اقتصاديات الحج

الحج.. صناعة متكاملة

قطاع الإسكان في مقدمة القطاعات الاقتصادية المستفيدة في موسم الحج بمعدل %40.

رؤية المملكة تستهدف زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين إلى 30 مليون شخص، وزيادة إيرادات الحج السنوية إلى نحو 50 مليار ريال بحلول عام 2030م.

 

وسط أجواء روحانية وإيمانية مبهجة، وفي ساعة مبكرة من صباح يوم الأحد المواقف 16 يونيو 2024م، انطلق ملايين الحجاج نحو الوقوف على جبل عرفات؛ حيث التجمع الأكبر للحجيج، الذين وفدوا إلى المملكة من مختلف دول العالم منـــذ بدايـــة شهر يونيـــو استعـــدادًا لأداء مناسكهـــم، وعلى قدر عظمة تلك الرحلة المقدسة لملايين المسلمين، فإنها لا تقل أهميتها من المنظور الاقتصادي مصداقًا لقوله تعالى “ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” سورة الحج 28.

اقتصاديًا تصنف المواسم الدينية بخاصة شعيرة العمرة والحج بـ “المورد المُستدام الذي لا ينضب”، فهو استثمار الماضي والحاضر والمستقبل، الذي يترك آثارًا كبيرة على صعيد الإنفاق الكلي، وذلك من خلال المداخيل التي تحصل عليها القطاعات العاملة فيه من مؤسسات وشركات ونقل ومواصلات ومحلات تجارية؛ إذ يشكل الحج والعمرة مظاهر ايجابية كبيرة في الجانب الاقتصادي المحلي يستعد لها التجار بشكل منظم حيث تشهد الأسواق في المملكة حركة بيع وشراء كبيرة خلال هذه الفترات الموسمية..

وقد بلغت إيرادات المملكة من موسم الحج والعمرة للعام 2012م أكثر من 62 مليار ريال مع زيارة أكثر من 12 مليون حاج ومعتمر للمملكة، وفي 2017م قدرت الغرفة التجارية والصناعية بمكة المكرمة إيرادات موسم الحج فقط ما بين الـ 20 و26 مليار ريال، مقابل 14 مليار ريال (3.73 مليارات دولار) لعام 2016م..

وكان من المتوقع أن يبلغ متوسط عائدات الحج حوالي 30 مليار دولار سنويًا، وأن تخلق 100 ألف فرصة عمل للسعوديين بحلول عام 2022م إذ أن الحج يقع ضمن القطاعات كثيفة العمالة، التي لديها القدرة على توليد الوظائف..

الأثر الأكبر للحج والعمرة

ويظهر الأثر الأكبر للحج والعمرة على صعيد قطاع العقارات، لاسيما وأن بعض الدراسات تشير إلى أن ما ينفق على قطاع الإسكان يستحوذ على 30 إلى %40 من إجمالي ميزانية الحاج، مما يعني أن قطاع الإسكان له النصيب الأكبر من الإنفاق على الحج، وهو ما ينعكس على نشاط القطاع العقاري بمدينة مكة المكرمة، يليه قطاع الهدايا والتذكارات بنسبة %14، والمواد الغذائية بنسبة %10، ثم يأتي بعد ذلك قطاع المواصلات وقطاع الخدمات الصحية.

وقد بلغ إجمالي عدد الحجاج من داخل وخارج المملكة هذا العام 1.8 مليون حاج، بعدد حجاج من الخارج 1.6 مليون حاج، فيما وصل عدد حجاج الداخل إلى 221.8 ألف حاج،  وهي أعداد تتقارب وموسم عام 2023م الذي بلغ فيه إجمالي الحجاج بنحو مليون و800 ألف، و بلغت نسبة الحجاج من الخارج %90 من إجمالي الحجاج قدموا عبر المنافذ المختلفة، بينما بلغت نسبة حجاج الداخل %10، بمتوسط مدة إقامة لحجاج الخارج في المملكة 31.6 ليلة، تم التنقل خلالها بين منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما ارتفع عدد المعتمرين خلال العام نفسه إلى 13 مليونًا و550 ألف معتمر، وهو أكبر ارتفاع في تاريخ المعتمرين من خارج المملكة مقارنة بعام 2019م الذي بلغ إجمالي المعتمرين فيه من خارج المملكة 8 ملايين و550 مليون معتمر..

