كان قرارًا حكيمًا وخطة استراتيجية متميزة، تلك التي أدت إلى توقف حرق مليارات من وحدات الغاز المصاحب يوميًّا، وتحويله إلى الاستغلال الصناعي وتوليد الطاقة الكهربائية، كما كان يتطلب المنطق السليم. ذلك الحدث التاريخي يعود إلى بداية الثمانينات الميلادية، بعد أن أكمل حرق الغاز المصاحب أكثر من ثلاثين عامًا. والسبب الرئيسي لحرق الغاز آنذاك، يعود إلى كون إدارة شركة الإنتاج حينها أجنبية، شركة الزيت العربية الأمريكية، أرامكو. واستغلال الغاز صناعيًّا لم يكن يدر ربحًا كبيرًا، مقارنة مع دخل البترول. وكان هناك شك في جدواه الاقتصادية، ولذلك أهملوه واختاروا أسهل وأرخص الوسائل للتخلص منه وهي حرقه، رغم أهميته صناعيًّا وكمصدر للطاقة.
وكانت مشاهد محارق الغاز المنتشرة في وسط صحراء الشرقية بالنسبة لنا كمواطنين مناظر مؤذية، وتحز في النفوس ألمًا على هدر الغاز، باستثناء نسبة متواضعة من مجموع إنتاج الغاز كان الشيخ عبدالله الطريقي ـ يرحمه الله ـ قد أقنع الشركة بضخها في حقلي بقيق وعين دار. تلك كانت بادرة طيبة من ضمن المنجزات الوطنية التي تمت في عهده ونتيجة مجهوده الكبير. وكان الهدف الذي استطاع ـ رحمه الله ـ إقناع الشركات الأمريكية بتنفيذه غير راغبين، الحفاظ على الضغط داخل مكامن تلك الحقول. واستمرت عملية حقن كمية من الغاز من نهاية الخمسينات حتى أواخر السبعينات، عندما اكتمل بناء مشروع تجميع الغاز وتوقف حرق الغاز في جميع مناطق الإنتاج.
في منتصف السبعينات، بعد بدء مفاوضات نقل ملكية شركة أرامكو إلى الحكومة السعودية، قيض الله لنا من المسؤولين مَنْ تهمهم مصلحة البلاد. فقرروا الدخول في مشروع عملاق لتجميع الغاز المصاحب من كافة مرافق الإنتاج وتحويله إلى لقيم ووقود لمختلف الصناعات البتروكيماوية والطاقة، بدلاً من هدره وتلويث البيئة، وذلك على حساب الدولة. وهكذا تم إنشاء مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، كنواة للمجمعات الصناعية في المملكة. وخلال أول سنة من الثمانينات أُطفِأت جميع شُعَل إحراق الغاز في بلادنا، إلا ما له علاقة بسلامة معامل إنتاج وتكرير البترول، وهي كميات ضئيلة جدًّا.
والشاهد هنا، هو أن تأسيس شركة سابك، شركة الصناعات الأساسية السعودية العربية، التي معظم منتجاتها الحالية، مواد خام للصناعات التحويلية التي تنتهي مخرجاتها كسلع استهلاكية ومنتجات متنوعة لا حصر لها. والمصانع التحويلية معروفة بكثرة وتنوع مصانعها وكثافة العمالة فيها، مما يفتح مجالاً واسعًا لطلب التوظيف. وهو ما نحن بحاجة إليه وهدف من أهداف التنمية الصناعية لاستيعاب العدد الكبير من المواطنين الذين سوف يبحثون عن فرص العمل في المستقبل. وكان أملنا في بداية إنشاء شركات سابك ألا يمضي إلا وقتً قصير ونرى المصانع التحويلية على أرض الواقع، وهو أمر لم يحدث بعد. وتمضي السنون، ما يزيد على خمس وثلاثين عامًا منذ بدء عملية التصنيع في مدينتي الجبيل وينبع، ولم نشاهد ما يبعث على الأمل فيما يتعلق بإنشاء مرافق الصناعات التحويلية في المملكة.
وقد تكون العوائق عوامل اقتصادية وتسويقية ولوجستية، إضافة إلى المنافسة الشرسة الموجودة في السوق العالمية. ولكن، مهما كان الأمر، فلابُدّ من طرق باب التصنيع التحويلي وبذل أقصى مجهود لإيجاد منفذ للبدء ومحاولة حل معظم العقبات من أجل مستقبل أفضل لأجيالنا. ولا شك أن الموضوع صعب وفيه تحدٍّ كبير للمستثمرين من نواحي الجدوى الاقتصادية، ولكن كل ذلك لا يمنع من الاستمرار في طرق أبواب الصناعات التحويلية المناسبة لبيئتنا وإمكاناتنا وظروفنا. ولا بأس من البدء في مراحل مستوى الاستهلاك المحلي، كدعم للاقتصاد الوطني وإيجاد فرص عمل للمواطنين.