الإيراد الإجمالي للوظائف التي تتم عن بعد حول العالم بلغ أكثر من خمسة بلايين دولار
تـجـــنــب التخـلــــي عن الوظيــفـــــة الاعتيادية خاصة في بداية تجربة العمل من المنزل
في سبعينيات القرن الماضي، واجهت الولايات المتحدة أزمة كبيرة في وقود البنزين تعطّلت على أثرها وسائل النقل بين الولايات والمدن وإن توفرت ارتفعت تكلفتها، وأصبح العمال يواجهون صعوبات في الانتقال إلى أعمالهم لتأدية وظائفهم اليومية، ما كان سببًا في خروج ما أُطلق عليه بـ”الأب الروحي للعمل من المنزل”، الدكتور “جاك نيلز” صاحب التخصصات المتعددة في العلوم والهندسة، داعيًا بأن الحل يكمن في الهاتف الثابت، الذي كان منتشرًا في مختلف الولايات خلال هذه الحقبة، ولم يكن الإنترنت معروفًا للجميع، مقدمًا طرحًا جديدًا بأن يمارس الموظفون أعمالهم من المنزل عن طريق الهاتف، وبعدها أخذت تنطلق الأعمال غير المقيدة بمكان كالفريلانسينج وغيره.
الفضاء الالكتروني
وبدأت تجربة هذه الفكرة الجديدة على المجتمع الأمريكي في جامعة كاليفورنيا بواسطة “نيلز” نفسه، الذي خصّص عددا من الموظفين ذوي المهن التي يغلب عليها الطابع الإداري لأن يقوموا بأعمالهم من المنزل دون الذهاب إلى مواقع أعمالهم، فحققت التجربة نتائج إيجابية فيما يتعلق بتوفير تكاليف المواصلات والتقليل من الازدحام المروري والتلوث البيئي، ما دعا حينها مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية (NSF) (وهي المؤسسة الداعمة للحكومة الفيدرالية في تقديم الأبحاث الأساسية والتعليم في العلوم والهندسة) إلى تقديم التمويل للازم لاستكمال التجارب والأبحاث على فكرة العمل من المنزل.
ومع انتشار الإنترنت تطوّرت الفكرة أكثر وأصبحت تثبت نجاحها تدريجيًا في العديد من التخصصات، والآن مع الانفتاح الواسع على الفضاء الإلكتروني وبعد أن أصبح التواصل بين البشر يتم بسرعة كبيرة، بلغ عدد المسجلين في أكبر منصتين للعمل عن بعد عبر العالم بحسب موقع (ps. Elance) نحو 160 مليون شخص، وبلغ الإيراد الإجمالي للوظائف التي تتم عن بعد حول العالم أكثر من خمسة بلايين دولار.
أكثر جاذبية
وكان قد تأسس مع بداية الألفية الثانية أول سوق لـ “الفريلانس” وأخذت تتعدد المنصات الأجنبية والعربية أيضًا المقدمة لخدمات العمل من المنزل في مختلف أنحاء العالم؛ إذ يعمل بحسب إحصائيات نشرتها منصة (Up Work) للعمل الحر عبر الإنترنت جاء فيها أن عدد العاملين بشكل حر من المنزل في الولايات المتحدة الأمريكية بلغ نحو 55 مليون شخص، ما يعادل %35 من إجمالي الأشخاص المنخرطين في سوق العمل الأمريكي، وفي بريطانيا بحسب تقرير لمنصة العمل الحر (Elance) جاء أن %87 من الطلاب يعتقدون أن العمل من المنزل بلا التزام الذهاب إلى مقرّات العمل أكثر جاذبية من العمل النظامي، وقد أورد التقرير أن أكثر قطاعات الأعمال عن بعد شعبية بين أوساط الطلاب البريطانيين هي: قطاع تكنولوجيا وأعمال البرمجة والترجمة.
دفعة قوية
ويعيش الآن العمل من المنزل أزهى عصوره لاسيما بعد المعاناة التي عاشها العالم جراء جائحة كورونا؛ إذ اضطرت معظم المؤسسات والشركات إلى خوض تجربة العمل من المنزل والدخول إلى العالم الافتراضي والاعتماد على التكنولوجيا، فبات عالم ما بعد كورونا يختلف اختلافًا كبيرًا عما قبله، فيما يتعلق بالعديد من القيم أو المفاهيم الإنسانية المرتبطة بالتنمية البشرية، وذلك بفعل التداعيات والانعكاسات، التي فرضتها الثورة المعلوماتية على بيئة العمل، حيث أحدثت تغييرًا واضحًا في مفاهيم العمل التقليدية، من خلال تنظيم “العمل عن بُعد”.
وعلى الرغم من أن إجراءات العمل عن بُعد كانت موجودة في اللوائح التنظيمية للموارد البشرية في العديد من دول العالم، كما أن التوجه للعمل عن بُعد، كان البعض يمارسه بالفعل من خلال إنجاز بعض المهام والساعات الإضافية من المنزل، إلا أن الأمر أخذ دفعة قوية، بعد أن عممت الكثير من الدول والعديد من الشركات والمؤسسات والجهات الحكومية والخاصة تطبيق نظام العمل من المنزل، امتثالًا للإجراءات والتدابير الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا.
