عندما نقول «العصامي» فكأننا نقصد ــ مباشرة ــ رجل الأعمال السعودي الراحل محمد العريفي.. هذه قصة حياة يتيم، تُوفّيَ عنه أبوه في الثانية من عمره، وكفله جده لأبيه، وفي حائل تعلم معه التجارة منذ العاشرة، وساح في بلاد الله، يجوب عواصم الشرق العربي، ويبني فيها محلات تجارية، وفي الشام حيث جده لوالدته، تعلّم الإنجليزية والفرنسية.. وعلّمته مسيرتُه في الحياة أن يخوض عالم المال والأعمال بنفسه، فيما أعطاه الله مهارة في استشراف مستقبل الأعمال الناجحة، فطرق كل باب إلى النجاح، ونجح في كل شيء لمسه، فتحوَّل معه إلى قيمة.. من تجارة الملابس والأقمشة، مروراً بالحبوب والحرير والماشية، إلى أعمال الصّرافة والمال، إلى العقار والفندقة.. هذه سطور وملامح من حياة رجل «عصامي» بحق..
بدأ حياته يتيماً وتولى جده لأبيه رعايته وتربيته، فتعلَّم التجارة منذ صغره في المحل التجاري لجده في حائل، حيث بدأ محمد بن عبدالله بن عبدالعزيز العريفي أولى خطواته التجارية، في سن العاشرة، فمارس البيع والشراء في سن مبكرة، وتعلَّم من جده كل شيء في الحياة، خاصة التجارة، فقد كان من التجار المعروفين في المملكة آنذاك، بسمعته الطيبة في تجارة الأقمشة والحراير والحبوب والماشية، وكان لهذه التربية بالغ الأثر في نشأة محمد العريفي التجارية وسبباً كبيراً في نجاحه وتفوقه في «التجارة».
«خرجت من مشوار حياتي وكأنني في حُلم تمنيتُ أن أعيشه مرات بكل ذكرياته حلوها ومرها»
سأله البسام: «كيف تبني والإيجارات رخيصة وليس هناك مستأجرون»؟ فماذا كانت إجابته؟!
انتقل إلى البصره مع رواجها الاقتصادي وافتتح محلين في بغداد والكويت لبيع الملابس والأقمشة وأعمال الصرافة
الولادة والنشأة
ولد محمد العبدالله العريفي في مدينة حائل عام 1332هـ/1914م، ولم يتمكن من رؤية والده الذي توفي وهو في الثانية من عمره، فعرف اليتم فتولت رعايته والدته التي كانت كل شيء بالنسبة له وكان يحرص على رضاها وهي سبب نجاحه، وفي فترة من فترات حياته كان قريباً من جدته هيا الرشيد التي تكفلت برعايته، إلى أن تزوجت بالسفير السابق عبدالعزيز الزيد، فانتقل للعيش في كنف جده عبدالعزيز العريفي في حائل بعيداً عن رعاية النساء.
تعلَّم على أيدي بعض شيوخ حائل مثل الشيخ حمود الشقدلي قاضي حائل والشيخ عبدالله بن سليمان البليهد، حيث درس على أيديهم القرآن الكريم والأحاديث ومبادئ اللغة العربية والنحو والصرف والحساب، وبعد أن أخذ قسطاً وافراً من هذه العلوم، اشتغل مع جده في المحل التجاري الذي يملكه في حائل، وهو ابن العاشرة، مبتدئاً أولى خطواته التجارية والممارسات الفعلية في أعمال البيع والشراء، ليبدأ رحلته مع الحياة والتجارة.. تعلَّم الحفيد من جده كل شيء في الحياة بشكل عام والتجارة بشكل خاص، وحكى له عن المعاناة والمصاعب التي لاقتهم في دروب الحياة، فحفظها ووعيها.
