نُلقي الضوء في هذا المقال على حجم الديون التي تتكبدها الدول، والتي تنمو في بعض الدول الصناعية الكبُرى بشكل دراماتيكي، نبدأ مع الولايات المتحدة باعتبارها لديها أكبر اقتصاد في العالم، فالدين العام الأمريكي يقترب من 35 تريليون دولار ويزداد أكثر وأكثر، فالعام الماضي وحده دفعت الحكومة الأمريكية حوالي 900 مليار دولار من الفوائد.
ولتدرك معنى هذا الحجم من الديون، خدمة الدين فقط تعادل اقتصاد بلد مثل: هولندا، حيث الناتج المحلي الإجمالي لها عند حوالي 1 تريليون دولار، وفي كل عام تزداد الديون مدفوعة بعجز الموازنة الأمريكية، والذي هو عند %5.6 حاليًا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، لذلك ليس هناك خيار غير البدء بمعالجة هذا العجز.
وفي نظرة على التطور السريع لهذا الدين ونموه الكبير، نرى أنه ومنذ اندلاع أزمة كورونا وتحديدًا منذ شهر مارس من عام 2020م زاد هذا الدين بحوالي 11 تريليون دولار، وأكثر من ذلك بات يُشكل %120 من حجم الاقتصاد الأمريكي، بعدما وصلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي %120.
وبالطبع مع رفع معدلات الفائدة في الفترة السابقة ووصولها إلى مستويات ما فوق %5، كان من الطبيعي أن ترتفع أرقام خدمة الدين العام. وفي مقارنة لأرقام نسبة الدين إلى الناتج نرى أن هذه النسبة كانت عند مستويات %20 قبل 50 عامًا، ومن الطبيعي أن ترتفع على مدى هذه الفترة لعدة أسباب منها توسع الاقتصاد الأمريكي والتصدي لعدة أزمات اقتصادية أبرزها الأزمة العالمية في عام 2008م، وأزمة الجائحة في عام 2020م.
في المقابل، إذا ألقينا نظرة على الوضع في القارة الأوروبية، نرى أن الدين يُشكل تحديات كبيرة للتعامل معه، فبعض الدول هناك مثل: اليونان نسبة الدين إلى الناتج هي عند %165، وذلك على الرغم أن من الاقتصاد اليوناني تألَّق في السنوات الأخيرة، وخطف الأضواء وتهافتت عليه الاستثمارات الأجنبية من كل حدب وصوب.
طبعًا السبب الرئيس لارتفاع هذه النسبة هي التركة الثقيلة لازمة الديون السيادية الأوروبية التي ضربت منطقة اليورو في عام 2011م، وكادت أن تخرج باليونان من العملة الأوروبية الموحدة لولا برامج التقشف والدعم والقروض الكبيرة التي حصلت عليها دول الجنوب وهي: إيطاليا واليونان، وقبرص، وإسبانيا، والبرتغال.
وتأتي إيطاليا في المركز الثاني أوروبيًا مع نسبة %140، وأبرز التحديات التي تواجه إيطاليا تأتي من عدم الاستقرار السياسي والحكومات الكثيرة التي تشهدها البلد مع عدم وجود تحالف مستمر بين كافة الفرقاء السياسيين، فبالكاد تنتهي انتخابات ما يلبث أن يعود الإيطاليون مرة جديدة إلى صناديق الاقتراع، وبالتالي يستمر حرق المراحل بدلاً من التركيز على نمو الاقتصاد ومعالجة القطاع البنكي هناك..
ولتعرف مدى تباطؤ الاقتصاد الإيطالي وعدم مواكبته الاقتصادات الأُخرى، يكفي أن تقارن الناتج المحلي الإجمالي للبلد مع ما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، حيث إلى الآن لم يستطع الاقتصاد أن يعود إلى نفس الحجم الذي كان عليه، وبالتالي يكون الإيطاليون أضاعوا كل هذه السنوات في صراعات سياسية، لا جدوى منها سوى أنها تُعرقل النشاط الاقتصادي وتُقلص النمو بسبب عدم وجود خطة مستمرة مع العدد الكبير من الحكومات الكثيرة التي شكلت ومنعت الاستقرار السياسي الذي هو مفتاح تحفيز النمو وجلب الاستثمارات الأجنبية..
وتأتي فرنسا في المركز الثالث مع نسبة %112 من الديون، والفرق أن فرنسا شهدت في السنوات الأخيرة بعض النمو الملحوظ واستطاعت أن تجلب مزيدًا من الشركات الأجنبية العملاقة خصوصًا في مجال التكنولوجيا..
ونذهب إلى إسبانيا التي تحتل المركز الرابع أوروبيًا مع %110 نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، فإسبانيا لديها تحديات كثيرة بعد تراكم الديون من أزمة اليورو السابقة بالإضافة إلى الأزمة العقارية التي واجهتها مع امتدادها إلى مصارفها، لكن في السنوات الأخيرة ومع الاستقرار السياسي المقبول الذي شهدته، ومع بعض الحوافز للاستثمار الأجنبي استطاعت أيضًا أن تسجل بعض النجاحات وأبرزها في مجال السياحة، خصوصًا أن هذا القطاع كما في إيطاليا واليونان يشكل في بعض الأوقات أكثر من %10 من الناتج المحلي الإجمالي، ويلعب دورًا كبيرًا في مجال الوظائف والإيرادات الكبيرة التي تدخل بفضل عوائد السياحة.
أما بالنسبة إلى ألمانيا وهي أكبر اقتصاد أوروبي، فنسبة الدين هي منخفضة بقوة عن بلدان الجنوب وعن فرنسا ولا تتجاوز النسبة %65، رغم أنها في السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في اقتصادها وخف بريق شهرة مصانعها، خصوصًا بعد خروج المستشارة الألمانية انجيلا مركل من المشهد السياسي..
بعيدًا عن أوروبا والولايات المتحدة، لا يمكن أن نتكلم عن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلا ونذكر اليابان التي لديها النسبة الأعلى عالميًا، إذ تصل إلى أكثر من %260، وعلى الرغم أن معظم الديون هي داخلية، ولكن تُشكل هذه المستويات العالية صداعًا مستمرًا للحكومة اليابانية، مع التحدي الأبرز وهو معدل الشيخوخة المرتفع بالإضافة إلى النقص الكبير في العمالة، بالإضافة إلى ذلك التحدي الكبير المستمر في اليابان والذي يخص معدلات التضخم، وكان الشغل الشاغل للحكومة في السنوات الأخيرة، ولا ننسى أيضًا التراجع العنيف الذي حصل للين الياباني والذي أدى إلى تدخلات مباشرة لبنك اليابان في سوق الصرف الأجنبي.