خالد الفيصل: العقولُ هنا والفرصةُ لنا فاطرحوا فكراً إنسانياً عربيا جديداً
خالد الفيصل: فلسطين قضيّتنا الأولى وتقريرها يمثّل إرادة المقاومة الثقافية
“الرسالة” التي عكسَها انعقاد المؤتمر في “إثراء” كمنارة ثقافية ضمن أعظم 100 موقع بالعالم لـ 2018
أبو الغيط: العالم العربي يعيش أزمةً ممتدة منذ بدأت معركتها مع التحديث وهي في جانب كبير منها أزمة فكر
بجُرأة وصدق ووضوح، وبصراحة وشفافية تلائم اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي، ومؤكداً أهمية التوقّف أمام الأسئلة “الأم” المحورية والمركزية “عربياً”، والأسئلة “الوجودية”، يطرحُ “فكر” ــ في نسخته السابعة عشرة ــ السؤال الذي أثاره المفكر والفيلسوف العربي الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، منذ نحو 40 سنة، في كتابه “تجديد الفكر العربي”.. لكنّ السؤال الذي طرحه “فكر 17” لا يتوقف عند اللحظة، بل يتجاوزها إلى “المستقبل”، كاشفا عن التحديات والمسؤوليات التي تقع على “الفكر” العربي. وبقدر ما تعكس أسئلة “فكر 17” عُمقَ التحديات العربية، بقدر ما تعكس من طموح وأمل وثقة في المستقبل العربي.. المناقشات التي شهدتها جلسات المؤتمر، وأوراقُه تؤكد قوة الطموح وشرعية الأمل وصدق الثقة..
بعد ما يزيد على عقد ونصف العقد من انطلاقته وتنقله بين عواصم ومدن عربية عدة، ألقى المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي “فكر 17” عصا ترحاله لأول مرة في المملكة وفي الظهران تحديدا، في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، الذي احتضن فعاليات المؤتمر، بمشاركة 80 متحدثاً و600 مشارك.
افتتح المؤتمر، الذي استمر 4 أيام، مساء الإثنين 2 ديسمبر 2019م، رسمياً برعاية وحضور أمير المنطقة الشرقية صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف، بالشراكة بين مؤسسة الفكر العربي ومركز “إثراء” بعنوان “نحو فكر عربي جديد” وسط حضور كبير يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة، ورئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الأمير تركي الفيصل، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن خالد الفيصل، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ورئيس أرامكو السعودية كبير إدارييها التنفيذيين المهندس أمين حسن الناصر، وعدد كبير من الحضور رفيع المستوى من مسؤولين وسياسيين ومثقفين وإعلاميين.
ويأتي انعقاد المؤتمر تحت عنوان “نحو فكر عربي جديد”، مركزاً على الحاجة الملحة لمراجعة تيارات الفكر العربي والمفاهيم السائدة فيها، في ضوء التحولات العميقة التي تحدث في العالم، واستجابة لدعوة الأمير خالد الفيصل إلى اعتماد “فكر جديد لنهج جديد” من على منبر مؤتمر “فكر 15” في أبوظبي 2016.
إعادة الاعتبار للفكر العربي
الكلمة الرئيسة الأولى في حفل الافتتاح كانت للمدير العام للمؤسسة البروفيسور هنري العويط، أشار فيها إلى اعتزاز المؤسسة بتعاونها الوثيق مع أرامكو السعودية التي تولي الثقافةَ عامّةً، والتنميةَ الثقافيّةَ خاصّةً، اهتمامًا بالغًا يتجلّى في مشاريعها التثقيفية والتربوية والإعلامية، وتعبّرُ عنه خيرَ تعبير مجلّتُها العريقةُ الراقية “القافلة”، مُعرباً عن سروره بانعقاد المؤتمر لهذا العام في ربوع المملكة، مشيرًا إلى تقاطع رؤيتها “السعودية 2030” التطويرية والتنموية مع أهداف المؤتمر، حيث تنسجمُ مبادرات استراتيجيتها الوطنية للثقافة ــ التي أطلقتها في مارس الماضي ــ مع تطلعاته التجديدية.
