الخطط المعلنة لأغلب شركات التكنولوجيا تؤشر بالاستمرار في عمليات تسريح الموظفين لا سيما وأن أعداد الموظفين ببعض تلك الشركات لا يزال أعلى من حدود ما قبل الجائحة
تباطؤ الطلب الناتج عن التضخم وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، بدوره دفع شركات التقنية الكبرى لخفض التكاليف بتسريح الموظفين باعتبارهم أول المتأثرين بخطط خفض التكاليف
رغم تصاعد أهمية التقنيين في الآونة الأخيرة وتزايد الاحتياج العالمي لهم، وما يتمتعون به من أجور وحوافز مادية كبيرة تتخطي دائمًا الوظائف الأُخرى، وأصبحت زيادتهم بالشركات أحد مقاييس النجاح جنبًا إلى جنب مع بيانات نمو الإيرادات والهامش التشغيلي، ومنذ بداية العام الماضي ازدادت عمليات تسريح التقنيين، ليبلغ إجمالي من تم تسريحهم حتى بدايات أوائل العام الجاري ـ وفقًا لبيانات “ترو آب” المتخصصة في تتبع فقدان الوظائف في قطاع التكنولوجيا ـ أكثر من 300 ألف موظف منهم نحو 225 ألف موظف تم تسريحهم في عام 2022م وقرابة الـ 75 ألف منذ بداية العام، ما يؤشر بمزيد من التسريح لمتخصصي التكنولوجيا خلال العام الجاري، ويثير التساؤل بشأن قطاع كان يُعد الأكثر جذبًا للقوى العاملة طوال السنوات القليلة الماضية.
وكانت أكبر التسريحات لدى شركات مثل: أمازون بواقع 18 ألف موظف بما نسبته %6 من عدد موظفيها، وشركة بايتيدنس بواقع 13 ألف موظف بما نسبته %10 من عدد الموظفين، وكذلك شركة غوغل تم تسريح نحو 12 ألف بما يمثل %6 من عدد موظفي الشركة، وشركة ميتا نحو 11 ألف موظف حوالي %13 من عدد موظفيها، وأيضًا مايكروسوفت نحو 10 آلاف موظف بما نسبته %5 من عدد موظفي الشركة، وشركة سيلزفورس نحو 7 آلاف موظف بواقع %10 من عدد موظفيها، وخلال يناير العام الجاري أضافت شركات التكنولوجيا الثلاث (أمازون، ومايكروسوفت، والشركة الأم لـ “غوغل”) نحو 30 ألف وظيفة لإجمالي العدد الذي تم تسريحه في عام 2022م.
التسريح مستمر
وثمة مؤشرات عدة تشير إلى تصاعد الموجة بشكل حاد خلال العام الجاري، لا سيّما وأن أعداد الموظفين ببعض تلك الشركات لا يزال أعلى من حدود ما قبل الجائحة، كشركة “ميتا” التي رغم عمليات تسريحها للموظفين فلا يزال العدد الحالي أكبر بحوالي 20 ألف وظيفة، وفق مجموعة من البيانات نشرتها صحيفة “فاينانشال تايمز”، والخطط المعلنة لأغلب شركات التكنولوجيا تؤشر بالاستمرار في عمليات تسريح الموظفين، مثل منصة العملات المشفرة (Blockchain) التي تخلّت عن %28 من قوّتها العاملة، ومستمرة في تنفيذ خططها لتسريح الموظفين، وبورصة العملات المشفرة الأميركية “كوينباس غلوبال” قد كشفت عن خطتها لتسريح %6 من موظفيها، والذي يمثل نحو 12 ألف موظف في العديد من الأدوار بالشركة، وشركة زووم التي ألغت الوظائف وأطاحت بحوالي 1300 موظف، وشركة أمازون التي كانت قد أوقفت أواخر العام الماضي التوظيف التدريجي الجديد، وأعلن رئيسها التنفيذي، آندي جاسي، أن الشركة سوف تقوم بتسريح 18 ألف موظف خلال العام الجاري، وقال:”إننا تجاوزنا اقتصاديات صعبة وغير مؤكدة وسنواصل القيام بذلك، وإن هذه التغييرات ستساعدنا على متابعة فرصنا طويلة الأجل بهيكل ذي تكلفة أقوى”.
ولا يتوقف تسريح الموظفين عند حدود شركات التكنولوجيا الكبرى، إذ من المتوقع أن تحذو الشركات التقليدية الأُخرى في تقليص حجم موظفي أقسامها لتكنولوجيا المعلومات، بما في ذلك وظائف الأمن السيبراني، لتعتمد بشكل متزايد على الخدمات الاستشارية، وهو ما أشار إليه خبير تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني الأكاديمي، فورست فوكوا، ورغم ذلك، فإنه أمام متطلبات الحكومات وشركات التأمين وغيرها من الشركات ذات الاحتياج لحفظ معلوماتها ربما لم تتأثر أقسام التكنولوجيا لديها بل قد تسعى إلى زيادة أعداد موظفيها من متخصصي الأمن السيبراني خلال الفترات المقبلة.
