القطاع الصناعي الملف

التصنيع.. الورقة الرابحة

سجل قطاع التصنيع نموًا يفوق %5 في بضعة أشهر من العام الجاري، كما شهد تسارعًا لافتًا بإصدار وزارة الصناعة 83 ترخيصًا صناعيًا جديدًا، وافتُتحت 58 مصنّعًا باستثمارات بلغت نحو 2.85 مليار ريال.

التصنيع الأخضر ليس مجرد تكملة للمشهد الصناعي، بل أصبح محركًا استراتيجيًا للنمو، والاستدامة، وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة في المملكة.

 

بدخول التحوُّل الاقتصادي في المملكة عقده الثاني، بدأت ملامح صعود القطاعات غير النفطية تتصدر واجهة المشهد، ومن أبرزها القطاع الصناعي، مستفيدًا من البرامج والاستراتيجيات الوطنية والتدفقات الاستثمارية الضخمة، التي تستهدف توطين الصناعات المستقبلية ورفع القيمة المضافة.

تو عّسّت “أرامكو” بالشراكة مع “معادن” لتطوير سلسلة إنتاج الليثيوم التجارية

فلم تعد الصناعة مجرد قطاع داعم، بل محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي؛ إذ يتقدم قطاع التصنيع بخطى ثابتة نحو الريادة، ليصبح أحد أهم أركان الاقتصاد غير النفطي، فما كان يُنظر إليه في السابق كقطاع تكميلي، بات اليوم محط أنظار المستثمرين المحليين والدوليين، بدعم مباشر من الدولة ورؤية استراتيجية واضحة المعالم؛ ففي ظل مواصلة الاقتصاد الوطني تحقيق مستهدفات تنويعه، تبرز الصناعة كورقة رابحة قادرة على ضمان مرونة الاقتصاد، وتعزيز تنافسيته عالميًا، وتمكينه من التكيّف مع التحولات الجيو-اقتصادية والبيئية التي يشهدها العالم.

التصنيع قلب التحول الاقتصادي

ففي العام الجاري، واصل مؤشر الإنتاج الصناعي (IPI) ارتفاعه خلال عام 2025م بنسبة تراوحت بين %2 و%3.1 على أساس سنوي، مدعومًا بنمو لافت لاسيما في أنشطة التصنيع والتوريدات المرتبطة بالمياه والنفايات، وقد سجل التصنيع نموًا يفوق %5 في بضعة أشهر من العام الجاري، كما شهد القطاع في العام نفسه تسارعًا لافتًا بإصدار وزارة الصناعة 83 ترخيصًا صناعيًا جديدًا، وافتُتحت 58 مصنّعًا باستثمارات بلغت نحو 2.85 مليار ريال، فيما بدأت 133 منشأة صناعية جديدة مرحلة الإنتاج الفعلي خلال الشهر نفسه.

وفي هذا السياق، يشير تقرير المركز الوطني للمعلومات الصناعية والتعدينية إلى أن حجم الاستثمارات المرتبطة بالتراخيص الجديدة تجاوز 6.6 مليارات ريال، بينما بلغت قيمة الاستثمارات في المصانع التي دخلت مرحلة الإنتاج نحو 2.3 مليار ريال، ويعكس هذا الزخم الاستثماري ثقة متزايدة بالقطاع، خاصة مع ازدياد مساهمة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي عامًا بعد عام، مدفوعًا بمبادرات حكومية قوية مثل “صُنع في السعودية”، وبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية.