وحول شعار المؤتمر، قال إن ذلك ناجم عن رغبتَها في إعادة الاعتبار إلى الفكر، إيمانًا منها بأنّه أداةُ التنوير، وقاطرةُ التطوير، ورافعةُ التنمية، ولما يتسم به تجديد الفكر من طابع عام وشمولي، فهو يندرج في إطار القضايا العامة التي تعني العرب كافة، ورغم ما يتبادر للذهن من أن مسؤولية تجديد الفكر تقع على عاتق المثقفين بصفة خاصة، إلا أن جميع أصحاب الكفاءات، كلٌّ في نطاق اختصاصه، مدعوّون ومؤهّلون للإسهام في ولادة هذا الفكر الجديد، وفي تعزيزه ونشره.
تلى ذلك عرض مصوّر عن مركز “إثراء”، الذي أصبح منارة ثقافية يُشار إليها بالبنان عربياً وإقليمياً وعالميا، حيث وقع عليه الاختيار ليكون ضمن أعظم 100 موقع في العالم لعام 2018م، حسب تصنيف مجلة “تايم” الأمريكية الذي غطى ست قارات و48 دولة.
العويط: مسؤولية تجديد الفكر لا تعني المثقفين فقط وكل أصحاب الكفاءات مدعوّون للإسهام في ولادة الفكر الجديد
قيادات عربية وعالمية تناقش القضايا التنموية والفكرية الملحّة
80 متحدثاً و600 مشارك عربي وأجنبي يناقشون مستقبل الثقافة العربية
4 أيام ناقشت التوجّهات العالمية وتحديد المسار وخلق البيئات المحفّزة للشباب العربي
تجديد شامل ومتوازن
كما ألقى أبو الغيط، كلمة قال فيها إن المرء لا يحتاج إلى جهد كبير ليدرك فداحة وعمق الأزمة التي يعيشها عالمنا العربي بصور ودرجات متفاوتة في الوقت الراهن، مشيراً إلى أنها أزمةٌ ممتدة وليست عرضًا ناشئًا، وما نشهده اليوم هو مظاهر انفجارها واستفحالها وخروجها إلى العلن في صور ماثلة أمامنا، تستفز ضمائرنا وتثير فينا جميعًا الألم والحزن، معتبرًا أنها أزمة تُعانيها أوطاننا من زمن بعيد منذ بدأت معركتها مع التحديث ورغبت في اللحاق بالركب الحضاري، وأن هذه الأزمة في جانب كبير منها أزمة فكر.
وأضاف أبو الغيط أنه يصعب اليوم أن تجد من يجادل في أن الثقافة العربية ليست بحاجة إلى تجديد شامل يهزها من العمق، مشددًا على أن ما نحتاج إليه في هذه اللحظة المأزومة من تاريخنا هو فكر عربي جديد، يكون علمياً بحق، ومعاصراً بحق، وعربيًا بحق. وأكّد ضرورة أن ينصرف الفكر إلى قضايا العصر ولا يبقى أسيراً لأسئلة الماضي، مشدوداً إليها بسلاسل غليظة تحول بينه وبين الانطلاق إلى المستقبل.
فكر إنساني عربي جديد
كلمة الختام في حفل الافتتاح، كانت لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، قال فيها: نعيش في عالم ينتفضُ على الديمقراطية، وعالم يبحثُ أنظمةً ابتكارية، وفوضى “خنّاقة” عربية، ونظام اقتصاديّ مادّيّ، يُنذر بكارثة عالمية، ونحن العرب أمم شتّى، تهيم وفي نفسها شيءٌ من حتّى، لغتها هويّة، وهويّتها لغة، ماضيها مجيد، وحاضرها شهيد، ومستقبلها عنيد، إنّه العصر الرقمي الآلي، كان يوماً خياليا، فأصبح عالميًا تنافسيا، نحن العرب، ولا عجب! نعم استُعمرنا، نعم ظُلِمنا، نعم فرّطنا، لكننا لم نستسلم ولن نستسلم أبدًا، العقولُ هنا، والفرصةُ لنا، اقدحوا العقلَ بالفرصة، والحِكمةَ بالحنكة، واطرحوا فكراً إنسانياً عربياً جديداً.
