمل بالطاقة الجديدة إلى شحن سياراتهم ليلاً، مما قد يتسبب في زيادة فورية في أحمال الكهرباء، وتقدم محطات الطاقة الافتراضية خصومات للمالكين الذين يقومون بالشحن في أوقات مختلفة أو يستخدمون جهدًا أقل مع وقت شحن أطول، وبالتالي موازنة العرض والطلب على الطاقة، وفقًا لـ “وانج فانج”، مدير إحدى محطات الطاقة.

مستقبل متزايد من الاستثمارات
وفي السياق نفسه، ذكر مدير تطوير البرمجيات في شركة “إي جي فور إلكترونكس” الأمريكية، “جاراف شاه”، أن شبكة الكهرباء الحالية تعمل مثل نظام الطرق السريعة، حيث تولد محطات الطاقة المركزية الكبيرة الكهرباء التي يتم نقلها بعد ذلك لمسافات طويلة إلى المستهلكين النهائيين، لقد تم استخدام هذا النموذج لعقود من الزمان، ولكنه يعاني من قيود كبيرة، حيث يؤدي النقل لمسافات طويلة إلى خسائر في الطاقة، كما أن الشبكة معرضة لانقطاع التيار، لكن ظهرت محطات الطاقة الافتراضية لتحل هذه المشكلات، مشيرًا إلى أن العالم يقف على شفا عصر جديد في مجال الطاقة، يتميز بالاستقلال والشمول والمرونة، ومن خلال تجاوز قيود الشبكة التقليدية واحتضان إمكانات تكنولوجيات الطاقة الذكية الموزعة، يمكننا خلق مستقبل تتزايد فيه الاستثمارات في هذا القطاع الذكي، دون الحاجة إلى حلول معقدة للغاية أو كثيفة الاستهلاك للطاقة.
وثمة توقعات دولية بتحقيق سوق محطات الطاقة الافتراضية معدل نمو سنوي قوي يصل إلى حوالي %26 عالميًا، خلال السنوات العشر المقبلة، من 2.6 مليار دولار في عام 2024م إلى 20.7 مليار دولار بحلول عام 2034م، مدفوعًا بتزايد الطلب على أنظمة طاقة أكثر قدرة على التكيف والمرونة، وزيادة الاستثمارات في تطوير وسائل التكنولوجيا المتقدمة في الشبكات الذكية والاستخدام المتزايد لمصادر الطاقة المتجددة.
فرص واعدة عالميًا
ومع الهدف العالمي المتمثل في انبعاثات كربونية صفرية، يركز قطاع الطاقة الكهربائية عالميًا على بناء شبكة جديدة تعتمد في المقام الأول على الطاقة المتجددة، وهو ما سيوفر فرصًا استثمارية واعدة في كافة دول العالم، فالطبيعة المتقطعة للطاقة المتجددة، واعتماد قطاعات على الكهرباء بشكل كامل (مثل النقل)، يبرز الحاجة إلى أنظمة طاقة عالمية أكثر مرونة، تتيح فرصة استغلال كافة الموارد وتشجع المستخدمين النهائيين على المشاركة في قطاع المحطات الافتراضية، التي ظهرت كحل واعد في جميع أنحاء العالم لتجميع الموارد ذات القدرة المحدودة من جانب الطلب ككيان افتراضي كبير قادر على توفير مجموعة متنوعة من خدمات الشبكة.
وأوضح الخبير والناشط الأمريكي في مجال الاستدامة، “ستيف هانلي”، أن مفتاح التحول الأخضر هو كهربة كل شيء، وخاصة النقل والتصنيع وتدفئة وتبريد المباني، مما يستلزم استخدام استراتيجيات تجعل الكهرباء المتاحة لدينا تعمل بكفاءة أكبر، بحيث يمكن لمرافق إمداد الطاقة أن توفر مليارات الدولارات من خلال استخدام محطات الطاقة الافتراضية لإدارة أنظمة الطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية والأجهزة الكهربائية لعملائها، وبدلاً من إنشاء محطات توليد الطاقة وشبكات التوزيع التقليدية باهظة التكلفة، يمكن للمحطات الافتراضية أن تشجع حتى صغار العملاء على أن يكونوا منتجين للطاقة من خلال تركيب ألواح الطاقة الشمسية فوق منازلهم، ويقومون ببيع الفائض منها إلى الشبكة.
ويمكن القول إن العائد على الاستثمار في المحطات الافتراضية سيكون أكبر مع تزايد الاعتماد عليها خلال المستقبل القريب، خاصة مع الارتفاع الكبير في تكاليف الحصول على الطاقة خلال السنوات الماضية، فمن المتوقع أن ينمو الاستثمار في مجال الحلول المرنة المدعومة بالبرمجيات في مجال الطاقة، بمقدار 3 أضعاف، ليتجاوز 30 مليار دولار عام 2025م، وهذا يضع نمو تمويل البرمجيات على قدم المساواة مع التكنولوجيا المالية قبل بضع سنوات، ويضعها في مكانة كبيرة، باعتباره القطاع “المخفي” الأكثر سخونة في السوق اليوم، وفقًا لمحلل الخدمات المصرفية الاستثمارية في بنك “دي إيه آي ماجيستر”، “أوليفر وارن”.