وثمة تركيز كبير على إنشاء تجمعات صناعية متخصصة في قطاعات استراتيجية مثل البتروكيماويات، الصناعات الغذائية، الطيران، والمركبات، إضافة إلى التوسع في التصنيع الذكي والتقنيات المتقدمة، فأنجزت خطوات مهمة نحو هذه القطاعات المستقبلية: ففي مجال البطاريات، توسّعت “أرامكو” بالشراكة مع “معادن” لتطوير سلسلة إنتاج الليثيوم التجارية بحلول 2027م، ووقّعت أرامكو كذلك اتفاقًا مع شركة “BYD” الصينية لتعزيز الابتكار في تقنيات المركبات الكهربائية، بموازاة الجهود المبذولة لتحقيق نسبة تبنٍ تصل إلى %30 للمركبات الكهربائية خلال السنوات المقبلة، أما في إطار جذب شركات التقنية العالمية، أعلنت “لينوفو” في أغسطس 2025م، عن تأسيس مقر إقليمي لها في المملكة بالتعاون مع شركة محلية لإنشاء منشأة صناعية لإنتاج الحواسيب والهواتف الذكية والخوادم، التي من المتوقع أن تبدأ عملياتها بحلول 2026م، مما يعكس تطوّر الأوساط الصناعية نحو التقنية المتقدمة.

36 ألف مصنع بحلول عام 2035م

وتقود وزارة الصناعة والثروة المعدنية، الجهود المبذولة لتحقيق مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للصناعة، ومن أبرز ملامحها المدن الصناعية والتجمعات المتخصصة المتقدمة في قطاعات حيوية كصناعة الطيران، والسيارات، والصناعات الغذائية، والصناعات التعدينية، والبتروكيماويات. وقد وصل عدد المدن الصناعية في المملكة إلى حوالي 40 مدينة، ووصل عدد المصانع إلى 12 ألف مصنع بنهاية عام 2024م، مقارنة بـ7.200 مصنع عام 2016م، وتهدف الاستراتيجية إلى مضاعفة عدد المصانع بما يقارب أربعة أضعاف أي 36 ألف مصنع في عام 2035م، ومن بين هذه المصانع سيكون هناك مصنعان للسيارات لإنتاج أكثر من 300 ألف مركبة سنويًا، وثلاثة مصانع متقدمة للأدوية الحيوية واللقاحات الطبية، و4 مصانع لتجميع مكونات الطائرات، و8 مصانع لتشكيل المعادن، وتستهدف كذلك إنتاج 800 ألف طن من الكيماويات المتخصصة، بالإضافة إلى 15 مصنعًا للتقنيات الحديثة ومستشعرات إنترنت الأشياء.

وفعليًا بدأ التحوّل الصناعي قبل سنوات وتحديدًا مع انطلاق الرؤية، وذلك بفضل عديد من المبادرات، ومنها مبادرة (مصانع المستقبل) للتحول من الصناعة التقليدية إلى الصناعة الحديثة، والتي قدمت 1.22 مليار ريال من القروض للمصانع ضمن برامج تنافسية.

وبشكل عام، تسعى المملكة لجعل المدن والتجمعات الصناعية، مراكز للتصنيع والإنتاج، وفي الوقت نفسه مراكز اقتصادية تقوم على الربط الذكي بين مواقع التصنيع والأسواق المحلية والعالمية، وذلك اعتمادًا على بنية تحتية قوية وشبكة من وسائل النقل البحرية والبرية، وتمثل مدينتا الجبيل وينبع الصناعيتان مركزين رئيسين في قطاع البتروكيماويات العالمي، كما أصبحت مدينة رأس الخير مركزًا محوريًّا للصناعات التعدينية، إذ تحتوي على مجمع لمعادن الألومنيوم، هو أحد أكبر المجمعات الصناعية عالميًّا، أما مدينة جازان، فقد خصصت في الصناعات الأساسية والتحويلية، وأصبحت مركزًا للصناعات الثقيلة والأنشطة كثيفة الاستهلاك للطاقة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية والأنشطة الزراعية، فيما تعد مدينة الملك عبدالله الاقتصادية (KAEC) نموذجًا صناعيًا فريدًا يدمج بين التصنيع واللوجستيات، خاصةً أنها تضم أحد أكثر الموانئ تطورًا في العالم، مما يعزز مكانتها كمركز للتجارة العالمية، بينما تستقطب مدينة سدير للصناعة والأعمال الاستثمارات في الصناعات الدوائية والغذائية والتصنيع الخفيف.

