اقتصاديات الفوسفات

الثروة البيضاء.. استثمار المستقبل

قفز حجم خام الفوسفات المستغل بنسبة %199 خلال أقل من عقد، مرتفعًا من 1.9 مليون طن في عام 2014م إلى أكثر من 5.7 مليون طن.

يبلغ احتياطي المملكة من الفوسفات نحو 2.7 مليار طن متري، وتحتضن منطقة الحدود الشمالية نحو %7 من المخزون العالمي.

تهدف المملكة إلى أن تكون ثاني أكبر منتج للفوسفات في العالم بنهاية العام الجاري، برفع الطاقة الإنتاجية إلى 9 ملايين طن سنويًا.

 

في عمق صحراء المملكة، حيث تمتد الرمال والتكوينات الصخرية بلا نهاية، يُستخرج “الذهب الأبيض” — الفوسفات — من باطن الأرض ليكون أحد أعمدة مستقبل الاقتصاد الوطني. ولم يعد الحديث عن الفوسفات مجرد نقاش تقني بين خبراء التعدين، بل أصبح جزءًا من حراك استراتيجي ضخم تسعى المملكة من خلاله إلى تنويع مصادر دخلها وتعزيز مكانتها العالمية في قطاع التعدين.

وتحتل المملكة حاليًا مرتبة متقدمة في إنتاج الفوسفات، مدفوعةً بسلسلة من المشاريع الطموحة والخطط الاستثمارية التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى ثاني أكبر منتج للفوسفات في العالم بنهاية العام الجاري، وتُقدر الخطة برفع الطاقة الإنتاجية إلى 9 ملايين طن سنويًا، عبر مشروعات ضخمة تشمل “فوسفات 1″ و”فوسفات 2” — بإجمالي إنتاج 6 ملايين طن — بالإضافة إلى مشروع “فوسفات 3” الذي يمثل خطوة توسعية جديدة في هذا القطاع.

ويُعد الفوسفات مكونًا أساسيًا في برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، أحد برامج رؤية 2030، والذي يركز على تقليل الاعتماد على النفط من خلال دعم قطاعات اقتصادية بديلة كالتعدين والخدمات اللوجستية. وفي هذا السياق، يعزز قطاع الفوسفات موقعه كرافد استراتيجي يدعم جهود الاكتفاء الذاتي والتوسع في التصدير.

وعد الشمال أكبر منشأة صناعية

ويعود اكتشاف الفوسفات إلى عام 1983م، وتحديدًا في موقع حزم الجلاميد، الذي يبعد نحو 148 كيلومترًا عن محافظة طريف، بالإضافة إلى موقعي أم وعال والخبراء. ومع ذلك، بقي استخدام الفوسفات لسنوات طويلة مقتصرًا على تغطية الاحتياجات المحلية في صناعة الأسمدة.

لكن نقطة التحول الكبرى جاءت عام 2017م مع تدشين مدينة وعد الشمال الصناعية، أكبر منشأة متكاملة لاستخراج وإنتاج الفوسفات في المملكة، والتي أُنشئت على مساحة 440 كم² غرب طريف، وبالقرب من مواقع التعدين. وفي العام ذاته، تم تصدير أول شحنة فوسفات، فاتحةً الباب أمام مرحلة جديدة من التوسع الدولي.

اليوم، تُصدّر المملكة الفوسفات إلى أكثر من 16 دولة حول العالم، من بينها الهند، بنجلاديش، البرازيل، أستراليا، وعدد من دول شرق أفريقيا. وتشير بيانات هيئة تنمية الصادرات السعودية إلى أن أكثر من نصف صادرات المملكة من أسمدة الفوسفات تتجه إلى الهند، التي تُعد واحدة من أكبر الدول الزراعية عالميًا.

قوة صاعدة في مجال التعدين عالميًا

علميًا، يُستخرج الفوسفات من صخور رسوبية تكونت قبل ملايين السنين بفعل تراكم المواد العضوية في قاع المحيطات. ويُستخدم بشكل رئيس في تصنيع الأسمدة الزراعية، حيث يعزز خصوبة التربة وجودة المحاصيل. كما يدخل في صناعات متعددة مثل المواد الكيميائية والمنظفات.

بهذا التوسع الاستراتيجي، لا تكتفي المملكة بتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة، بل تُرسّخ موقعها كقوة صاعدة في مجال التعدين عالميًا، وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية الصناعية والتصديرية وفق رؤية مستقبلية واضحة.