وكانت المملكة قد أطلقت استعدادًا لحج العام بحسب وزير الحج والعمرة، الدكتور توفيق الربيعة، مكتب مشروعات الحج بالتنسيق مع أكثر من 50 جهة لمتابعة 300 خطة تحضيرية، واستمرار مبادرة “طريق مكة” لتسهيل إجراءات السفر للحاج، وتوجهه مباشرةً إلى مقر سكنه دون الحاجة إلى عمل إجراءات السفر أو انتظار أمتعته، كما شملت تلك الاستعدادات تدريب أكثر من 120 ألفاً من قادة مجموعات الحجاج وبعثات الحج، من خلال 2500 دورة تدريبية بعدد من اللغات..

دمج التكنولوجيا الحديثة

وفي إطار الاستثمارات الموجهة للحج، اتخذت المملكة هذا العام خطوات هامة نحو استخدام الذكاء الاصطناعي، ودمج التكنولوجيا الحديثة في مناسك الحج، وكان أبرزها نشر روبوتات ذكية لتوجيه الحجاج للطرق والمسارات الصحيحة والمناسبة، وتحليل البيانات الخاصة بالحشود، من خلال الذكاء الاصطناعي لمنع التكدس وتقليل المخاطر، وتركيب كاميرات ذكية، ضمن أنظمة وتقنيات التعرف على الوجوه لتعزيز الأمن..

وفي السياق نفسه تم إطلاق أول محفظة رقمية من نوعها في العالم لخدمة الحجاج وإدارة أموالهم أثناء تأدية المناسك، ولأول مرة، استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في مشروع “أضاحي”، عبر ترقيم الأضاحي والهدي، كما ضم المشروع أكبر مشروع للتبريد الصناعي في العالم..

ومن جانب آخر، كشفت وزارة النقل السعودية عن مجموعة من التقنيات الجديدة، خلال موسم حج هذا العام، لتسهيل أداء مناسك الحج، مثل “التاكسي الطائر”: إذ تم شراء 100 طائرة كهربائية، لنقل الحجاج من مطار الملك عبدالعزيز بجدة، إلى مهابط الطائرات في مكة المكرمة، علمًا أن المركبات الكهربائية تعتمد على تقنية الإقلاع والهبوط العمودي، وتساهم في تقليل الازدحام المروري وتحسين تجربة النقل، وتم استخدام الطائرات بدون طيار، لأغراض طبية، مثل نقل وحدات الدم، والعينات المخبرية بين المستشفيات، مما يعزز من سرعة وكفاءة الاستجابة الطبية، فضلاً عن الأسفلت المطاطي والتوسع في تقنيات الطرق المبردة؛ وذلك بخلط المطاط مع الخلطة الإسفلتية في طرق المشاة الرئيسية، لتوفير الراحة والسلامة للحجاج، كما تم استخدام تقنية الطلاء الأبيض في المنطقة المجاورة لمسجد نمرة لتخفيف درجة الحرارة، ومن ضمن التقنيات، التي تُستخدم لأول مرة في حج هذا العام النظارة التفتيشية، التي تُسهل عملية تفتيش المركبات وسحب بياناتها في ثوان، وهو ما يوفر الكثير من الوقت ويُعزز الرقابة..

مشاريع بنية تحتية ضخمة

كما أطلقت المملكة مشاريع تتجاوز قيمتها أكثر من 5 مليارات ريال لتطوير البنية التحتية في المشاعر المقدسة، وتدريب أكثر من 120 ألف شخص لخدمة حجاج بينت الله الحرام، كما عملت على رفع مستوى الوعي لدى الحجاج من خلال مبادرة إنشاء مركز للتوعية بالتعاون مع الهيئة العامة للأوقاف، وتم السماح للمقيمين في جميع دول الخليج لإصدار تأشيرات إلكترونية لزيارة المملكة وأداء العمرة، وتم العمل على زيادة الرحلات المباشرة من 164 وجهة إلى 216 وجهة بزيادة قدرها %32، فضلاً عن تطوير المواقع التاريخية لإثراء التجربة..

وأمام ما يمثله الحج من مورد اقتصادي يحتل المرتبة الثانية بعد النفط كمصدر دخل للملكة، وبعد فترة وجيزة من تولي الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة في عام 2015م، أطلقت المملكة مشروعًا بقيمة 21 مليار دولار لتوسيع المسجد الحرام في مكة لاستيعاب 300 ألف مصلي إضافي، وفي أبريل 2016م، حدَّد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحج على أنه عنصر أساسي في رؤية 2030م لتنويع الاقتصاد الوطني، لتقدم استراتيجية متكاملة لتطوير منظومة الحج والعمرة، من خلال إتاحة الفرصة لعدد أكبر من المسلمين في تأدية مناسكهما، حيث تضمنت الرؤية في محورها “المجتمع الحيوي» وتحت عنوان «قيمة راسخة”، التأكيد على أهمية تسخير الطاقات والإمكانيات لخدمة ضيوف الرحمن، باستهداف زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين إلى 30 مليون شخص سنويًا، لزيادة إيرادات الحج السنوية إلى نحو 50 مليار ريال.

