لم يكن “جيسون”، السائح القادم من كندا، يتوقع أن رحلته إلى السعودية ستكون واحدة من أكثر تجاربه ثراءً وتنوعًا. جاء في البداية بدافع الفضول، بعد أن سمع عن فعاليات عالمية تُقام في الرياض، لكن ما وجده كان أكبر من مجرد حفلات أو سباقات سيارات. تجوّل بين أطلال العلا العتيقة، وركب قاربًا على شواطئ البحر الأحمر الفيروزية، ثم قضى ليلته في منتجع ذكي بُني وسط الصحراء مستعينًا بتقنيات مستدامة من المستقبل.
قال: على إحدى مواقع السفر: “لم أكن أعلم أن هناك جانبًا آخر من السعودية.. إنها وجهة تستحق أن تُكتشف من جديد”.
ما قاله “جيسون” لم يكن استثناءً، بل أصبح نمطًا يتكرر في تعليقات آلاف الزوار من حول العالم، الذين اكتشفوا وجهًا جديدًا للمملكة، لا يرتبط فقط بالحج والعمرة، بل يمتد إلى الترفيه العالمي، الفعاليات الكبرى، والتجارب السياحية غير التقليدية..
ففي سنوات قليلة، غيّرت المملكة موقعها على خارطة السفر الترفيهي العالمي، وانتقلت وفقًا لتقارير المنظمات الدولية من خانة “الوجهة غير المتوقعة” إلى قائمة “أهم 20 وجهة في إنفاق السياح الدوليين”.
هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ. بل هو ثمرة عمل دؤوب واستراتيجية دقيقة، دفعت بعجلة السياحة نحو آفاق جديدة، رفعت من إسهاماتها في الاقتصاد الوطني، واستقطبت استثمارات دولية، ووضعت اسم المملكة في الصفوف الأولى ضمن مؤشرات السفر العالمي، فما الذي حدث خلال هذه السنوات القليلة؟ وكيف قفزت المملكة من خانة “الوجهة التقليدية” إلى دولة تستقبل أكثر من 100 مليون سائح سنويًا؟
نمو غير مسبوق
ففي غضون سنوات قليلة، قلبت المملكة موازين خارطة السياحة العالمية، منتقلة من دولة تُعرف بسياحتها الدينية إلى واحدة من أسرع الوجهات نموًا في قطاع السفر الترفيهي. فقد نجحت المملكة في تحقيق قفزات غير مسبوقة، جعلتها تحتل مراكز متقدمة في مؤشرات السياحة العالمية، وتستقطب ملايين الزوار الباحثين عن الترفيه، الثقافة، والتجارب الفريدة.
فقبل عقدٍ من الزمان، لم يكن عدد الرحلات السياحية يتجاوز 14 مليونًا خلال موسم الصيف، إلا أن هذا الرقم تضاعف بشكل كبير ليصل عدد الزوار في عام 2024م إلى أكثر من 108 ملايين سائح، بمعدل نمو فاق %100 في أقل من خمس سنوات، وفقًا لبيانات وزارة السياحة السعودية.
وتُظهر الأرقام أن إيرادات السياحة قفزت من 19 مليار ريال إلى 168 مليار ريال خلال الفترة نفسها، جاءت العمرة في الصدارة بإيرادات تجاوزت 68 مليار ريال، تلتها السياحة الترفيهية بـ 36 مليارًا، فيما سجل الحجاج إنفاقًا تجاوز 25 مليار ريال.
مكانة عالمية متقدمة
لم يعد حضور المملكة على خارطة السفر الترفيهي أمرًا محل نقاش؛ ففي نوفمبر الماضي، تقدمت المملكة نحو 15 مركزًا دفعة واحدة في قائمة إنفاق السياح الدوليين، لتحل في المرتبة الثانية عشرة عالميًا. كما جاءت ثالثة عالميًا في نمو عدد السياح الدوليين خلال الربع الأول من عام 2025م مقارنة بـ 2019م، والثانية على مستوى الشرق الأوسط.
