أسواق النفط

النفط.. تقلبات حادة وترقب حذر

تراجع معدل الالتزام باتفاقات الخفض إلى %72، بعد أن كان يتجاوز %80 في عام 2023م مما يعكس ضعف التنسيق الداخلي وزيادة الضغط على الأسواق.

تقف الأسواق النفطية عند مفترق طرق حرج، بين ضغط العرض المتزايد، والطلب المتباطئ، وبين محاولات إعادة التوازن.

 

بين تباطؤ الاقتصاد العالمي، والتوترات الجيوسياسية في المنطقة، هل تنجح الأسواق في استعادة توازنها؟

منذ بداية العام، دخلت أسعار النفط نفقًا متقلبًا قلّما شهدت الأسواق العالمية مثله في السنوات الأخيرة، فمن أدنى مستويات منذ أربعة أعوام، مرورًا بتحديات التنسيق بين أعضاء “أوبك بلص”، إلى تصاعد المخاوف من تباطؤ اقتصادي عالمي يضرب أعمدة الطلب، بدا المشهد معقدًا ومربكًا.

ومؤخرًا، زاد المشهد توترًا مع الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، والتي أثارت مخاوف واسعة من تصعيد إقليمي قد يُهدد أمن الإمدادات ويمس استقرار أسواق الطاقة، مما أدى إلى ارتفاعات حادة في الأسعار خلال أيام قليلة.

 

تقلبات حادة وسيناريوهات غير متوقعة

منذ مطلع عام 2025م، بدأت أسعار النفط في رحلة مليئة بالمنعطفات، متأثرة بعدة عوامل، كان أبرزها تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، والذي بلغ ذروته في يونيو الماضي عقب استهداف مواقع عسكرية ونووية حساسة داخل إيران، وقد أسفر هذا التصعيد عن قفزة مفاجئة في الأسعار بنسبة تجاوزت %7 خلال يوم واحد، ليصل خام برنت إلى نحو 74 دولارًا للبرميل، وهو أكبر ارتفاع يومي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022م.

لكن ما لبثت الأسعار أن عادت للانخفاض مجددًا، متأثرة بعوامل اقتصادية محضة، أبرزها تراجع النمو الاقتصادي العالمي، وانخفاض الطلب، وارتفاع المخزونات، لا سيما البنزين في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أدى ذلك إلى هبوط سعر خام نايمكس إلى ما دون 66 دولارًا للبرميل في يوليو، قبل أن يعاود الارتفاع النسبي مع تحسن نسبي في مؤشرات الاقتصاد الصيني وبعض التطمينات من تحالف “أوبك بلص”.

 

التحالف النفطي يواجه التحديات

يبدو أن تحالف “أوبك بلص” بقيادة المملكة وروسيا يمر بمرحلة دقيقة، حيث تراجع التنسيق بين بعض أعضائه، ففي يوليو العام الجاري، ارتفع إنتاج التحالف بواقع 411 ألف برميل يوميًا، وهو ما تجاوز التوقعات بأكثر من ثلاثة أضعاف، مدفوعًا بتجاوزات من دول مثل: العراق وكازاخستان لحصصها الإنتاجية، هذا التراجع في الالتزام بإجراءات خفض الإنتاج أضعف من تأثيرات السياسة المعلنة، والتي تهدف إلى خفض الإمدادات تدريجيًا حتى نهاية عام 2026م.

ووفقًا لاستطلاع أجرته وكالة “رويترز”، تراجع معدل الالتزام باتفاقات الخفض إلى %72، بعد أن كان يتجاوز %80 في عام 2023م، مما يعكس ضعف التنسيق الداخلي وزيادة الضغط على الأسواق.

ورغم إعلان التحالف عن نية خفض تدريجي في الإمدادات، إلا أن مراقبين شككوا في فاعلية هذه السياسات، في ظل المضاربات المستمرة في أسواق المال، وضغوط المستهلكين الكبار.

