الطلب على تعويضات الكربون يمكن أن يزداد 15 مرة أو أكثر بحلول عام 2030م، ونحو 100 مرة عام 2050م
بلغت أنظمة تجارة الكربون 23 نظامًا عام 2020م وثمة أكثر من 60 برنامجًا خاصًا بتجارة الكربون
المملكة لديها 13 مشروعًا تعمل بنفس الوقت للحد من انبعاثات الكربون، بحجم استثمارات 34 مليار ريال
كحل وسط بين حاجة البشرية للمزيد من الصناعات، وعدم الإضرار بالبيئة، ظهر عام1997م ما عُرف بأسواق أو تجارة الكربون (كربون ماركت)، وذلك عقب بروتوكول كيوتو للمناخ، وهو معاهدة بيئية دولية خرجت للضوء في قمة الأرض عام 1992م، من أجل المساعدة في تعبئة الموارد وتقليص التكاليف بما يتيح للبلدان والشركات المجال لتسهيل التحوُّل إلى اقتصاد منخفض الكربون.
ورغم نشأة هذه السوق منذ أكثر من عقدين تقريبًا؛ فإنها لم تشهد الزخم الكبير سوى في السنوات الأخيرة، وذلك مع تزايد السياسات العالمية الخضراء الرامية إلى تحقيق الحياد الكربوني؛ إذ ارتفع حجم تعويضات الكربون المبيعة ضمن الأسواق الطوعية إلى أكثر من مليار دولار لأول مرة في عام 2021م، هذا وتقدّر شركة ماكينزي أن الطلب على تعويضات الكربون يمكن أن يزداد 15 مرة أو أكثر بحلول عام 2030م، ونحو 100 مرة عام 2050م.
شراء وبيع الكربون
وتتبادل الدول في ظل تجارة الكربون، شراء الانبعاثات الكربونية بين الشركات، وتحويل الأرباح لمشاريع تحافظ على البيئة؛ إذ تستطيع الدولة التي لديها المزيد من انبعاثات الكربون أن تشتري الحق في انبعاث المزيد، وأن البلاد التي لديها انبعاثات أقل تبيع الحق في انبعاث الكربون إلى دول أخرى، وبالتالي فالبلدان التي تنبعث منها كميات أكبر من الكربون تلبي احتياجاتها من انبعاثات الكربون، وينتج عن سوق التجارة أكثر أساليب الحد من الكربون فعالية من حيث التكلفة التي يتم استغلالها، فالشركات التي تدير مصنعًا يطلق كمية كبيرة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يمكن لها شراء أرصدة الكربون لتعويض هذه الانبعاثات، ويتم إنشاء هذه الاعتمادات من خلال تنفيذ مشاريع خفض الانبعاثات في أجزاء أخرى من العالم، مثل: تركيب مصادر الطاقة المتجددة أو تنفيذ تدابير كفاءة الطاقة أو زراعة الغابات، ما يمثل أحد الخيارات المهمة في حماية البيئة من المخاطر التي تهدّدها، وهو ما يؤكده عضو مجلس الشورى السابق، والخبير الاقتصادي، الدكتور أسامة الكردي، إذ أوضح بأن سوق الكربون من الخيارات الرائدة، التي تهدف لحماية البيئة من المخاطر، فكل دولة أو شركة لها نسبة معينة من الكربون يسمح لها بأن تطلقه في الهواء، وفق اتفاقية البيئة، ولا يسمح لها بتجاوزها، والمضطر لأن ينفث كمية أكبر عليه أن يشتريها من أحد آخر، فمثلاً إذا كان حد الشركة 100 طن من الكربون، ويحتاج لأن ينفث أكثر من ذلك، يذهب لشركة أخرى مسموح له بأن تنفث 100 طن أخرى، ولكنّها لا تستخدم إلا 80 طنًا، فيقوم بشراء العشرين طنًا المتبقية للشركة الأولى منها، وهذه الأموال تذهب للمشاريع البيئية، وتطوّر فيها الشركة الثانية تقنياتها لتبث كربونا أقل في المستقبل، بهدف أن تبيع الفائض مجددًا، مؤكدًا أنها فكرة رائدة، وتهدف للسيطرة على الانبعاثات الكربونية في الجو، فالهدف الأول لها ليس البيع والشراء بل وقف بث ثاني أكسيد الكربون، كما أن أموال التداول تذهب لمشاريع خضراء، تطوّر قدرات المصانع والشركات لتحسّن إمكانياتها الفنية، وتقلّل من الانبعاثات الكربونية.