الحفاظ على معدلات نمو إيجابية

وعلى الرغم مما يواجه العالم حاليًا، والاقتصاد العالمي من تحديات متزايدة، بسبب عدم الاستقرار في سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف التمويل، وتقلبات أسواق الطاقة، إلا أن الصناعة الوطنية بالمملكة استطاعت الحفاظ على معدلات نمو إيجابية، وأسهم في ذلك حزمة الإصلاحات الهيكلية ضمن رؤية 2030، والتي جعلت القطاع الصناعي ضمن أولوياتها، من خلال عديد من المبادرات مثل “صُنع في السعودية” وبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية.

ومع أن هناك بعض التحديات، التي تواجه قطاع الصناعة، وخاصةً فيما يتعلق بالبنية التحتية للطاقة، إذ سجل قطاع الكهرباء والغاز تراجعًا في بعض الفترات بنسبة %7.7، إلا أن وزارة الطاقة تسعى لمواجهة ذلك ومواكبة الطلب الصناعي المتزايد، وبدأت بالفعل في تسريع تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة، ورفع القدرة الإنتاجية المستهدفة إلى 120 جيجاواط بحلول عام 2030م. ولذلك، فإن تقارير مثل “أكسفورد إيكونوميكس” وضعت تقديرات متفائلة وتوقعت أن يحقق الناتج الصناعي في المملكة متوسط نمو سنوي يتراوح بين %4 إلى %5 حتى عام 2027م، في حال استمرت الاستثمارات الحالية، واستمرت المبادرات الحكومية الداعمة. وتشير التوقعات أيضًا إلى أن القطاع الصناعي سيشهد تطورًا كبيرًا في السنوات القادمة، في إطار التركيز على توطين الصناعات الاستراتيجية ودعم الشركات الناشئة، كما ستسهم الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية واللوجستيات في تبوأ المملكة مكانة متميزة في المجال الصناعي.

مكان متميز ضمن صناعات المستقبل

وكانت المملكة قد أطلقت عددًا من التجمعات الصناعية المتخصصة، ليس فقط لتحقيق المنافسة عالميًا، ولكن أيضًا ليكون لها مكانة متميزة ضمن صناعات المستقبل؛ ففي مدينة جدة هناك منطقة “أيرو بارك الأولى”، وهي أول تجمع متخصص لصناعة وصيانة الطائرات، وتمتد على مساحة 1.2 مليون متر مربع، بهدف توطين التقنيات المتقدمة وتوفير بيئة استثمارية محفزة لصناعة الطيران، وفي مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، يبرز دور مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات ودوره في توفير بيئة متكاملة ومحفزة لتصنيع السيارات التقليدية والكهربائية، عبر توطين التقنيات واستقطاب رواد الصناعة العالميين لإنتاج 300 ألف سيارة سنويًّا في مجمع صناعي واحد.

ولا شك أن الجهود المستمرة في قطاع التصنيع، من أجل توطين التكنولوجيا المتقدمة، تدعم نمو صناعات جديدة، مثل، الإلكترونيات والسيارات الكهربائية، عبر شركات وطنية يقودها صندوق الاستثمارات العامة، مثل “آلات” و”سير”.

كما أعلنت شركة “بي واي دي” الصينية لصناعة السيارات عن خطة لتوسيع حضورها في المملكة، مستفيدة من الزخم الذي أحدثه دخول “تسلا” للسوق المحلي، ولدى شركة “بي واي دي” في حاليًا 3 صالات عرض، وتخطط لإضافة 7 مواقع جديدة بحلول النصف الثاني من عام 2026م، وفقاً لما ذكره المدير العام للشركة، “جيروم سايجوت”.

السلعة الرابعة على المستوى العالمي

وفي إطار السعي إلى توطين التقنيات الاستراتيجية، وتمكين الكفاءات الوطنية، وتحقيق الاكتفاء التقني في المجالات المتقدمة، اهتمت المملكة بقطاع أشباه الموصلات، ولا تعتبر صناعة أشباه الموصلات صناعة قائمة بذاتها، ولكنها تُعد داعمة للصناعات الأخرى، مثل، صناعة السيارات وإنترنت الأشياء والإلكترونيات وغيرها، ويشهد هذا القطاع نموًا متسارعًا ، إذ يتجاوز حجم السوق العالمي الـ 600 مليار دولار سنويًا، ومن المتوقع أن يصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2030م، مدفوعًا بتوسع تطبيقات تقنيات الاتصالات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء.