أ. عقيل العنزي

تباطؤ عالمي يضعف الطلب

من جهة أخرى، أثَّر التباطؤ الاقتصادي في الدول الكبرى بشكل واضح على أسعار النفط، فقد سجلت الصين – أكبر مستورد للنفط عالميًا – تراجعًا حادًا في صادراتها بنسبة %26.4 خلال مايو، بالتزامن مع انخفاض وارداتها بنسبة %25.2، وهو ما يعكس تباطؤ الطلب المحلي وتأثر الصناعات التحويلية، ولم تكن الهند بمنأى عن ذلك، إذ انخفض معدل نموها إلى %6.7، مقارنة بمتوسط %8.8 خلال السنوات الخمس الماضية.

أما الولايات المتحدة، فقد شهدت تناقصًا في المخزون النفطي، مع ارتفاع في مخزون البنزين والدستليت، مما يشير إلى تراجع واضح في وتيرة الاستهلاك. كما انخفضت معدلات التوظيف الأمريكية لأدنى مستوياتها منذ عام 2020م في مؤشر مقلق على ضعف الاقتصاد الأمريكي.

وفي المقابل، سجلت أوروبا أيضًا مؤشرات اقتصادية سلبية، إذ ارتفع معدل البطالة إلى أعلى مستوى له منذ عقد، وهبط الإنتاج الصناعي في الربع الأول من العام بنسبة %2.5.

ضغوط غير مسبوقة على الأسعار

ويرى خبراء أن انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارًا خلال بعض فترات الربع الثاني من 2025م لا يعكس ضعفًا هيكليًا في أساسيات السوق بقدر ما يعكس حالة من التشاؤم المفرط في الأسواق، ويذهب البعض إلى أن هذه التراجعات “مؤقتة”، وأن الأسعار ستعاود الصعود التدريجي في النصف الثاني من العام.

وفي هذا السياق، يتوقع الخبير النفطي عقيل العنزي أن ترتفع الأسعار إلى حدود 72 دولارًا للبرميل بنهاية عام 2025م، مدفوعة بتحسن الطلب واستقرار التوترات الجيوسياسية، إضافة إلى الاتفاقات التجارية المحتملة بين الولايات المتحدة والصين.

د. فهد بن جمعة

مخزون البنزين ومؤشرات سلبية إضافية

وفقًا للخبير النفطي، دكتور فهد بن جمعة، فإن الأسواق تأثرت سلبًا بفائض كبير في مخزون البنزين، خاصة في السوق الأمريكي، إذ بلغ المخزون 211.2 مليون برميل مع نهاية يونيو، في حين واصل المخزون النفطي تناقصه إلى 350.2 مليون برميل، ومع تراجع متوسط الطلب اليومي على الوقود بنسبة %5.8، فإن هذه الأرقام تعكس حالة ضعف في استهلاك الوقود، وهو ما يشكل عامل ضغط إضافي على الأسعار.

وأضاف بقوله لقد استمر ارتفاع معدل تخزين الغاز الطبيعي في الأسبوع الماضي بأكبر من المتوقع له والآن يعتبر %21 أعلى من متوسط الـ 5 سنوات الماضية، لذا هبطت أسعار نايمكس لعقود أغسطس إلى 65.63 دولار مع ارتفاع البطالة الأمريكية، وأشار إلى أن تناقص معدل التوظيف يعتبر مؤشرًا سلبيًا لأداء الاقتصاد الأمريكي ويعكس مواصلة انخفاض إجمالي الطلب الأمريكي على الوقود اليومي حيث انخفض بنسبة %5.8 في الأسابيع الأربعة الماضية إلى 26 يونيو، وعلاوة على ذلك لم يكن اقتصاد الاتحاد الأوروبي أكثر حظًا من الأمريكي، حيث ارتفع معدل البطالة الحقيقي لأعلى مستوى منذ 10 أعوام، كما هبط إنتاجها الصناعي في الربع الأول من هذا العام %2.5، وكذلك انتشرت عدوى البطالة إلى أكبر اقتصاديات في العالم بعد أن ارتفع معدل البطالة في اليابان في مايو إلى أعلى نسبة له منذ أكثر من 5 أعوام، وأكد أن ارتفاع مخزون البنزين يفسره المتاجرين بأنه إشارة قوية على استمرار ضعف الطلب على مشتقات النفط وبنظرة متشائمة عن مستقبل الاقتصاد الأمريكي، مضيفًا بأنه في ظل هذا الوضع يصبح مستقبل أسعار النفط متذبذبًا لاسيما مع تقلب قيمة الدولار وحركة أسواق المال وتناقص التزام الأوبك بخفض الإنتاج مع استمرار تراجع الخفض من %80 إلى %72.

