نافذة

كل مشرُوك مبرُوك

ثلاثة طلاب لم يتخرجوا بعد من كلية التجارة، طلبوا مني مساعدتهم في الحصول على مقر مناسب لمشروعهم الخاص الذي بدأوه منذ عامين ونما وصار في حاجة إلى عمل مؤسسي بوجود مقر، وموظفين، ودورة مستندية متكاملة.

تشاركوا سويًا في مشروع لبيع ملابس الشباب أونلاين، حيث أوجدوا لأنفسهم علامة تجارية مميزة، واتفقوا مع جهتين، الأولى: مصنع ينفذ تصميماتهم المبتكرة وفق أحدث خطوط الموضة، والأخرى: شركة توصيل وتسليم المنتجات لأي مكان بالمنطقة العربية.

وفي جلسة ودية، حضرها الجميع، أفصحتُ لهم عن أسرار وأسباب نجاح الشراكة من وجهة نظري، وهي ثلاثة:

الأول: النية، بأن تكون خالصة وموجهة لنجاح الجميع، وليس لصاحب النية فقط. يكمُن هذا السبب داخل الإنسان، فقد لا تظهر النية الحقيقية للشراكة إلا في وقت متأخر. من وجه آخر، لا يبغي إلا مصلحة نفسه ونفسه فقط. وإذا استحضر الشريك، نيةً صادقة وخوفًا من الله عز وجل أثناء الاتفاق، لن تجد شركاء ينقلبون على بعضهم، ولن نجد غشًا أو أحدًا يأكل حق الآخر، لخوفه من الله تعالى.

الثاني: توزيع الأدوار، بتولي شخص التسويق، وآخر المحاسبة، وثالث التحصيل، وهكذا، بحيث لا يتداخل دور أحد مع الآخر، أو يتنازعان القرار في نفس الموضوع، المهم أن يُكمل بعضهم بعضًا.

السبب الثالث: وضع ميثاق، وليس مجرد عقد اتفاق، لتنظيم وتوثيق كل ما يتم الاتفاق عليه كتابةً، ويجيب عن كل التساؤلات الخاصة بتقسيم حصص الشركاء، بما فيها ما يجب تجاه الشريك المتوَفَّى مثلًا أو الذي يريد التخارج بعد فترة معينة.

ذكرتهم بالآية القرآنية الكريمة في سورة البقرة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ”. فتوثيق المعاملات والاتفاقات بالكتابة لا غنى عنه لتلافي سوء فهم أو نزاع محتمل مستقبلًا.

كانت هذه ثلاث وصايا لنجاح الشراكة بينهم. والآن ـ بعد مرور عامين على لقائي بهم ـ طلبوا مني زيارتهم في مقرهم الجديد المملوك لهم، وليس المقر القديم المُستأجَر، في قصة نجاح لشراكة بين شباب أفتخر دومًا بهم، وقد صدق فيهم المثل العربي القديم: “كل مَشرُوك مَبرُوك”، وصدق الله تعالى بقوله في الحديث القدسي: “أنا ثالث الشريكيْن ما لم يَخُن أحدهما الآخر، فإذا خانه خرجت من بينهما” رواه أبو داوود.

أختم بروايتين حقيقيتين حدثتا في مصر والسعودية، حيث مرض شريك لمحمود العربي، رئيس اتحاد الغرف التجارية الأسبق، بعد افتتاح محلهما في القاهرة بيومين فقط، وظل طريح الفراش لعامين قبل أن تصعد روحه لبارئها. وقف العربي بجانب شريكه ورفض التخلي عنه، بل تولى أمر أبنائه الأربعة، حتى كبروا وأنهوا تعليمهم بنجاح، وحصلوا على حقوقهم كاملة.

بدأ محمود العربي حياته في عالم الأعمال بأربعين قرشًا فقط، ليصل الآن لإمبراطورية صناعية وتجارية يفتخر بها وطنه قبله وقبل عائلته، وربما أتت “البركة” من وفائه والتزامه تجاه شريكه في مرضه ولأولاده من بعده.

وفي مدينه بريدة، يقول أحد التجار: كنت أعمل في التجارة مع صديقي سعود، وذات يوم ذهبت لصلاة الجمعة في الجامع الكبير كعادتي، فقال الإمام: الصلاة على الجنازة، وتساءلنا من المُتوَفَّى؟! فكانت الإجابة صادمة! إنه شريك وصديق العمر سعود، الذي تُوفِّي بسكتة قلبية ليلًا، دون علمي بالخبر. كان هذا الحادث في منتصف التسعينيات قبل انتشار وسائل الاتصال السريعة. ويضيف: صلينا الجنازة، ثم بعد شهور من الحادث، بدأت تصفية حساباتي المادية مع أبناء سعود وورثته، وكنت أعلم أن سعود مَدين بمبلغ 300 ألف ريال لأحد التجار، فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص الدَيْن عند أبناء سعود، وحيث أن الديْن لم يكن مثبتًا بشكل واضح، كونه تم عبر عدة صفقات لم يتضح لأبناء سعود ما إذا كان والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟، فرفضوا السداد، ما لم تكن هناك أوراق تثبت هذه المديونية.

ولأن العلاقة حينها بين التجار، كانت تحكمها الثقة، فلم يوثق ذلك التاجر مراحل السداد بوضوح، ولم تُقبل شهادتي، وصارحني أحد أبناء سعود قائلًا: لم يترك لنا والدي سوى 600 ألف ريال، فهل نسدد الديْن الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال؟! دارت بي الدنيا وتخيلت صديقي سعود مُعلقًا في قبره مرهونًا بِدَيْنه، فكيف أتركك وأتخلى عنك يا صديق الطفولة ويا شريك التجارة؟!. بعد يوميْن لم أنم فيهما، كلما أغمضت عيني، بدت لي ابتسامة سعود الطيبة، وكأنه ينتظر مساعدتي. عرضت محلي التجاري بما فيه من بضائع للبيع، وجمعت كل ما أملك وكان المبلغ 450 ألف ريال، فسددت دين سعود.

بعد أسبوعين جاءني التاجر الدائن لسعود وأعاد لي مبلغ 100 ألف ريال!، وقال: إنه تنازل عنها عندما عرف أنني بعت بضاعتي ومحلي من أجل سداد دين صديقي المتوَفَّى، كما ذكر قصتي لمجموعة من التجار، فاتصل بي أحدهم وأعطاني محليْن كان قد حولهما لمخزنيْن، لأعود لتجارتي من جديد، وأقسم ألا أدفع أي مبلغ، وما إن استلمت المحليْن ونظفتهما، إلا وسيارة كبيرة مُحملة بالبضائع نزل منها شاب صغير وقال: هذه البضائع من والدي التاجر، يقول لك عندما تبيعها سدد لنا نصف قيمتها فقط، والنصف الباقي هدية لك، وكل ما احتجت بضاعة فلك منا بضائع على التصريف.

أشخاص لا أعرفهم ساعدوني من كل مكان، فانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت قبل الحادثة؛ حتى أنني أخرجت زكاة مالي بقيمة ثلاثة ملايين ريال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.