أما ضمن مجموعة العشرين، فقد تصدّرت المملكة القائمة من حيث نسبة الزوار الدوليين بـ %73، ونسبة نمو الإيرادات السياحية الدولية بـ %207، بحسب تقرير منظمة السياحة العالمية (UNWTO).

رؤية 2030 والقطاع السياحي
ويرى نائب رئيس لجنة السياحة في غرفة الرياض سابقًا، “محمد المعجل”، أن ما تحقق لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة استراتيجية مدروسة ضمن رؤية 2030، التي وضعت السياحة كأحد أعمدتها الرئيسة.
ويوضح المعجل في حديثه، أنه قبل الرؤية كانت مساهمة السياحة في الناتج المحلي لا تتجاوز %3، واليوم وصلت إلى %4.8، والهدف هو بلوغ %10 بحلول 2030م.
ويشير إلى أن المملكة تجاوزت المستهدف من عدد السياح قبل الموعد المحدد، حيث كان الهدف جذب 100 مليون سائح بحلول 2030م، بينما تم استقبال 108 ملايين في عام 2024م مما دفع إلى رفع الهدف الجديد إلى 150 مليون سائح.
مواسم سياحية واستثمارات ضخمة
أسهمت المواسم السياحية المتنوعة، مثل موسم الرياض، موسم جدة، ومهرجانات الدرعية، في ترسيخ صورة المملكة كوجهة ترفيهية عصرية، إضافة إلى استضافة فعاليات عالمية مثل الفورمولا (1)، بطولة التنس العالمية، والسوبر الإسباني.
كما لعبت المشروعات الضخمة، مثل: القدية، العلا، البحر الأحمر، ونيوم، دورًا كبيرًا في تعزيز البنية التحتية السياحية، إذ تم ضخ مليارات الريالات لتطوير النقل الجوي والبري، وتوسيع الطاقة الفندقية، وتقديم تجارب عالمية المستوى.
دور القطاع الخاص
القطاع الخاص كان حاضرًا وبقوة، ويوضح المعجل أن السياحة على عكس قطاعات كالصحة والتعليم، تعتمد بشكل أساسي على استثمارات القطاع الخاص، سواء في إنشاء المنتجعات والفنادق أو في الخدمات والنقل.
وقد تلقى هذا القطاع دعمًا حكوميًا واسعًا، تمثّل في صندوق التنمية السياحي وغيره من الجهات التمويلية، مما خلق بيئة استثمارية خصبة تشبه انطلاقة القطاع الصناعي قبل عقود.
إنفاق السياح: أرقام قياسية
وقد أظهرت بيانات البنك المركزي السعودي أن إنفاق الزوار القادمين من الخارج خلال الربع الأول من عام 2025م بلغ 49.4 مليار ريال، محققًا فائضًا في بند السفر لميزان المدفوعات يُقدّر بـ 26.8 مليار ريال، بنمو %11.7 عن نفس الفترة من 2024م.
هذا التحوّل يؤكد نجاح المملكة في التحول من دولة مُصدّرة للسياحة إلى دولة جاذبة لها، ما يعكس تطور البيئة السياحية وقدرتها على استقطاب الإنفاق الدولي.
تجارب غير تقليدية
أسهمت تأشيرة E-Visa في جذب الزوار من أكثر من 65 دولة، حيث أصبح بإمكان السياح إصدار تأشيراتهم إلكترونيًا خلال دقائق.
كما أسهمت وجهات مثل: نيوم والبحر الأحمر والعلا في تقديم عروض سياحية تتناغم مع تطلعات الزوار الباحثين عن الفخامة، الطبيعة، والتقنيات الذكية.
فضلاً عن الفعاليات الرياضية والثقافية العالمية، إذ استضافت المملكة خلال الأعوام الماضية عشرات الفعاليات الكبرى، من بينها سباقات الفورمولا (1)، السوبر الإسباني، بطولات التنس العالمية، وموسم الرياض، والتي جذبت ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم، ووسّعت قاعدة السياحة الترفيهية والرياضية.