سوق واعد
وحتى بعد تراجع الجائحة، فإن أعداد الوظائف القائمة على نظام العمل عن بُعد لا تزال تُسجل ارتفاعًا في العالم يومًا بعد الآخر، وذلك على الرغم من انتهاء الإغلاقات، التي تسبب بها وباء كورونا وسط توقعات بأن تواصل الارتفاع، وهو ما يعني أن سوق العمل قد تغيّر بشكل جذري على مستوى العالم.
ويعتبر الإنترنت أحد أكبر أسواق العمل الحر، حيث بات سوقًا واعدًا لكافة الفئات العمرية ويبشّر بحل عملي يقدم العديد من الحلول لمشكلات اقتصادية واجتماعية، فالعديد من وسائل التكنولوجيا الحديثة والمتاحة اليوم، كالهواتف الذكية، والمؤتمرات عبر الإنترنت، ووسائل التخزين السحابية لإدارة المهام، وبرامج إدارة فرق العمل، وإمكانية مشاركة الملفات، بالإضافة لأدوات المحاسبة، ووسائل التواصل والاتصال مع العملاء أصبحت في متناول المستقبلين والعاملين عبر الإنترنت مما سهّل عليهم العمل من أي مكان بدون الحاجة لمكتب ومؤسسة مرتبطة بمكان معين، فأدواتهم وملفاتهم أصبحت في متناول أيديهم في أي مكان يذهبون إليه.
مجالات عديدة
وثمة مجالات عديدة أصبحت متوفرة الآن للعمل كـ “فريلانس”، ومن هذه المجالات التصميم والكتابة والترجمة وكتابة الابحاث، والأوراق العلمية وكتابة المقالات الصحفية ومجال صناعة الفيديوهات، ومجال الصوتيات، وإلقاء المحاضرات، فضلاً عن البرمجة، وهي من الأعمال الجديدة وأصبحت فرصة مفتوحة للذين يمتلكون الموهبة ولديهم الخبرة.
ويتوقع أن تتسع قاعدة الأعمال التي يمكن القيام بها من المنزل خلال السنوات المقبلة، لاسيّما مع التطور المتلاحق لأنظمة وتكنولوجيا الاتصال والتواصل، وبالتالي ينصح الخبراء الأفراد على استغلال فرصة النمو المتواصل لاحتياجات الشركات من الأعمال التي يمكن أن تنفذ من المنازل، ولكن دون التخلي عن الوظيفة الاعتيادية، خاصة في بداية خوض تجربة العمل من المنزل، إذ يرون إنه عندما يُقرّر الفرد أن يصبح “فريلانس” لابد له أولاً ـ قبل التخلي عن وظيفته ـ أن يُتقن آليات العمل من المنزل، واختبار قدرته على التوفيق بين عمله الاعتيادي والعمل من المنزل، الذي يتطلب تجهيز مكان ملائم للعمل داخل المنزل ومشاركة أشخاص مهتمين بالعمل من المنزل ضمن مجاله، والعمل على تطوير الذات والتعلم المستمر، والبحث دائمًا عما هو جديد ومطلوب بكثرة وإنشاء وتصميم موقع شخصي أوما يسمى بمعرض الأعمال، بحيث تعرض عليه الخدمات والأعمال التي يقوم العامل أو الموظف بإنجازها، واختيار المشروع الذي يناسب مهاراته وإمكانياته وتوافق على أي مشروع يقدم له.
تحديات نفسية
وأخيرًا فإن العمل من المنزل أو غير المقيد طريقة رائعة لزيادة العوائد المالية للأفراد وكذلك للشركات، وفرصة جيّدة للإنتاج بأريحية دون الالتزام بأوقات محدّدة، ولكنه يتضمن بعض التحديات التي يجب على الأفراد الراغبين في العمل من المنزل الانتباه لها ووضع الحلول اللازمة لتخطّيها وأهمها تحديات الحالة النفسية المرتبطة بالعمل من المنزل، حيث الانعزال عن بيئة العمل، إذ تشير بعض الإحصائيات إلى شكوى %19 من العاملين عن بعد من الوحدة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب والقلق، وغيرها من الاضطرابات النفسية، كما تشير دراسات أُخرى إلى أن التفاعل وجهًا لوجه بين الموظفين لمدة 15 دقيقة يوميًا يساهم في زيادة الأداء الوظيفي بنسبة %20، ويساعد في تحسين الحالة المزاجية للموظفين بشكل عام، وبالتالي فمن الضروري الاستعداد لمثل هذه التحديات بأن يخصّص رواد العمل من المنزل يوما أو اثنين في الأسبوع للخروج خارج إطار متطلبات العمل فضلاً عن تحديد عدد ساعات محدّدة للعمل خلال اليوم.