من أهم عوامل تقدُّم الأمم اقتصادياً وجود المعلومة الصحيحة، والإحصاء الدقيق، ونتائج المسوحات الميدانية المستقلة، فهي من «الداتا» التي يحتاجها متخذ القرار الحكومي، ومتخذ القرار الاقتصادي الخاص بالدخول أو الانسحاب من قطاع معين، أو دولة معينة، وهكذا دواليك.
في العالم العربي ما زالت هذه القضية شائكة نسبياً، فالالتفات إلى ذلك تم متأخراً، وتنفيذه
ما زال يعاني شوائب البيروقراطية، ونتائجه ما زالت تحتاج إلى مزيد من الدقة، ومزيد من ثقة الناس، وأنها لا تهدف إلى «أشياء أخرى» غير إظهار الأرقام الصحيحة.
في السعودية بدأ التقدُّم في هذا الملف، نتيجة الحاجة الماسة إلى المعلومة، وتُعد الهيئة العامة للإحصاء اليوم ـ أو هكذا يجب ـ إحدى ركائز اتخاذ القرار التنموي، القرار المرتكز على المعلومة، المعلومة التي تصبح إضافة إلى أنها أمانة أمام الله، مسؤولية أمام ولي الأمر والناس، المعلومة التي قد يلتقطها مستثمر أجنبي أو سعودي ويبني عليها توقعاته أو قراراته، وهي المعلومة التي تعطي مؤشرات وانطباعات عن المجتمع السعودي وسكان السعودية إجمالاً.
الهيئة أثارت الجدل بعد إعلانها نتائج مسح دخل وإنفاق الأسرة السعودية 2018م التي أظهرت أن متوسط الدخل الشهري للأسرة بلغ 11984 ريالاً، بينما بلغ متوسط الدخل الشهري للأسرة السعودية 14823 ريالاً.
نتائج المسح كشفت أن متوسط الدخل الشهري للأفراد ذوي الدخل، بلغ 6346 ريالاً، في حين بلغ متوسط الدخل الشهري للأفراد السعوديين ذوي الدخل 7940 ريالاً. وفيما يتعلَّق بالإنفاق فقد بلغ متوسط الإنفاق الشهري للأسرة في المملكة 12818 ريالاً، في حين بلغ متوسط الإنفاق الشهري للأسرة السعودية 16125 ريالاً، وبلغ متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري 11728 ريالاً، في حين بلغ متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسرة السعودية 14584 ريالاً.
لم تلق هذه النتائج قناعة لدى الرأي العام نظراً لارتفاع متوسط الدخل والانفاق عن واقع نسبة ليست قليلة من الناس، ولكون ارتفاع الانفاق على الدخل للأسرة بمقدار 1302 ريال شهرياً أثار تساؤلات عن هذا العجز في كل منزل، فهل هذه الأرقام واقعية؟.
أتحفظ مع بقية الناس على متوسط الإنفاق والدخل الذي يبدو مرتفعاً نسبياً قياساً بحالة معظم الناس العادية، لكني أجد ارتفاع الإنفاق مقابل الدخل منطقياً، لأن هناك انخفاضاً في مستويات الدخل يحدث ببطء مع تقلص الفرص الوظيفية الحكومية الحادث نتيجة إعادة الهيكلة وتحقيق هدف رشاقة وفعالية الجهاز الحكومي، وهو هدف جيد ومهم، ووجود أغلب المسجلين في التأمينات الاجتماعية كموظفين في القطاع الخاص في الشريحة الأدنى من الأجور، كما أوضحت تقارير التأمينات نفسها، وأسهم «حساب المواطن» في التوازن لدى البعض الذين أدركوا غايته، لكن الغالبية لا تزال تحتاج لمثل هذا الإدراك.
وفي مقابل هذا الانخفاض هناك ارتفاع في المصاريف، نتيجة إعادة تسعير الطاقة بأنواعها، والمياه، وضريبة القيمة المضافة، وزيادة النزعة الاستهلاكية، واحتفاظ الغالبية بنمط العيش نفسه رغم الارتفاعات التي طالتهم، وهذا لا يمكن أن يتسق مع الأهداف التي عدلت الأسعار وفرضت الضرائب من أجلها، أي الترشيد والعيش بواقعية، وتبني الإنتاج أكثر من الاستهلاك.
هذا لن يدوم، ومع مرور الزمن، وبمعدل الأجور الذي توضحه التأمينات، ستصبح المشكلة أكبر إذا لم يتعلم الجيل الجديد «الواقعية والمنطقية» وهذا لا يعني الرضا بأجر منخفض، وعدم الإنفاق، إنه يعني تغيير ملامح الإنفاق، والإصرار على زيادة الدخل.
الواقعية والمنطقية يجب أيضاً ان تطول بعض الوزراء والمسؤولين، فلا يمكن لمسؤول تنفيذي أن يطالب الناس بالواقعية في الإنفاق ولديه خلل أو سوء تقدير في الإنفاق على المستشارين أو الموظفين في برامج الاستقطاب، ورفاهية غير مبررة في أجور وظروف عمل بعض فرق تحقيق الرؤية أو برامج التخصيص.
يجدر بنا الانتباه إلى أن كثيراً مما نستهلكه لا ننتجه، ولو أنتجنا معظم ما نستهلك، لتغيرت معادلاتنا المالية الشخصية، وبالطبع نتائج الإحصاءات، لأن ملامح الاقتصاد ستتغير، ولأن كثيراً مما ننفقه سيعود إلينا، إلى اقتصادنا، إلى الشركات والأفراد، وهذه نقطة تحتاج في حد ذاتها إلى الإحصاءات الدقيقة لنعرف أين نقف من هذه المعادلة، معادلة الإنتاج والاستهلاك.
أيضاً يجب الانتباه إلى اتساع الفجوة بين أصحاب الدخل المرتفع جداً، والمنخفض جداً، وزيادة هؤلاء الأخيرين بوتيرة مضطردة، فأنا يمكنني القول «أنا وبيل جيتس نملك كذا بليون دولار» كدلالة على ما أرمي إليه، ويجب أن تنتبه إليه هيئة الإحصاء وهي تصدر «المتوسطات» التي تشير إلى انخفاض ملحوظ في الطبقة الوسطى!.
على المواطن أن يقف على «جيبه» أكثر، وعلى بعض الجهات الحكومية تقف على «الواقع» أكثر.