وفي تصريح صحفي قال المهندس أمين الناصر إننا نفخر بأن مؤسسة الفكر العربي تعقد أول مؤتمر لها في الظهران، عاصمة الطاقة والابتكار، في الموقع الذي تفجرت فيه أول بئر للطاقة النفطية في المملكة، وأن المؤسسة اختارت مركز “إثراء”، وهو قبلة الإبداع، مقراً لانعقاد مؤتمر “فكر 17″، وهو إضافة لإيجاد حلول للتحديات التي يشهدها العالم العربي في سياق التحولات العالمية.
“العربي” الـ 11 للتنمية الثقافية
إلى ذلك أطلقت مؤسسة الفكر العربي تقريرها العربي الـ 11 للتنمية الثقافية، حاملاً عنوان “فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع”، وذلك في حفل خاص أقيم في فندق كمبينسكي العثمان في الخبر، بحضور الأمير خالد الفيصل، الذي قال إن التقرير يعبّر عن نبض كل إنسان عربي، ويمثل المقاومة الثقافية للقضية الفلسطينية، واستعاد سموه العبارة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عن هذا الموضوع، عندما قال إن فلسطين هي قضيتنا الأولى.
وجاء إطلاق هذا التقرير بمناسبة الذكرى الـ 70 لنكبة فلسطين، لا لأنه يُسهم في ترسيخ توجهات المؤسسة الفكرية فحسب، بل لأنه يضطلع أيضًا بمهمة الإعلان عن مفهومها للثقافة ودورها ووظيفتها كفعل مقاومة، كما جاء في كلمة البروفيسور العويط بهذه المناسبة.
جلسات المؤتمر احتوت على العديد من القضايا على الصعيد التنموي الثقافي، حيث استهل ثاني أيام المؤتمر بالجلسة الأولى لأعمال المؤتمر بعنوان “الفكر العربي وآفاق التجديد”، التي رسمت الإطار العام لمداخلات المؤتمر ومناقشاته، من خلال تشخيص حالة الفكر العربي المعاصر، واستخلاص سماته العامّة، وإلقاء الضوء على أبرز تيّاراته وإشكاليّاته، تلتها جلسة عامّة أولى بعنوان “العالَم اليوم.. العالمُ غداً: التحوّلات والتحدّيات والرؤى”، واستعرضت الجلسة تحديد السياق العالمي لمداخلات المؤتمر ومناقشاته، وتطرقت إلى عرض التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم حاليّاً، وانعكاساتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفكريّة، والتحدّيات التي تطرحها على الصُعُد المختلفة، والدعوة لاعتماد رؤى خلّاقة ونهجٍ جديد في التعامل معها.
وعلى هامش الجلسة، أقيمت أربع جلسات متخصّصة بعنوان “نحو سياساتٍ تربوية جديدة لبناء فكرٍ عربيّ جديد”، و”ما هو دور العُلوم الاجتماعية والإنسانية في تجديد الفكر العربي؟”، و”تجديد النظر في مفاهيم الدولة والمواطَنة والمشاركة”، و”التعدديّة وثقافة التسامح والسلم الاجتماعي”.
