لم يعد كافيا إعداد دراسة جدوى اقتصادية للمصنع أو المنشأة التجارية، فالجدوى هنا في العادة هي القدرة على تحقيق الأرباح واستعادة رأس المال بأقل تكاليف ممكنة، ومدة زمنية معقولة، هذا هو الهدف الأسمى والمستدام أيضا، وفي الطريق لتحقيقه، يمكن النظر في عناصر أخرى، مثل التوطين واستخدام مواد خام محلية وغيرها، وقد لا ينظر إليها إلا على الورق.
أما إذا ما كانت تلك العناصر، تضعف الجدوى الاقتصادية أو تؤخر تحقيق الأرباح، فسيتم إهمالها والتغاضي عنها، وبالمختصر الأرباح أولا بأقصر مدة وأكثر كم وحجم.
جائحة «كورونا» المستجد قلبت هذا المفهوم رأسا على عقب وبصدمة قاسية، دعس الفيروس على فرامل الحركة العالمية فتوقفت توقفا أحدث كدمات عميقة في الاقتصاد العالمي وفي المنشآت المختلفة، هذا التوقف أدى لخسائر ضخمة، بل تحول إلى ثقب أسود امتص احتياطيات مجمعة.
نظريا ـ وهو احتمال ـ فإن هذا الحدث الجسيم الذي أوقف الكرة الأرضية على رجل واحدة، وحبس أنفاس البشر، سيغير الكثير، وعلى سبيل المثال في موضوعنا، فالجدوى الاقتصادية لن تكفي وحدها، فلابد أن يكون معها أو يسبقها جدوى اجتماعية للمشروع، بل إنها ـ للمتفائل بالتغيير ـ هي الأصل. فإذا كان المصنع سيحقق الأرباح، لكنه سيلوث البيئة ببطء، وقد يطول هذا التلوث البشر والحجر، مما تنتج عنه تكاليف باهظة ستدفع في المستقبل، فهو غير مجدٍ، وإذا كان تحقيق الربح يعتمد على عمالة رخيصة غير مكلفة في السكن والمعيشة والتطبيب، فهو غير صالح للاستثمار، لأنه في واقع الأمر يدفن قنبلة موقوتة ستنفجر يوما ما في المجتمع، وإذا كانت الجدوى الاقتصادية المغرية، تعتمد على مواد خام تجلب من الخارج، فهو نقطة ضعف كبيرة بمثابة إعلان عدم جدوى، بسبب خطورة توقف المواد في أية لحظة، بعد أن تسبب فيروس ـ لا يرى ـ في إقفال الحدود، ومنع الصادرات لسلع مختلفة.
منع تصدير سلع صحية من مستلزمات أو أجهزة تستخدم في مواجهة الجائحة، نبه أيضا إلى أهمية المرونة في الصناعة، أي القدرة على تحويل مصانع لإنتاج منتجات أخرى بأقل تكاليف ممكنة، ربما هذا يضاف إلى التغيير الذي سيحدثه كورونا المستجد في الاستثمارات، إلا أن هذا كله معلق على تجديد الأنظمة، إذا قامت الدول باستحداث أنظمة جديدة تضع في الحسبان احتمالات الأوبئة وغيرها من الأخطار المختلفة، بما فيها من قدرة تحمل ارتفاع التكلفة، أما إذا لم تسن أنظمة، فالأقرب أنه بعد أن يتم إنتاج وتسويق لقاحات منتظرة تحيد الفيروس، أو تقضي عليه، فالمتوقع أن يتم نسيان كل هذه الدروس التي يكثر الحديث عنها.