وتعكس الطفرة الإنتاجية الهائلة في قطاع الفوسفات حجم التحول الاستراتيجي الذي تقوده المملكة في إطار رؤية 2030 فمن خلال مشروعات المدن الصناعية الكبرى مثل وعد الشمال ورأس الخير، قفز حجم خام الفوسفات المستغل بنسبة %199 خلال أقل من عقد، مرتفعًا من 1.9 مليون طن في عام 2014م إلى أكثر من 5.7 مليون طن مؤخرًا، بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء.

ثاني أكبر مصدّر لأسمدة الفوسفات عالميًا

تنتج المملكة سنويًّا نحو ثلاثة ملايين طن من خام الفوسفات ومنتجاته، كما يبلغ احتياطيها من خام الفوسفات نحو 2.7 مليار طن متري، وتحتضن منطقة الحدود الشمالية نحو %7 من المخزون العالمي من الفوسفات في محافظة طريف وتحديدًا في مدينة وعد الشمال.

ويتولى قيادة هذا القطاع شركة معادن، عملاق التعدين السعودي، التي باتت اليوم ثاني أكبر مصدّر لأسمدة الفوسفات عالميًا. وتشمل باقة منتجاتها الأساسية ثنائي فوسفات الأمونيوم، أحادي فوسفات الأمونيوم، الأمونيا، حمض الكبريتيك، وحمض الفسفوريك، إلى جانب الأسمدة المركبة. وتعمل معادن عبر شركاتها التابعة، مثل شركة معادن للفوسفات (MPC) بالشراكة مع “سابك”، وشركة معادن وعد الشمال للفوسفات (MWSPC) بالشراكة مع “سابك” و”موزاييك” الأمريكية، في نحو 50 موقعًا مكتشفًا للفوسفات داخل المملكة.

ويُعد مشروع وعد الشمال من أبرز النماذج التنموية، إذ يمتد على مساحة 440 كم² ويحتضن واحدة من أكبر منشآت الفوسفات في العالم، بما يشمل مصانع للأمونيا، وحامضي الفسفوريك والكبريتيك، ومرافق لوجستية متكاملة تدعم عمليات النقل والتصدير عبر قطار التعدين إلى ميناء رأس الخير على الخليج العربي.

استثمارات تتجاوز 220 مليار ريال

وكشفت وزارة الصناعة والثروة المعدنية عن خطط لرفع إجمالي الاستثمارات في صناعة الفوسفات إلى 220 مليار ريال خلال السنوات العشر المقبلة. وأعلن نائب وزير الصناعة، خالد المديفر، أن المملكة استثمرت حتى الآن أكثر من 120 مليار ريال في هذا القطاع، كما يجري تطوير مشروع “فوسفات 3” بقيمة 30 مليار ريال، في شراكة بين القطاعين العام والخاص.

تعكس هذه الخطط طموحًا واقعيًا أكده وزير الاستثمار، خالد الفالح، مشيرًا إلى مشروع ضخم جديد بقيمة 33 مليار ريال سيضاعف الطاقة الإنتاجية ويدفع المملكة لتكون ثالث أكبر منتج للفوسفات عالميًا. ويستهدف المشروع إنتاج ليس فقط الأسمدة، بل منتجات كيميائية متقدمة، ما يعزز القيمة المضافة ويرفع من تنافسية المنتج السعودي عالميًا.

 

أصوات من داخل القطاع

وفي حديثه لمجلة “الاقتصاد”، أكد رجل الأعمال والمتخصص في صناعة التعدين، ناصر بن مران بن قويد، أن المملكة حققت قفزات نوعية في هذا المجال بفضل الاستثمار في البنية التحتية والتقنيات الحديثة، مضيفًا: “الطموح واضح وهو الوصول لمركز عالمي في تصدير الفوسفات.. ومع استمرار التوسع والتنوع في المنتجات، وتحديث طرق الإنتاج، ودعم البحث والاستكشاف، سنشهد خلق فرص استثمارية ضخمة داخل المملكة وخارجها”. ولفت بن قويد إلى أن المناطق الشمالية، رغم أنها تحتضن معظم المخزون، ليست النهاية، مشيرًا إلى إمكانية توسع الصناعة إلى مناطق أخرى إذا توفرت الموارد والتقنيات المناسبة، مؤكدًا أهمية الاستغلال المستدام للموارد بما يضمن التوازن بين البيئة والعائد الاقتصادي، وأن صناعة الفوسفات في المملكة تمثل فرصة ذهبية للنمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل، والمملكة تسير في الطريق الصحيح لبناء قطاع قوي ومستدام يسهم بفعالية في مستقبل الاقتصاد الوطني.