طوعي وإلزامي
وثمة نوعان من أسواق الكربون، التي تتميز بكونها توفر التمويل لمشاريع خفض الانبعاثات التي لم تكن مجدية اقتصاديًا لولا توافر دعم ناتج عن بيع شهادات الكربون، ويمكن لمطوّري المشاريع تحقيق إيرادات من الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتي يمكن إعادة استثمارها في جهود إضافية لخفض الانبعاثات، الأول: طوعي، والثاني: إلزامي، والذي تكون فيه الشركات ملزمة بشراء أرصدة الكربون عندما تزيد انبعاثاتها على حد معين، من خلال تصاريح تُصدر من الحكومات. أما الشركات الأقل إطلاقًا للانبعاثات يمكن لها بيع تصاريحها الإضافية، لكيانات أُخرى تصدّر انبعاثات كثيرة، وهو ما يُجنب الأخيرة العقوبات الحكومية وفقًا لنظام تداول الكربون، أما أسواق الكربون الطوعية، فإنها اختيارية، بحيث يُسمح للشركات التي تخطط للحياد الكربوني ولا تندرج تحت أنظمة تداول الانبعاثات الوطنية بأن تحقق أهداف خفض الانبعاثات، سواء من خلال تجنّب الانبعاثات على طريق زراعة الأشجار مثلًا، أو إزالة هذه الانبعاثات من خلال استخدام تقنية احتجاز الكربون وتخزينه.
وقد دفعت الجاذبية الاستراتيجية للتعويضات الكربونية سوق الكربون إلى النمو بشكل متزايد في الفترات الأخيرة، إذ اتسعت أسواق تجارة الكربون بمناطق جغرافية معينة تعمل وفق أساليب متفاوتة في مواصفاتها وسلامة شهاداتها المتداولة ومصداقيتها، واتسعت بالتابعية أنظمة تجارة الكربون في العديد من الدول، والتي بلغت نحو 23 نظامًا عام 2020م تغطي %9 من الانبعاثات العالمية، وثمة أكثر من 60 برنامجًا خاصًا بتجارة الكربون على المستويات المحلية والوطنية، كما أطلقت الصين نظام تداول الانبعاثات الخاصة بها لتغطي جميع مبادرات تسعير الكربون ما يقرب من %20 من إجمالي الانبعاثات العالمية، وتعد الصين صاحبة أكبر سوق للكربون في العالم، بسبب حجم اقتصادها الأكبر، وبحسب شركة ريفيني تف للبيانات، بلغ حجم سوق الكربون الإلزامية والطوعية في العالم عام 2021م نحو 851 مليار دولار %95 منها في أوروبا، بارتفاع أكثر من %164.
الاتحاد الأوروبي
ويبدو واضحًا أن العالم يتحرك بسرعة نحو سوق الكربون، وذلك من خلال الاهتمام المتزايد بالاستثمار المباشر في المشاريع التي تولّد اعتمادات الكربون؛ إذ توصل الاتحاد الأوروبي مؤخرًا إلى اتفاق لتعزيز وتوسيع سوق الكربون الرئيسي، وأيّد محور استراتيجية الصفقة الخضراء الأوروبية التي تهدف إلى جعل اقتصاد الاتحاد الأوروبي محايدًا مناخيًا بحلول منتصف القرن، والذي بموجبه سيتم توسيع نطاق تداول الانبعاثات ليشمل التدفئة والنقل البري، وأيضًا الشحن، وسيعمل الاتحاد الأوروبي على تسريع وتيرة التزام الشركات من منتجي الطاقة إلى صانعي القرار.
وأنهى التوافق الأوروبي حقوق التلوث الصناعية المجانية ويفرض ضرائب على الانبعاثات المرتبطة بالتدفئة والسيارات والسفن والطائرات، وتم التوصل له بعد محادثات صعبة، ليكون حجر الزاوية في خطة المناخ الأوروبية.
