معروف أن الين الياباني يعتبر تاريخيًا من الملاذات الآمنة، ولكن خلال الحرب الروسية الأوكرانية لم يلعب الدور المعهود له، لا بل تعرّض لتراجعات كبيرة وصلت إلى أقل مستوى له في 20 سنة.
وتعتبر اليابان من كبار الدول المصدرة عالميًا، وطبعًا مع شركاتها الكبيرة التي تنتشر منتجاتها في العالم من شركات السيارات إلى الشركات الإلكترونية وشركات التكنولوجيا، ومع مكانتها الكبيرة عالميًا فمن الطبيعي أن تُراقب بشكل دائم معدل سعر الصرف للين مع العملات وخصوصًا مع الدولار.
بالإضافة إلى ذلك تولي اليابان اهتمامًا أيضًا بـ “الوون الكوري، والرنمينبي الصيني” بسبب المنافسة الكبيرة مع صادرات الصين وكوريا الجنوبية مما أدى أحيانًا إلى مخاوف من نشوء حرب عملات تتسابق فيها الدول إلى تخفيض عملاتها أو السماح لها بتراجعات ملحوظة من أجل كسب ميزات تنافسية لصادراتها. فمثلاً اليابان مع شركات مثل: سوني وتويوتا ونيسان، وشركات أُخرى تنافس صادرات كوريا الجنوبية مع شركات مثل: سامسونج وهيونداي، وخصوصًا أن كوريا استطاعت أن تحافظ على رقم مهم من الصادرات وكانت دائمًا فوق 500 مليار دولار مع ناتج محلي إجمالي يقترب من تريليوني دولار وعند حوالي 1.8 تريليون دولار. وتشكل صادراتها %30 من اقتصادها، لذلك تتأثر الدولة بقوة من حالة الاقتصاد العالمي ومن مشاكل سلسلة التوريد والتضخم القوي الذي يضرب اقتصادات الدول المتقدمة. أما بالنسبة إلى الصين والتي ظلت لسنوات طويلة تعمل على تدويل اليوان والسيطرة المستمرة على نطاق حركة تذبذب عملتها، وكانت هناك انتقادات متواصلة من الولايات المتحدة الأمريكية بأن عملة الصين مقوّمة بأقل من %30 من قيمتها.
ويذكر أن اليابان كان يشار إليها في السابق كثاني أكبر اقتصاد في العالم ولكن ما حدث من تطورات فيها وخصوصًا بما يعرف بالعقد الضائع بعد انفجار فقاعة الأصول هناك وانهيار سوق الأسهم عندما وصلت إلى حوالي 39 ألف نقطة في نهاية 1989م وبعدها حصل سقوط السوق بطريقة دراماتيكية وصلت إلى %82 من قمته التاريخية عند مستويات دون 7 الآلف نقطة في عام 2009م.
طبعًا هذا السقوط أثر بقوة على سلوك السوق والمتعاملين، إذ أخذت أكثر من 30 عامًا لتعود مرّة جديدة إلى مستويات 30 ألف نقطة. وأما على صعيد الاقتصاد ففي نظرة سريعة على ما حصل في الاقتصاد نجد أن الناتج المحلي الإجمالي كان عند 5.3 تريليون دولار في عام 1995م مع لقب ثاني أكبر اقتصاد عالمي وبعدها دخل في مرحلة جمود على مدى 25 سنة، إذ سجل 5.7 تريليون دولار في فترة ما قبل كورونا، وفي المقابل كان حجم الاقتصاد الصيني أقل من 1 تريليون دولار (عند 756 مليار دولار) في عام 1995م وأخذ يسجل ارتفاعات متتالية قياسية في نفس الفترة إلى أن سجل في فترة كورونا 14 تريليون دولار، وانتزعت الصين من اليابان لقب ثاني أكبر اقتصاد، لا بل أكثر من ذلك أصبح اقتصادها يعادل مرتين ونصف اقتصاد اليابان. وبالإضافة إلى ذلك كانت اليابان تمثل %18 من الاقتصاد العالمي وحاليًا أصبحت الصين تملك هذه النسبة.
أعود الآن إلى الين الياباني والذي يحتل المركز الثالث عالميًا من حيث التداول (بعد الدولار واليورو) وفي السابق عند حصول ارتفاعات حادة للين كان بنك اليابان يتدخل بشكل مباشر في أسواق العملات للحد من هذه الارتفاعات بائعًا الين مقابل العملات الأخرى، وكان يبعث بتحذيرات إلى السوق قبل عدة أيام من تدخله. الآن الصورة اختلفت حيث نشاهد هبوطًا مستمرًا للين منذ فترة إلى أن سجل أقل مستوى أمام الدولار في 20 سنة وكان عامل الاختلاف في السياسة النقدية بين البلدين هو المؤثر الأول في تراجعات الين على مدى شهور طويلة. وكما وقت الارتفاعات الحادة كانت هناك تحذيرات من بنك اليابان بسبب عامل تنافسية الصادرات، الآن نعود ونشاهد نفس التحذيرات وقت تدهور الين لأنه يجعل كلفة معيشة اليابانيين أغلى.
وزادت متاعب اليابان مع صعود أسعار النفط مصحوبة بتراجعات الين القوية وبالتالي فاتورة البلد من النفط ترتفع بقوة، والجدير بالذكر أن استهلاك اليابان قبل كورونا كان عند 3.7 مليون برميل يوميًا مقارنة بالرقم القياسي في عام 1996م والذي سجل 5.9 مليون برميل يوميًا أما بالنسبة لأقل مستوى فسجل في عام 1965م وكان عند 1.7 مليون برميل يوميًا.
وبالتالي أسوأ سيناريو ممكن تواجهه اليابان بالنسبة لفاتورتها النفطية هو عند تحليق النفط فوق 100 دولار ومتلازمًا مع تراجعات قوية للين.
وأنتقل الآن إلى عملة أخرى تعتبر من الملاذات الآمنة وهي عملة سويسرا، إذ لم يتعرض الفرنك السويسري لتراجعات مثل الين، بل حافظ على سمعته وفي نظرة تاريخية على سلوكه، فمثلاً خلال أزمة عام 2011م كان هناك طلب كبير عليه واضطرت سويسرا أن تربط الفرنك مع اليورو إلى عام 2015م حيث تم فك الارتباط مع اليورو وعدم التدخل عندما كان معدل الصرف يهبط دون 1.20 فتعرّضت الأسواق إلى هزة قوية وارتفع الفرنك بقوة أمام الدولار واليورو، ووصلت هذه الارتفاعات إلى %40 في جلستين فقط، اليوم الفرنك رغم تصنيفه من الملاذات ولكن يظل لا يستطيع استيعاب الطلب الكبير عليه وقت الأزمات .