وفي اليوم الثالث استكمل المؤتمر أعماله بأربع جلسات صباحية متخصّصة، دارت حول قضية “نحو مفهومٍ جديد للتنمية” وأدارها رئيس تحرير مجلة الاقتصاد قصي بن عبدالكريم البدران تحت عنوان (نحو مفهوم جديد للتنمية) وتناولت أهمية مراجعة الأفكار الاقتصادية التقليدية على ضوء التجارب التنموية الناهضة، وكان من أبرز التجارب التي طرحها المشاركون تجربة رؤية السعودية 2030، وتجربة كل من الصين والهند وألمانيا وكوريا بالإضافة إلى تجربة مملكة البحرين ودولة الإمارات ودولة الكويت. وأشار الأستاذ عباس نقي إلى أن سوق الطاقة العالمي يشهد توجهات جديدة من قبيل اعتماد مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما، كما أشاد برؤية المملكة 2030 فيما يتعلق بمبدأ تنويع مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. أما الدكتور ماجد المنيف فقد أورد في مداخلته من خلال الورقة التي قدمها ان الفكر التنموي في بعض الدول لم يتجاوب بما فيه الكفاية مع المتغيرات، كما قدم العديد من الخطوات والحلول اللازمة للتفاعل مع الفكر التنموي الجديد وتجسيده على أرض الواقع. وأثنى على العديد من الأجهزة الحكومية التي شهدت تطورات تقنية سريعة ومتلاحقة، وأنها جاءت اسرع من التطورات المطلوبة لدى القطاع الخاص، كما أورد عدداً من التحديات التي تواجه رؤية 2030، وأبرزها إعادة هيكلة الاقتصاد. أما الورقة التي قدمها الدكتور فهد السلطان فقد تطرق فيها إلى الاقتصاد الخلاق مبديًا العديد من معالمه، وشرح كيفية ايجاد هذا الاقتصاد في المجتمعات العربية والمملكة، مشيرا إلى ان رؤية 2030 تحمل مقومات الاقتصاد الخلاق، وتطرق إلى مسالة اعادة الهيكلة في القطاعين الخاص والعام، وإلى مشروع التحول الوطني، وأبرز الدعائم التي يعتمد عليها. من ناحية الدكتور محمد مراياتي فقد احتوت ورقته على العديد من المصطلحات التي يعد تطبيقها إلى حد ما حديثا على المشهد المحلي من قبيل التخصيص والتحول الوطني والأصول غير المادية والاقتصاد الاخضر والاقتصاد الأزرق والتي جاءت نتاج تطورات العولمة الاقتصادية. وأورد مسميات عديدة ومصطلحات أثرت عملية التخطيط وإعادة النظر في التفكير التنموي الاقتصادي، كما طالب بضرورة الربط بين الاقتصاد والقيم الثقافية ومتطلبات الإنسان النفسية وعلاقتها مع مؤشر الرفاهية مع النمو. أخيراً تطرق الاستاذ حمد العماري إلى العديد من التجارب العلمية الاقتصادية مثل ألمانيا والصين والإمارات والبحرين والكويت، وركز على تجربته في الاستعدادات الأولى ضمن فريق عمل شارك به وقتما كان في هيئة الاستثمار السعودي أثناء مناقشة مشروع رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني، كما تحدث عن منهجية جديدة للتنمية، اعتماداً على تجارب الدول التي ذكرها وأبرزها مملكة البحرين.
قضايا المسستقبل
ومن أهم جلسات المؤتمر، تلك التي شارك فيها أربعة من كبار المفكرين الاقتصاديين، حيث تمت مناقشة ما يحدث على الساحة العالمية من تطورات متلاحقة على مختلف الأصعدة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي والتنموي، فصار الاقتصاد ساحة صراع دولي، ولم تعد المعارك تعتمد على السلاح فقط، بل أصبحت قوة الدول والأمم في الوقت الحاضر بما تملكه من قدرات ومعارف وتقنيات، والجلسة الثانية بعنوان “الصناعة والتصنيع كركائز أساسيّة للتنمية”، و”الاقتصاد الرقمي”، و”أيّ دور لهيئات المجتمع الأهلي في تجديد الفكر العربي؟”. أما الجلسة العامّة الثانية فحملت عنوان “الثورة الصناعية الرابعة” وقد شهدت الجلسة نقاشاً غنيّاً تناول تعميم تطبيقات الثورة الرقمية والتكنولوجية على مناحي الحياة كافّة عبر الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية، فضلاً عن الطباعة الثلاثية الأبعاد، والمركّبات المستقلّة وغيرها. تلاها عرض تقارير حلقات النقاش الخاصّة بالشباب. واختتمت أعمال المؤتمر في اليوم الرابع والأخير 5 ديسمبر، بعرضٍ مفصّل لتقارير الجلسات المتخصّصة، ثم عقدت الجلسة العامّة الثالثة بعنوان “المثقّفون العرب ودورهم في تجديد الفكر العربي”، حيث تمت مناقشة التحدّيات التي تواجه الثقافة العربية والمسؤوليّات التي تقع على عاتق المثقّفين العرب في نقد الفكر السائد، وفي التوعية والاستنهاض، وتبنّي ثقافة التطوير والتغيير، من أجل تحرير الفكر من المعوّقات التي تقيّده، ومدّه بالحيوية الخلّاقة.