 

توقعات منظمة “أوبك” والبنوك الكبرى

وفي تقاريرها الأخيرة، خفضت منظمة “أوبك” توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي إلى %2.9 خلال عام 2025م وهو ما انعكس على توقعات الطلب على النفط، الذي توقعت أن لا يزيد على 1.3 مليون برميل يوميًا، وفي الوقت نفسه، توقعت المنظمة ارتفاع إنتاج النفط الأمريكي إلى مستوى قياسي قدره 13.62 مليون برميل يوميًا، وهو ما قد يسهم في الإبقاء على الأسعار تحت الضغط، وفي المقابل، أعربت بنوك كبرى مثل “جي بي مورغان” و”غولدمان ساكس” عن اعتقادها بأن الأسعار مرشحة للارتفاع إذا ما تم التوصل إلى تسوية سياسية بين القوى الكبرى، أو في حال وقوع أزمات جديدة في الإمدادات، خصوصًا في مناطق إنتاج حساسة مثل الخليج العربي أو أمريكا اللاتينية.

عوامل دعم محتملة للأسعار

ويرى الخبير النفطي، الدكتور عبدالسميع بهبهاني، أن استمرار التنافس الدولي على تمويل المشاريع الكبرى – لا سيما في دول الخليج، وإفريقيا، وآسيا – قد يسهم في رفع الطلب على النفط في المدى المتوسط، كما أشار إلى أن الأسواق ستظل حساسة لأي تغيير في العوامل الجيوسياسية، معتبرًا أن تقلبات الأسعار مرهونة بمدى قدرة “أوبك بلص” على فرض الانضباط، واستجابة الاقتصاد العالمي لمبادرات التحفيز.

وأضاف أن من بين العوامل الإيجابية المحتملة هو استمرار آسيا، وتحديدًا الصين والهند، في قيادة الطلب العالمي، رغم تباطؤ النمو. فالصين، ورغم التحديات، بدأت بتوسيع علاقاتها التجارية في جنوب شرق آسيا وإفريقيا، مما قد يعزز طلبها على الطاقة خلال 2026م وما بعدها.

 

اكتشافات جديدة وتحديات في العرض

ويتوقع عدد من المحللين أن تسهم الاكتشافات النفطية الجديدة، خصوصًا في دول مثل ناميبيا، وغويانا، والبرازيل، والأرجنتين، في رفع إجمالي الإمدادات العالمية بنحو 3 ملايين برميل يوميًا خلال عام 2026م مما قد يُحد من أي ارتفاعات مستقبلية للأسعار إذا لم يترافق ذلك بزيادة في الطلب.

د. عبدالسميع بهبهاني

أسواق على مفترق طرق

وأخيرًا يمكن القول إن الأسواق النفطية تقف في أغسطس 2025م عند مفترق طرق حرج، بين ضغط العرض المتزايد، والطلب المتباطئ، وبين محاولات “أوبك بلص” لإعادة التوازن، وتحديات داخلية تهدد وحدة التحالف. ومع استمرار التوترات الجيوسياسية، وتراجع الالتزام بخفض الإنتاج، يظل التعافي الكامل مرهونًا بعدة عوامل، أبرزها: تحسن الاقتصاد الصيني والأمريكي، وانخفاض معدلات التضخم، واستقرار العلاقات التجارية بين الكتل الكبرى، وقدرة التحالف النفطي على ضبط الإنتاج، وتراجع المضاربات في الأسواق المالية.

ورغم ذلك، هناك إجماع متزايد بين المحللين أن النصف الثاني من عام 2025م قد يحمل مفاجآت إيجابية، في حال تراجعت حدة التوترات، وتحسنت مؤشرات النمو، وعادت الثقة إلى الأسواق، وحتى ذلك الحين، يبقى النفط تحت وطأة رياح متقلبة، تتنازعه بين الأمل والحذر.