لأول مرَّة، بعد عقود طويلة، وبشكل مستقل، رست سفينة عملاق النفط العالمي «أرامكو السعودية» على مرسى الشفافية المالية والإفصاح عن النتائج، بإعلان قائمة أدائها المالي للعام الماضي 2018.
كانت تلك البيانات محصورة على صنَّاع القرار لاعتبارات منطقية، وكونها من أسرار الدولة والريع العام للبلاد. اليوم ونحن نعيش مرحلة الإفصاح عن النتائج المالية لهذه الشركة المصنَّفة بأنها أكبر مصدِّر للنفط الخام في العالم، فإن الإفصاح عن نتائجها المالية له «دلالة» مهمة، ومغزى كاشف، تدعمهما كثير من الشواهد الإيجابية.
دعونا نبدأ بالمؤشرات المالية المعلنة، حيث تؤكد النتائج بجلاء ملاءة عالية، وتكشف عن متانة المركز المالي للشركة بارتفاع حجم الإيرادات العامة %34 مخترقة حاجز التريليون ريال بكثير لتبلغ 1335 مليار ريال في العام الماضي، وهو ما يدل على استفادة الشركة من حركة الأسعار في الأسواق العالمية، دون الإخلال بالتزام المملكة بقوى السوق وقاعدة العرض والطلب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الربح الصافي المحقق بلغ 417 مليار ريال مسجلاً ارتفاعاً قوامه %46، وهذه النتائج جعلت «أرامكو» تتصدر قائمة الشركات الأكثر ربحية على مستوى العالم.
ثاني الشواهد، أن هذا الإجراء يعبِّر عن «رسالة» واضحة من «أرامكو السعودية» للعالم بأن خطط المملكة تجاه تحويل جزء من الشركة نحو الاكتتاب الدولي العام لا تزال ماضية على قدم وساق، إذ إن الإفصاح عن البيانات المالية للسنوات الأخيرة هو أحد متطلبات التحوُّل للطرح العام، وعلى ذلك يمكننا اعتبار كشف البيانات المالية، بمثابة الإعلان الأولي للوصول إلى مراحل متقدِّمة من التأهب نحو الطرح ــ كما ترغب الدولة ــ والمنتظر أن يكون مطلع العام 2021.
ثالث الشواهد الإيجابية، أن الإعلان عن تفاصيل الأداء المالي لـ «أرامكو السعودية» ــ وهي المورد الرئيس المغذي بما لا يقل عن %80 لميزانية الدولة ــ يجسِّد ثقة القيادة العليا بما وضعته من أهداف واستراتيجيات، في إطار التحوُّل الاقتصادي للبلاد، يقودها مشروع الرؤية 2030 والتي تستند إلى النهوض باقتصاد لا يعتمد على النفط، وذلك عبر إعادة ترتيب البيت الاقتصادي وهيكلته، والدفع لزيادة الإيرادات غير النفطية لتصل إلى %50 من الميزانية، واستغلال المصادر الطبيعية كالطاقة الشمسية، وتفعيل القطاعات والأنشطة كقطاع الاستثمار والصناعات ذات الإضافة النوعية.
الزمن يمضي سريعاً والتطورات الحاصلة على مستوى التقنيات والتكنولوجيا تتجدد على مدار اليوم، كما أن معين الاحتياطات من النفط والغاز مهما بلغ فلن يدوم، كل ذلك في اعتبارات الدولة وقائد ربان المركب الاقتصادي فيها، سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – وبالتالي تأتي التطلعات، وفقاً لمنهج الرؤية، أن تتم الاستفادة من النفط ليس فقط بالبيع، وإنما بتحويله إلى سلع ومنتجات تولد عوائد وفرصاً استثمارية تديرها سواعد أبناء المملكة، وتسعى للسيطرة على الصناعات المتعلقة بها عالمياً، لتكمل استفادة البلاد من الطفرة الطبيعية الربانية.
هكذا «نقرأ» مشهد إفصاح «أرامكو» عن بياناتها المالية، حيث لم يكن مجرد إعلان بالنتائج المالية فقط، وإنما يحمل في طياته رحلة تحدي التحوُّل الاقتصادي الذي تعيشه السعودية حالياً بغية تحقيق «طموح وطن.. باقتصاد مزدهر».