وفي هذا السياق، يشير مدير البرنامج السعودي لأشباه الموصلات، “أحمد الفيفي”، إلى أن صناعة أشباه الموصلات تعتبر السلعة الرابعة على المستوى العالمي، من حيث القيمة السوقية خلف النفط الخام وصناعة السيارات والبتروكيمياويات، متوقعاً أن يتجاوز حجمها تريليون دولار في عام 2030م. ويوضح أن صناعة أشباه الموصلات من أكثر الصناعات نموًا حول العالم، وتعتبر ركنًا أساسيًا في الحياة اليومية الرقمية، وتدخل في مختلف الصناعات، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي والسيارات، إذ تشكل الرقائق الإلكترونية نحو %40 من قيمة السيارة.

وكانت المملكة قد أطلقت البرنامج السعودي لأشباه الموصلات لدعم البحث والتطوير وتأهيل الكوادر البشرية، وأسست برنامج حاضنة أشباه الموصلات لتقديم الدعم لرواد الأعمال والشركات الناشئة، ومن جهةٍ أخرى، فقد تم تدشين “مركز القدرات الوطنية لأشباه الموصلات” بالتعاون مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست”، ليكون بمثابة مركز وطنيً متخصص في بناء القدرات البشرية والتقنية، كما أعلنت إنشاء صندوق بقيمة مليار ريال للاستثمار في شركات أشباه الموصلات التي تخطط لبدء عملياتها في المملكة، إذ يستهدف الصندوق أن يصل عدد شركات أشباه الموصلات العاملة إلى 50 شركة خلال الـ 5 أو 6 سنوات القادمة.

تصنيع 25 رقاقة إلكترونية

وفي عام 2021م، كشف وزير الاتصالات وتقنية المعلومات “عبدالله السواحة” عن تصنيع أول رقاقة إلكترونية في المملكة، وبعدها، تسارعت الخطوات والجهود المبذولة لدعم وتمكين منظومة أشباه الموصلات في المملكة، إذ أعلنت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عن نجاحها في تصميم وتصنيع 25 رقاقة إلكترونية متقدمة طُوِّرَت بأيدٍ سعودية لأغراض التدريب والبحث والتطوير.

وتقترب المملكة من اتفاق تاريخي جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال أشباه الموصلات، يسمح لشركات تصنيع الرقائق الأمريكية بتصدير أشباه الموصلات إلى المملكة لتشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ولا يعد ذلك الاتفاق مجرد صفقة تجارية، لكنه يُعد خطوة استراتيجية ترسخ لصعود السعودية كقوة إقليمية في مجال الذكاء الاصطناعي.

ومن الخطوات المهمة لتوطين صناعة الإلكترونيات، إعلان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، الأمير محمد بن سلمان، تأسيس شركة “آلات” ضمن شركات “صندوق الاستثمارات العامة”، بهدف جعل المملكة مركزًا عالميًا للصناعات المستدامة، التي تركز على التقنية المتقدمة والإلكترونيات، وستستثمر شركة “آلات” 100 مليار دولار، حتى حلول عام 2030م، لتعزيز قدرات القطاع التقني في المملكة، وتصنيع منتجات للأسواق المحلية والدولية، في مجالات، الصناعات المتقدمة، وأشباه الموصلات، والأجهزة المنزلية الذكية، والصحة الذكية، والأجهزة الإلكترونية الذكية، والمباني الذكية، والجيل الجديد من البنى التحتية.