التزود بالعلم
كان جده أثناء عمله معه يرسله إلى الشام وكانت أولى سفراته وهو ابن الثالثة والعشرين، لإنجاز بعض الأعمال التجارية في الشام، وفي ذلك الوقت كان جده لأمه رشيد آل ناصر يشغل وظيفة القنصل العام للمملكة في سوريا ولبنان، زمن الانتداب الفرنسي على بلاد الشام، وانتهز جده رشيد هذه الفرصة فأدخله الحلقات الدراسية وتعلَّم اللغة العربية واللغة الإنجليزية والرياضيات، وأخذ يتردد على الشام ولبنان بحكم عمله التجاري وفي كل مرة يتخلف بعض الأيام لينهل من العلم هناك، حتى أجاد اللغة الإنجليزية، وزاد عليها اللغة الفرنسية، ويرجع الفضل لجده رشيد لتزوده بالعلم، مثلما يرجع الفضل في تعلمه التجارة لجده عبدالعزيز العريفي، وليس غريباً عليه فقد كان محباً للعلم، وقراءة التجارب والاستفادة منها، لذلك كان دائم الحرص على القراءة، ويحث أبناءه على التحصيل العلمي ونيل الدرجات العليا في هذا الجانب.
البداية التجارية
بعد أن تجاوز محمد العريفي السابعة والعشرين من عمره، قرر أن يشق طريق التجارة بمفرده متسلحاً بالخبرات التي اكتسبها من العمل مع جده، ففي عام 1941 افتتح متجراً صغيراً لبيع الأقمشة في حائل، وقد سار الحفيد على نهج جده واستفاد من تشجيعه ومهاراته بعد أن لقنه مبادئ التجارة وأصولها واستوعب النصائح والتوجيهات التي كان يقولها له وأهمها: الصدق في التعامل، وقول الحق «لك أو عليك»، والأمانة، والصبر، والحلم، والتأني، والابتعاد عن أصحاب السوء.. وبفضل هذه النصائح والتوجيهات أقبل محمد العريفي على التجارة بقلب مفتوح وعقل مرتب مستعيناً بحماس الشباب وفورته، وازدادت رحلاته التجاريه خارج الوطن وبخاصة إلى سوريا ولبنان، واتسعت أعماله التجارية، وحقق خطوات جيدة حتى بدأ يتذوق طعم النجاح وكان يقول: «إن الأرباح المادية ليست هي النجاح ولكنها مؤشر على تحققه».
تطور تجاري
أثناء الحرب العالمية الثانية حدث رواج اقتصادي في البصرة، حيث تحولت هذه المدينة العراقية إلى مركز تجاري مزدهر وانتقل إليها كثير من تجار نجد، وفتحوا بها المحلات واستقروا، أما محمد العريفي فقد افتتح محلين أحدهما في بغداد والآخر في الكويت لبيع الملابس والأقمشة وأعمال الصرافة، وأخذ يتنقل بين بغداد والكويت، وعندما هبطت أسعار البضائع بعد الهدنه، ركَّز على أعمال الصيرفة وحقق فيها مكاسب طيبة.
جاءت فكرة «الصرافة» عندما كان في حائل، فأثناء سفره منها إلى الأردن لبيع المواشي، كان يقبض الثمن بالريالات الفرنسية، ثم يعود للمملكة ويبيع الريالات الفرنسية، وبعد بيعها، يكتشف أنه حقق ربحاً جيداً من بيع العملة، ومع السفر المتكرر، وجد أن بيع وشراء العملة عملية مربحة بصورة لم يكن يتوقعها، ومن هنا نشأت فكرة العمل بـ «الصرافة» ووجد أن التعامل في النقد تجارة رائجة، وتحقق أرباحاً لابأس بها وإن كانت ضئيلة، إلا أنها تشكل مجتمعة مكاسب طيبه وتعطي القدرة على الاستمرارية، وهكذا ازدادت علاقته بـ «الصرافة»، واكتسب مع الوقت خبرة عميقة فيها، وقال عنها إنها علم متطور، وخلال أسفاره الكثيرة وعلاقاته المتنوعة مع الناس، كوَّن رصيداً كبيراً من المعرفة والمعلومات، وفي بغداد والكويت وجد أن العمل «المصرفي» مزدهر وله سوق رائجة فكانوا يبيعون الجنيهات الإنجليزية والريالات الفرنسية، وكانت التجارة حينها مطلقة الحرية دون قيود، ولا توجد قوانين تقيدها أو صعوبات تمنع دخول العملات وخروجها، وفي العام 1950 وبعد أن تزوج، انتقل بالأسرة إلى لبنان، وافتتح محلاً لأعمال الصرافة في بيروت، وقد كان هذا الفرع نشطاً ومزدهراً، نظراً لمكانة بيروت السياحية والتجارية ولموقعها الجغرافي المتميز، وفتح مكتباً آخر في دمشق، ولكن مالبث أن أغلقه، لأنه لم يكن يستطيع الإشراف عليه ومراقبته عن كثب، فوجد من الأفضل أن يصفي ذلك المكتب بشكل نهائي.
