التجارة في المياه وتوريدها إلى المنازل لم تكن وليدة عصر القناني المعبأة التي نراها حالياً تزدهر وتتنامى ويرتفع سعرها ويتنافس المصنعون في تحسينها والدعاية لها. ولن تجد مخزناً يبيع المواد الغذائية إلا وفيه أهرامات من عبوات «كراتين» ماء الشرب، حتى كادت أن تكون ضمن قائمة المطلوبات اليومية.
وأوجدت العملية ـ لشهرتها ـ ثقافة مفرداتية، حجم «أبو ريال» يقوله الطبيب لمريضه عندما يريد نصحه بالكمية التى يجب عليه أن يشربها يوميّا، «خذ أربعة حجم أبو ريال في الصباح»، حتى الطبيب غير العربي صار يستعمل هذا الشرح.
أول دخول عادة استعمال المياه من القناني المعبأة كانت قرابة منتصف الستينيات الميلادية من القرن الماضي. كانت تردُ من لبنان واسمها «صحّة»، وأخذت الاسم، حتى أن السعوديين صاروا يسمون كل المياه المعبأة «مَيّة صحة».
كما قلت في البداية كانت تجارة جلب المياه عندنا وعند غيرنا تتسم بالاحتراف والمداومة واتخاذها وسيلة عيش. فأدبيات الوطن العربي تمتلئ بمفرد «السّقّا» وعند أهلنا في الحجاز اكتسب السقّا مكانة اجتماعية عند أهل الحي، وبعض أصحاب البيوت يعطونه لقب «يا عم فلان»، واحتفت بعض حواضر نجد ـ القصيم بالذات ـ بالـ «روّاية» وهن نساء يوردن الماء إلى المنازل.
ولو أنصف قاطنو الجزيرة العربية واقعهم، لفكروا في اختراعٍ أو كشف أو إبداعٍ يساعدهم على توفير المياه المهدورة، من هذه المياه مثلاً تلك التي صار كل منزل وقصر وفندق يستعملها في صندوق الطرد المملوء بالماء في كل حمام ومرحاض ـ أقصد السيفون ـ ذاك الذي يجري سحبه بواسطة كل فرد من أفراد العائلة، عدة مرات يومياً، بغرض تنظيف حوض المرحاض ـ كرّم الله وجه القارئ.
وقد وهب الله جزيرتنا العربية ما يكفي أهلها من مياه جوفية، وأقول أهلها وقصدي ما كنا عليه في الماضي وأعني قلة السكان وتركزهم في واحات وقرى، مع مواسم أمطار تكفي الكلأ، لكن الزيادة المطردة في تشييد المساكن وكثرة تركز الوافدين، صارت أكبر تحد أمام الحفاظ على المياه، حتى بعد أن لجأنا إلى تحلية مياه البحر، مع ما رافق ذلك من تكلفة ومخاطر ومجازفة.
وأذكر مقترحات وعروضاً تحدثت عن مواصفة أو مقياس خاص يجعل حوض السيفون أقل سعة، ويجري تصنيعه هنا ويُتخذ كمقياس ومعيار لما يجري استيراده. ونادت الزراعة والمياه آنذاك بتبني الفكرة، ثم سكت الناس عنها رغم توضيح مسؤولي المياه بأننا بواسطتها نستهلك ـ قل نهدر ـ كثيراً من المياه الصالحة، والخطأ المزعج أننا في المنازل لا نقلق على المرور عليها ورعايتها، ولا نصرف جهداً في ملاحظة التسريبات المستمرة التي تسوق المياه الصافية النقية إلى المجاري.
والحفاظ على الماء يأتي في شكل إعلانات وتوعية جيدة، بصفحة كاملة في صحفنا المحلية بين حين وآخر، وهذا جيّد، لكن تأثير تلك الإعلانات العابرة بطيء. وقد دقت المنظمات الدولية ناقوس الخطر بأن الحرب المقبلة لن تكون من أجل البترول بل من أجل الماء، حتى في الدول ذات الينابيع والأنهار، اتجهت كثير من الدول إلى البحث عن طرق وبدائل للمحافظة والترشيد في استخدام المياه، وكان من أهم تلك الطرق الجاري دراستها هو استخدام مياه المغاسل ـ المراوش ـ بعد معالجتها في تغذية صناديق الطرد للمراحيض «السيفونات».