موجة عاصفة
ويبدو أن وراء هذه الموجة العاصفة من تسريح لموظفي التكنولوجيا العديد من العوامل لعل أبرزها تحقيق تلك الشركات لخسائر كبيرة ومتتالية التي بدأت مع جائحة كورونا وتعمّقت مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتعطّل سلاسل الإمداد، فقد كانت الشركات قد وسّعت خططها التوظيفية أكثر مما هو مطلوب خلال فترة جائحة كورونا، وسط توقعات بأن يكون الطلب على الخدمات بعد ذلك بمعدلات الطلب نفسها خلال الجائحة، وهو مالم يحدث بسبب انجراف العالم إلى أزمة تضخمية كبرى لا يزال يعاني أثارها، ما أدى إلى انخفاض الأرباح، فشركة ألفبت (Alphabet) بحسب بيانتها للربع الأخير من أكتوبر 2021م إلى ديسمبر 2022م انخفضت أرباحها بنسبة %34، وأيضًا شركة أمازون التي تضاءلت صافي أرباحها في الربع الأخير للعام الماضي، وشركة أبل (Apple) التي لم ترقَ مستوى التوقعات بشأن الإيرادات لضعف مبيعاتها من هاتف (iPhone).
وبالتالي فإن تباطؤ الطلب الناتج عن التضخم وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، بدوره دفع شركات التقنية الكبرى لخفض التكاليف بتسريح الموظفين باعتبارهم أول المتأثرين بخطط خفض التكاليف، أضف إلى ذلك عودة العالم إلى الحياة الطبيعية قبل الجائحة، وبالتالي عودة المستهلكين إلى الأسواق التقليدية وهو ارتداد طبيعي بعد ظروف الإغلاق وانعكاساتها النفسية على المستهلكين، ما أدّى إلى انخفاض الإنفاق من خلال الإنترنت (التجارة الإلكترونية) والاتجاه إلى الأسواق التقليدية، ما تسبّب ذلك في الدفع بتسريح موظفي شركات التكنولوجيا الزائدين عن الاحتياج الطبيعي.
الذكاء الاصطناعي
ويأتي عامل الذكاء الاصطناعي ليلعب دورًا في تفسير آخر لموجة تسريح التقنيين، كونه وفّر طرقًا جديدة لتضخيم الإنتاجية، إذ تقول الرئيس التنفيذي لشركة إدارة الاستثمار (آرك إنفيست) كاثي وود، إنه بحلول عام 2030م تخطط أمازون لإحلال موظفين آليين أكثر من البشر، وإنها تُضيف قرابة الألف روبوت يوميًا إلى قوّتها التشغيلية، إذ تمتلك أمازون حاليًا أكثر من 520 ألف روبوت، علمًا بأن “وود” تتوقع أن تحوّل وتوسع الابتكارات الفرص لصناعة التكنولوجيا باستخدام التقنيات الجديدة، وهو ما يسوق إلى مفهوم النضج الصناعي باعتباره أحد أسباب تسريح موظفي التكنولوجيا، فقد أصبحت التكنولوجيا أكثر استقرارًا بعد انتهاء مراحل نموّها الأولية، وهي المرحلة التي تتطلب توسيع دوائر التوظيف، وبالتالي عندما تنتهي هذه المرحلة وتبدأ الشركات في مرحلة التنويع والتطوير يتبعها عمليات الانتقاء للموظفين ما ينتج عنه تسريح الموظفين غير المناسبين للمرحلة الجديدة، فقد تغيّرت الاحتياجات التقنية للشركات، الأمر الذي يتطلب استبدال الموظفين الحاليين بموظفين جدد بمهارات تقنية مختلفة.
ثقافة مترسخة
ناهيك عن ضغوط المستثمرين من أجل خفض الوظائف لتقليل النفقات، فقد انتاب المستثمرين في التكنولوجيا بعد الجائحة شعورًا بالقلق تجاه الأرباح المستقبلية مستندين على قراءات سوقية تؤشر بتشبع سوق التكنولوجيا وأنها ستكون أقل ربحية العام الجاري، وكان تقرير صادر عن مجموعة بنك أوف أمريكا المصرفية الأمريكية أظهر تراجعًا لحالة الحماس لأسهم شركات التكنولوجيا؛ حيث سجلت خلال يونيو الماضي أول انسحاب للاستثمارات، وأن حجم الأموال التي خرجت من هذا الأسهم ـ بحسب بيانات شركة إي.بي.إف.آر جلوبال للبيانات المالية ـ بلغ نحو 1.2 مليار دولار.
رغم كل العوامل السابقة لا يمكن تجاهل الثقافة المترسخة عند العديد من أصحاب الشركات بأن تخفيض العمالة أحد الأسباب الدافعة إلى زيادة الربحية؛ إذ يؤكد خبراء كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا، بأن هذه الثقافة متأصلة في معظم الشركات بمساواة تسريح العمال بالربحية بغض النظر عن الظروف الاقتصادية، لافتين إلى أن هذه الثقافة موجودة سواء في الاقتصادات غير المؤكدة أو الاقتصادات ذات الأداء الجيد، فلا تزال الشركات تستخدم تسريح العمال ذريعة لتحسين الأرباح.
وأخيرًا فإن مشكلة تسريح الموظفين التي تواجه قطاع التكنولوجيا تكمن في أن معظم تلك الشركات توسعت بالتوظيف بشكل مبالغ فيه إلى أن جاء الوقت لتنظر إلى هذه الوظائف ذات التكلفة المرتفعة وسط ظروف عالمية متغيرة، وبالتالي ستواصل عمليات الانتقاء والاستبعاد للموظفين غير الضروريين أو من لهم بدائل “روبوتية”، ويبقى أن إجراءات تسريح الموظفين من أكثر الأمور صعوبة في أي شركة، وتؤثر هذه الإجراءات بشكل سلبي على الشركة والموظفين على حد سواء.