هذه الفعاليات لم تستقطب فقط المشجعين، بل خلقت موجات من التفاعل السياحي امتدت لقطاعات الإيواء، النقل، والتسوق، وأسهمت في تنويع القاعدة السياحية.
بنية تحتية تضاهي العالم
شهدت المملكة تطورًا هائلاً في النقل الجوي والبري. تم توسعة المطارات، وافتتحت خطوط جوية جديدة، كما تطورت مراكز حضرية في الرياض وجدة والدمام.
وارتفع عدد الغرف الفندقية ليقترب من المستهدف في رؤية 2030 وهو 675 ألف غرفة. وقد أسهم هذا التوسع في تلبية الطلب المتزايد وتحقيق معدلات إشغال مرتفعة.

أداة اقتصادية لا غنى عنها
ويقول الخبير المالي، فيصل الشماس إن الإنفاق السياحي يعزز الإيرادات العامة للدولة سواء عبر الضرائب أو الزكاة، إضافة إلى أن كثيرًا من المشاريع السياحية مملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، ما يعني أنها تدخل ضمن عجلة الاقتصاد الوطني.
ويرى الشماس أن تنوع السياحة السعودية، من السياحة الدينية إلى الأثرية، ومن الترفيهية إلى الرياضية، يعكس نضج السياسات السياحية، ويمنحها فرصة مستمرة للنمو المستدام.
تجاوز المستهدفات قبل أوانها
بحسب تقرير رؤية 2030 السنوي، ارتفعت الاستثمارات السياحية من 1.18 مليار ريال في عام 2021م إلى 14.8 مليار ريال في عام 2024م، كما تم خلق نحو مليون فرصة عمل في القطاع، وهو أحد الأهداف الرئيسة للرؤية. وتجاوز عدد السياح الدوليين في عام 2024م، حاجز 29.7 مليون زائر، ما وضع المملكة في المرتبة الثانية عالميًا في معدل نمو عدد السياح.

من العلا إلى البحر الأحمر
لم تعد السياحة الدينية وحدها محط الأنظار، فمدينة العلا وحدها استقبلت أكثر من 286 ألف زائر، بينما تشهد مشروعات مثل البحر الأحمر ونيوم إقبالاً متزايدًا، وتم إدراج المدينة المنورة ضمن أفضل 100 وجهـــة عالمـــية، كما أصبحت العلا أول وجهة شـــرق أوسطيــة تحظى باعتماد منظمة Destinations International.
مستقبل مشرق
ويرى، المستشار الإعلامي والخبير السياحي، خالد السهيل أن القادم أعظم، قائلاً: “ما تحقق حتى الآن مبهر، لكننا لم نرَ إلا البداية، مع اكتمال مشاريع مثل ذا لاين والقدية والبحر الأحمر، سيشهد العالم تحولاً سياحيًا غير مسبوق في السعودية”. ويضيف أن الطبيعة الجغرافية للمملكة، وتنوعها المناخي والثقافي، يجعلها وجهة مثالية طوال العام، وهو ما يعزز من فرص نمو السياحة في كل الفصول.
ولقد استطاعت المملكة، خلال فترة زمنية وجيزة، أن ترسم لنفسها موقعًا بارزًا على خارطة السياحة العالمية. من خلال رؤية واضحة، واستثمارات ذكية، وتخطيط استراتيجي دقيق، وباتت المملكة نموذجًا للتحول السياحي الناجح، وجاذبة للملايين من الزوار الباحثين عن التجربة، الترفيه، والثقافة. ومع اقتراب استضافة أحداث كبرى مثل إكسبو 2030م وكأس العالم 2034م، يبدو أن الطريق أمام السياحة السعودية لا يعرف التوقف، بل مزيدًا من الصعود.