شركة الكربون الطوعي
وفي سياق مماثل تستعد المملكة لدخول سوق الكربون بشكل واسع، من خلال تأسيس شركة سوق الكربون الطوعي الإقليمية التي أسسها صندوق الثروة السيادي بشراكة مع مؤسسة تابعة لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية، برأس مال يبلغ نحو 500 مليون ريال، بهدف استخدام التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية لمكافحة تغير المناخ، وتتوزّع ملكيتها بنسبة %80 للصندوق، و%20 لمجموعة تداول السعودية القابضة.
ما يفتح الأبواب للترويج لسوق الكربون الطوعية في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي وتقديم خدمات استشارية وتمويلية للشركات التي تهدف إلى خفض انبعاثات الكربون للحصول على أرصدة الكربون من أنشطتها.
وكانت المملكة قد أطلقت مع بداية العام الجاري، سوق شهادات غازات الاحتباس الحراري، الذي تحدث عنه وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان بقوله على هامش مبادرة منتدى السعودية الخضراء وذكر بأنه الهدف منه هو الحد من انبعاثات الكربون. موضحا بأن لدى المملكة أكثر من 13 مشروعًا طموحا تعمل بنفس الوقت، بحجم استثمارات بحدود 34 مليار ريال.
الشركة الوسيط
وتعد الشركة الجديدة (سوق الكربون الطوعي الإقليمية)، بمثابة الوسيط بين الشركات، فهناك شركات تريد أن تشتري الكربون وأخرى تريد أن تبيعه، وكلاهما يحتاج لوسيط ينفذ العملية، ويتولى عملية تحويل الأموال، وهو ما يفسر شراكة تداول في المشروع، وهي نتاج مبادرة سابقة كان قد أطلقها صندوق الاستثمارات العامة ومجموعة تداول السعودية لتداول الائتمان الكربوني، والتي أشاد خلالها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، الأمير محمد بن سلمان، بالدور الرائد للمملكة في المنطقة في مواجهة تحديات تغير المناخ وتحفيز المؤسسات على تقليل انبعاثاتها الكربونية، امتدادًا لجهودها في هذا المجال والرامية إلى المساهمة في تقليل الآثار السلبية الناجمة عن التغير المناخي.
وبحسب نائب المحافظ، ورئيس الإدارة العامة لاستثمارات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالصندوق السيادي، يزيد الحميّد فإن الشركة سيكون لها دور مهم في تعزيز جهود صندوق الاستثمارات العامة في دعم مبادرات المملكة لتعزيز الاستثمار والابتكار لمواجهة تأثير التغير المناخي، وتحقيق الحياد الصفري بحلول عام 2060م
وتكمن أهمية سوق الائتمان الكربونية التي تم إطلاقها بتداول 1.4 مليون طن من الكربون في أنها سوق للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتم إدارتها من قبل أكبر سوق مالية في المنطقة، وتستقبل الشهادات المعترف بها دوليًا، فبذلك يمكن للمستثمرين والجهات المهتمة الاستفادة منها بالطريقة التي تحقق أهدافهم.
كما أن هذه السوق ـ كأي سوق مالية أخرى ـ من الممكن الاستفادة منها لأهداف المضاربة والاستثمار والتحوّط، ومن المتوقع أن تشهد الأعوام المقبلة اهتمامًا متزايدًا بهذه السوق لعدة أسباب أهمها أن سقوف الانبعاثات في نزول مستمر، ما يعني ارتفاع سعر شهادات الائتمان الكربوني.
ففي الشهر الماضي أعلن الصندوق إتمام طرح أول سندات دولية خضراء بقيمة 3 مليارات دولار، فيما يعمل الصندوق بالتوازي على برنامج الطاقة المتجددة، والذي يتضمّن تطوير %70 من قدرة توليد الطاقة المتجددة في المملكة بحلول عام 2030م، ويأتي هذا الإعلان تماشيًا مع طموحات وأهداف المملكة المناخية التي تتمثل في الإسهامات المحددة وطنيًا، التي تستهدف تقليل الانبعاثات بمقدار 278 مليون طن سنويًا من الكربون المكافئ بحلول عام 2030م، إضافة إلى الوصول للحياد الصفري بحلول العام 2060م، وانضمامها إلى مبادرة التعهد العالمي بشأن الميثان لخفض الانبعاثات العالمية لغاز الميثان بنسبة %30 بحلول عام 2030م.