أروع ما في تجارة الأغذية قديما في بلادنا، أنها لا تحمل تاريخ انتهاء ولا نشرة مكونات ولا عناصرغذائيّة ولا سعرات حرارية. لذا رأينا التاجر في القصيم مثلا يستورد صناديق الشابورة من الحجاز مطمئنا، ومتأكّدا من قبولها من المستهلك. وقد وجد أهل نجد في الشابورة أو «الكعك» بديلا أكثر عملية من الخبز، فهو يصلح للصغار لأخذه إلى المدارس، وأيضا للمسافر الذي يتجنّب التوقف للطبخ، وقد سدّ فراغا وما يزال.
كانت المادة تأتي إلى أواسط نجد من مكة المكرمة، حيث الأفراد والتسهيلات التي لا توجد في نجد. تأتي السلعة بواسطة السيارات الكبيرة، وقد جرى صفها في صناديق خشبية مُحكمة الإغلاق حفاظا على شكل القرص. كان فطور الصباح في المنازل الكبيرة والمتوسطة والصغيرة لا يخلو من «كَعَك» وارد من مكة لذيذ، مهضوم وصبور تحت أي ظرف مناخي.
في العراق والكويت يسمونه «بقْصَم»، وبقصم كلمة في اللهجة العراقية معناها: قطعة عجين مستطيلة تخبز مرتين حتى تصبح صلبة فلا تنكسر بسهول يأكلها العراقيون بعد أن يغمسوها بأشربة حارة مثل الشاي أو الحليب. وانتقلت الكلمة إلى الكويت والخليج، فلا يعرفون كلمة شابورة والشائعة المتعارف عليها عندهم هي بقصم.
وأرى أن المفردة من مصدر تركي بدليل أن أهل تركيا يسمون فتات الخبز المستعمل لغرض تغليف شرائح اللحم حاليا. والمفردة من اللغة التركيةpiksimet لاحظوا قربها من بقسماط وهو مسحوق الخبز.
أما كلمة الشابورة فلا أراها مستعملة إلا في نجد والحجاز وهي دخيلة ولم تتفق المعاجم على مصدرها. ولابد أن الذين عادوا من الغرب لاحظوا انتشار ثقافة غذائية جديدة، وهي وجود مطاعم وخدمات تغذية تشير إعلاناتها إلى أنها عضوية ولم تدخلها الكيمائيات بذوراً أو سماداً أو تخزيناً. تلك السلع الغذائية تحمل لافتات أسعار غير شريكاتها في رفوف العرض بالقول عنها إنها طبيعية. أي أن أسعارها ضعف مثيلاتها، ومع ذلك فالإقبال عليها واضح.
أُلاحظ في أسواقنا طوفاناً من مغلفات ومعلبات ذات المظهر الخارجي الجذّاب، وهي مظاهر تُشعر المستهلك بالقناعة وتوقعهُ بالتصديق، وتوحي تلك السلع إلى الناس باختصار وقت الطبخ أو التحضير، بما في ذلك المشروبات الباردة الملونة والساخنة، إلى جانب المساحيق المضافة والتلوينات الصناعية. جاءتنا تلك الزجاجات المعبأة بما لا نعرف، فهذا طعم التوت وذاك طعم المانجو أو الموز وآخر طعم البرتقال. والذي أثار ولع الناس بالجاهز من العصائر هو أن الصغار يستقبلونها ضمن وجبة «الفسحة».
اطلعت على الكثير من المحاذير الصحية عن تلك المشروبات، وبدأت مقالتي هذه بالإشارة إلى أن الغرب ترك تلك السلع وراء ظهره، ولا يُقدم للطفل إلا ما ثبت نفعه وانعدم ضرره، وبلادنا ـ ولله الحمد ـ تزخر بالخيرات الطبيعية التي يمكن للأسرة أن تحضّر المشروبات منها والاحتفاظ بها في البرّاد وتزويد فلذات الأكباد بما يُنعش وينفع.
تلك الطريقة المعتمدة على ثقافة الناس ستجعل العصائر الصناعية تختفي تدريجياً دون سن أنظمة وتشديد رقابة ومختبرات، فثقافة الأسرة الغذائية في الغرب كفيلة بطرد طفيليات الغذاء والتربّح على حساب الكسل والجهل.
لن أستطيع أن أحصي سيارات التوزيع الحاملة لدعايات ملونة بأصباغ فنية جاذبة وهي تقف أمام بقالات كل حيّ من أحياء مدننا، وربنا وحده يعلم كيف يجري مزج وخلط وتعبئة المادة في علبتها الكرتونية. ومن البقالة إلى أحشائنا، الكبير منا والصغير.