وفي العام 1952 افتتح محمد العريفي محلاً للصرافة في جدة، وآخر في الرياض، وفي جدة وجد قبله رجالاً يشتغلون بالصرافة، من أبرزهم الراجحي والكعكي وواصل أعماله على المستوى المحلي بجد واجتهاد.
وفي العام 1955، بدأت علاقته بالمنطقة الشرقية، حيث بدأ نشاطه التجاري فيها بشراء العقارات، وفي عام 1970 افتتح أول محل للصرافة بها، تبعته محلات أخرى وفي أنشطة تجارة متعدِّدة، وتسلم ابنه الأكبر عبدالله إدارة أعماله بالمنطقة الشرقية، ثم انتقل بأسرته إلى المنطقة الشرقية في العام 1975، واستمرت جولاته التجارية ورحلاته بين جدة والرياض ومكان إقامته موزع بين جدة والرياض والدمام.
وفي المجال الفندقي، أنشأ محمد العريفي فندق العريفي بالدمام، والذي يُعد من أوائل الفنادق بالمنطقة الشرقية، وفكر في إقامة فندق آخر في منطقة الراكة، على طريق الدمام الخبر الساحلي، ولكنه أجل المشروع أملاً في ازدهار النشاط الفندقي بالمنطقة، وجاء ذلك نتيجة لحبه ـ يرحمه الله ــ لخوض التجارب الجديدة، من قبيل بناء المجمعات، واستيراد مواد البناء والعمل على التطوير العمراني في المملكة، والتي منها بناء الفنادق، إنها رسالة سامية حملها على عاتقه ونجح في تحقيقها بكل براعة واقتدار.
1955 بداية علاقته بالمنطقة الشرقية بشراء العقارات، وافتتح في 1970 أول محل للصرافة، وأنشأ في الدمام واحداً من أوائل الفنادق بالمنطقة
في حائل، تعلّم أصول التجارة وأخلاقها، وفي الشام تعلّم اللغتين الإنجليزية والفرنسية
أحبَّ السفر، ونهل من العلوم المختلفة والآداب والفلسفة وحفظ كثيراً من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة
تجربة العقار
كان محمد العريفي يصف تجربته في مجال العقار بالنجاح ويحمد الله على تلك التجربه، وكان يقول أنصح بالاستثمار في العقار. وقد بنى أول بناية له بالدمام عام 1966، والتي تضم مكاتبه الرئيسة وقتها، وكانت فترة كساد. ويتذكر أن صديقه عبدالعزيز العلي البسام الذي عرف عنه الحكمة وكان رجل تجارة كبيراً، قال له كيف تبني والإيجارات رخيصة وليس هناك مستأجرون؟ فأجابه العريفي بأن أسعار البناء معتدلة، وهي فرصة للبناء قبل ارتفاع الأسعار، وأنه يرى أن المملكة في طريقها للنمو والازدهار، فكل عام يختلف عن سابقه، والسكان يزداد عددهم، والبترول تزداد أهميته، والبلاد في طريقها إلى الانتعاش والرواج.
كانت هذه نظرة ثاقبة منه، وقراءة سليمه للمستقبل الاقتصادي، وكان متفائلاً لذلك لم يتوقف عن البناء بل خاض التجربة أكثر من مرة، وفي أكثر من موقع وشيَّد في عديد من مناطق المملكه، وكانت تجربته في العقار ناجحة ويرى أن الاستثمار في العقار لا يتعارض مع أي شيء طالما أن الأصول موجودة وأرض المملكة غنية بالخيرات.