هذا بالإضافة لما تقوم به المملكة من استثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية، وإقامة العديد من المشروعات العملاقة لتيسير أداء الحجاج للمناسك، كمشروعات إسكان وخيم الحجيج، والانتهاء من توسعة وإنشاء مطارات ضخمة واستخدام التكنولوجيا الحديثة لخدمة وأمان الحجاج، فقد تم تدشين شبكة قطار المشاعر المقدسة، والذي بلغت تكلفته نحو 6.5 مليارات ريال سعودي (1.8 مليار دولار تقريبا) يتألف من 20 قطارًا يضم كل منها 12 عربة، وتصل قدرته الاستيعابية إلى ثمانين ألف راكب، وهو ما يمكنه من نقل نصف مليون حاج من عرفات إلى منى في أقل من ست ساعات “وهي طاقة لا يوجد لها نظير في العالم”.

حزمة من المبادرات الاستراتيجية

ووسعت المملكة كذلك من منظومة خدماتها الصحية، لتشمل تجهيز المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية لرعايتهم، وتقديم خدمات معلوماتية وتوعوية، وتموينية، ونظافة شاملة ودائمة في المشاعر، فضلاً عن عمليات التشجير والإنارة في المشاعر المقدسة، وتنفيذ توسعات مستمرة لجسر الجمرات..

كما قامت وزارة الحج والعمرة بالتزامن مع إطلاق رؤية المملكة 2030م بوضع حزمة من المبادرات الاستراتيجية بدءًا من عام 2016م من أجل تطوير قطاع الحج والعمرة ومواكبته لتحقيق أهداف هذه الرؤية، ومن ذلك تأسيس مركز التحكم والمراقبة الإلكترونية في وزارة الحج والعمرة، لربط مراكز خدمات الحجاج والمعتمرين بصناع القرار..

وكذلك إطلاق مشروع الإسورة الإلكترونية، بهدف مساعدة الحجاج وتقديم الدعم اللازم لهم، كما تم إطلاق مبادرة المسار الإلكتروني للحجاج، لحماية حقوق الحاج، وتسهيل وتسريع آلية الحصول على تأشيرات الحج إلكترونيًا، وتحقيق مبدأ العدالة في الحج للراغبين فيه، وتكريس مبدأ الشفافية في قطاع الحج والعمرة.

وبشكل عام، فإن المملكة تسعى لجعل قطاع الحج والعمرة صناعة متكاملة تساهم في تعزيز النشاط الاقتصادي وذلك من خلال تسهيل إجراءات إصدار التأشيرات وتنفيذ نظام العمرة العابرة (الترانزيت) بصورة فعالة والتسويق الجيد لخدمات العمرة والزيارة وتقديم الخدمات للمعتمرين بجودة عالية وبأسعار مخفضة والتوسع في إصدار التراخيص لإنشاء الشركات والمؤسسات الخاصة التي تقدم الخدمات وتطوير قدراتها العملية، ويخطط صندوق الاستثمارات العامة المملوك للدولة لافتتاح مشروع “رؤى الحرم المكي” على بعد ميل من الكعبة، مع 70 ألف غرفة فندقية جديدة و9000 وحدة سكنية..

وأثناء مناسك الحج، يتم إقامة نحو 100 ألف خيمة مكيفة في مِنَى لاستضافة الحجاج، وإلقاء نحو 14 مليون من الجمرات خلال المشاعر، كما يتم ذبح 1.2 مليون رأس من الأضاحي وتتولى الحكومة في المملكة التبرع باللحوم في غضون 84 ساعة بعد الذبح، حيث تصل إلى المستفيدين في 27 دولة من العالم الإسلامي وكذلك للمحتاجين في منطقة الحرم بمكة المكرمة، وعقب انتهاء المناسك ومغادرة الحجاج تتطلب عمليات الصيانة والتنظيف إغلاق 8 كيلومتر مربع من المساحة المحيطة في مكة لتنفيذ تلك الأعمال.