 

أداء مالي قوي يعزز ثقة المستثمرين

وفي إشارة إلى الأثر الاقتصادي المباشر للطفرة الفوسفاتية، أعلنت شركة معادن عن نتائج مالية قوية في الربع الثاني من عام 2025م، إذ ارتفعت إيراداتها بنسبة %31 لتصل إلى 9.4 مليار ريال، مدفوعة بزيادة أسعار ومبيعات الفوسفات والذهب. وشكَّل الفوسفات %56 من إجمالي الإيرادات التشغيلية، مقارنة بـ %16 فقط للذهب، ما يبرز أهمية هذا القطاع كمحرك رئيسي للنمو.

ودفع ارتفاع الأسعار والمبيعات بقفز صافي الربح بنسبة %88 ليصل إلى 1.92 مليار ريال، وهو الأعلى منذ نحو ثلاث سنوات، في ظل تحسن ظروف السوق العالمية، واستمرار القيود الصينية على صادرات الفوسفات، مما أسهم في تعزيز الطلب على المنتج السعودي. كذلك، حققت الشركة أعلى إجمالي خلال الفترة نفسها (11 فصلاً) على الرغم من ارتفاع تكاليف الإيرادات نتيجة ارتفاع الكميات المبيعة، وتتوقع الشركة زخم في إنتاج الفوسفات خلال العام الجاري ليتراوح بين 5.9 و6.2 ألف كيلو طن متري من ثنائي فوسفات الأمونيوم.

وتحسنت ظروف سوق ثنائي فوسفات الأمونيوم مدعومة بثبات الطلب من الأسواق الرئيسية وشح المعروض العالمي بسبب القيود الصينية على الصادرات، وهي أمور تساعد على تحقيق الطموح بشكل أسرع.

 

الفوسفات كأداة جيوسياسية وتنموية

ومن جانبه، يرى الخبير الاقتصادي، ناصر القرعاوي، أن الفوسفات سيكون له دور محوري في تعزيز الأمن الغذائي لدول العالم من خلال صادرات المملكة، خاصة مع تركيز السعودية على دعم برامج زراعية دولية بأكثر من 20 مليار ريال، واستهداف أسواق مثل: الهند، بنغلاديش، وإفريقيا.

ويقول القرعاوي: “إن المملكة تمضي بخطى مدروسة لتكون ضمن أهم ثلاث دول في العالم في مجال الفوسفات، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وارتباط مكامن الفوسفات بشبكة لوجستية قوية تقودها سكة حديدية تربط الشمال بميناء رأس الخير”.

وأشار إلى أن المملكة ركزت على عدة قطاعات في وقت واحد، خاصة في المخزون الاستراتيجي من الثروات غير المكتشفة حتى الآن، مثل الفوسفات والغاز الطبيعي، الهدف أن تكون السعودية من أهم ثلاث دول في لعالم في هذا المجال، وتمتلك المملكة مخزون هائل جدًا من الفوسفات، وفي منطقة تُعدُّ من أهم مناطق التوزيع في العالم، ولذلك أوجدت سكة قطار خاصة لتصدير الفوسفات، في ميناء رأس الخير الذي يربط الشمال بالخليج العربي، هذا بالتزامن مع زيادة انتاج الغاز الطبيعي، فهاتين الصناعتين مكملتان لبعضهما البعض، وسينعكس ذلك بشكل كبير على الاقتصاد الوطني مستقبلاً، ويضيف: “هناك توجه كبير في استهداف الدول الخارجية، للاستفادة منها في البرامج الزراعية وتم تخصيص أكثر من عشرين مليارًا لذلك، وسيكون للفوسفات دور مهم في ذلك، لأنه من أهم العناصر الزراعية”.

 

الفوسفات وقود التحول الاقتصادي

ما تشهده المملكة في قطاع الفوسفات ليس مجرد توسع صناعي، بل تحوّل استراتيجي يعزز الأمن الغذائي العالمي، ويخلق فرصًا استثمارية داخلية وخارجية، ويُسهم في تنويع مصادر الدخل الوطني. ومع استثمارات تتجاوز 200 مليار ريال، وشبكة لوجستية متقدمة، وإرادة سياسية واضحة، تمضي السعودية نحو تحقيق هدفها في أن تصبح ثاني أكبر مصدر للفوسفات عالميًا، لتضع “الذهب الأبيض” في قلب التحول الاقتصادي القادم.