وكان في نشاطه العقاري منطلقاً من قاعدة أساسية يعرفها العقاريون وهي «العقار يمرض ولا يموت»، بمعنى أن العقار لا تنتهي فائدته، حتى لو تراجع لبعض الوقت، فما يلبث أن يعود.
العريفي ومشوار الحياة
يقول محمد العريفي خرجت من مشوار حياتي الطويل وكأنني في حُلم جميل وأتمنى أن أعيش هذا الحلم مرات ومرات بكل ذكرياته حلوها ومرها، لم أندم يوماً على شيء، لم أخسر أو أفشل في أي مشروع أقدمت عليه، وأحمد الله وأشكره. طفت العالم أكثر من مرَّة وزرت أمريكا وأستراليا وكانت بيروت مدينتي المفضله قبل الحرب، ثم أصبحت لندن مدينتي المفضلة. وعن لندن، قال: إنها مدينة كبيرة ومركز للتجارة والأعمال، وكان يقول: في كل مرَّة يزداد تفاؤلي بمستقبل بلادي.
وكان في تجربته الحياتية يفكر في السلبيات والإيجابيات لأي عمل يقوم به وقبل أي قرار يتخذه. ويقول دائماً تكمن الانتصارات في العزم وعدم التردد. ويقول هناك فرق كبير بين الحذر والخوف. فالحذر فضيلة والخوف هو المبالغة في التوهم.
أسهم في بنك بيروت الرياض في لبنان وابنه عبدالعزيز أحد الأعضاء المؤسسين، كما أسهم في أكثر من بنك محلي ودائماً ما كان يشيد بالسياسة المالية المميزة التي تنتهجها البنوك السعودية، والتي رأى أنها تتميز بالعقلانية وعدم الجري وراء المبالغات غير محمودة العواقب. وعن القطاع الخاص السعودي كان محمد العريفي يقول إن القطاع الخاص السعودي يلعب دوراً كبيراً على الساحة الداخليه ويسهم بدور فعال في الاقتصاد الوطني.
ملامح شخصية
من أبرز صفات محمد العريفي الأمانة، وكان يقول الأمانة عز والقناعة كنز، ومنها الإيثار، حيث يختار مصلحة الآخرين على مصلحة نفسه، وتمتع دائماً بالذكاء والفطنة وحُبّ العلم والتعلم ومعرفة كل ما هو جديد، وكان يحب السفر لأن فيه معرفة وتجارب ومهارات، نهل من العلوم المختلفة والآداب والفلسفة على يد رالف نادر الأمريكي من أصل لبناني والذي له باع طويل في الثقافة والاقتصاد، وقد تعلَّم الشعر وقرأ الكتب المترجمة عن الإنجليزية منذ الخمسينيات، مثل كتاب سر النجاح، وحفظ كثيراً من سور القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، والشريعة الإسلامية مرجعه في ممارساته الحياتية اليومية يستمد منها الفضائل المختلفة.
كان يؤمن بأن الاعتدال في المعشر مطلوب وأن كثرة الوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق، كما يحمل مقولة اشتهر بها وهي «لا شيء للحياة ألزم من الصبر فهو للأخلاق توأم. والصبر هو اتقاء للأخطار ووقفة للبحث عن المخارج. وهو سلم النجاح في ميادين الحياة».
وربما كانت المبادئ التي يحملها، ومنها الأخلاق، التي كان يطبقها في حياته هي سبب نجاحه في التجارة، لأن الناس تثق بصاحب الأخلاق وبالشخص الذي يتعامل في توازن في مواقف الحياة المختلفة.
وفاته
بعد حياة حافلة بالكفاح والعطاء وتحقيق النجاحات المتتالية في عديد من المجالات التجارية، رحل محمد العريفي تاركاً وراءه رصيداً من السمعة الطيبة بين الجميع. وقد توفي يوم 25/7/1995م – 27/2/1416هـ.