الطاقة والبيئة في قلب الصناعة

إلى جانب الصناعات التقليدية والتقنية، تولي المملكة أهمية خاصة للصناعات الخضراء، مثل إنتاج الهيدروجين الأخضر، وإعادة التدوير، وتصنيع معدات الطاقة المتجددة، ومن هنا تأتي الشراكات مع شركات عالمية في مجال تصنيع بطاريات الليثيوم والمركبات الكهربائية، لضمان استدامة النمو الصناعي دون الإخلال بالتوازن البيئي، فالمملكة لا تكتفي بالخطاب، بل تخطو خطوات ملموسة فمشروعات الطاقة المتجددة حاليًا بلغت حوالي 10 مشاريع بحجم إجمالي قدرة تشغيلية تقارب 6,151  ميغاواط للطاقة الشمسية، ومشروع واحد بقدرة 400 ميغاواط من الرياح بحلول نهاية عام 2024م، باستثمارات تجاوزت 19.84 مليار ريال في هذه المشاريع.

وفي مجال التدوير، تسعى المملكة إلى رفع معدل إعادة التدويــــر من نسبة %10 حاليًا إلى %95 من النفايات عبر الاستراتيجيات الوطنية، مما يُتوقع أن يُضيف نحو 120 مليار ريال سنويًا للناتج المحلي الإجمالي ويوفر نحو 100 ألف وظيفة في المستقبل القريب، أما في محيط تصنيع مكونات الطاقة المتجددة فقد وقّع صندوق الاستثمارات العامة ثلاث شراكات رئيسة مع مؤسسات دولية لتوطين إنتاج مكونات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح (الخلايا واللوحات الشمسية، والمعادن الأساسية، ومكونات توربينات الرياح)، ومن تلك الشراكات مشروع مشترك مع Envision Energy  لتصنيع مكونات توربينات الرياح بطاقة سنوية مستهدفة نحو 4  جيجاواط، واتفاق مع Jinko Solar  لتوطين إنتاج خلايا وألواح شمسية بقدرة 10  جيجاواط سنويًا، وشراكة مع شركة TCL Zhonghua  لتصنيع السيليكون البلّوري (ingots) والواح wafers بطاقة إنتاجية تُقدَّر بـ 20 جيجاواط، كل هذه الأرقام والاتفاقات تؤكد أن التصنيع الأخضر ليس مجرد تكملة للمشهد الصناعي، بل أصبح محركًا استراتيجيًا للنمو، والاستدامة، وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة في المملكة.

ضامن حقيقي لاستدامة النمو

والواضح أن قطاع التصنيع في المملكة لم يعد مجرد مكوّن في الاقتصاد، بل أصبح المحرك الفعلي للتحول الوطني، والضامن الحقيقي لاستدامة النمو في مرحلة ما بعد النفط، ومع اتساع نطاق الاستثمار، وتعدد مجالات التصنيع، وتمكين الكفاءات الوطنية، تتجه الملكة نحو إعادة تعريف موقعها في خارطة التصنيع العالمية، ليس كمستهلك، بل كمنتج ومُصدر ومُبتكر.

فلقد بات التصنيع في قلب الرؤية حيث لم تعد المملكة تكتفي باستثمار مواردها الطبيعية، بل تدخل مرحلة نوعية جديدة من الصناعة، وهو ما أشار إليه وزير الصناعة والثروة المعدنية، “بندر الخريف” بأن الصناعة السعودية تدخل مرحلة نوعية جديدة، ليست فقط على صعيد التوسع في عدد المصانع، بل من حيث تنوّع القطاعات، وزيادة مساهمة التقنية، وتحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويؤكد أن أحد الأهداف الرئيسة هو خلق فرص حقيقية للمستثمرين المحليين والدوليين من خلال سياسات واضحة، وبرامج حوافز مصممة بعناية لتقليل المخاطر وتعزيز العائد على الاستثمار، خاصة في الصناعات التي كانت المملكة تعتمد على استيرادها لسنوات طويلة.

ومن جانبه، يرى وزير الاستثمار “خالد الفالح” أن التحول الصناعي في المملكة يعكس رؤية استثمارية استراتيجية تتجاوز مفهوم التوطين التقليدي، إلى تمكين صناعات قادرة على المنافسة عالميًا، ويبرز هنا برنامج الحوافز الصناعية الموحدة كأداة محورية، إذ يغطي ما يصل إلى %35 من التكاليف الاستثمارية الرأسمالية للمشروعات، الأمر الذي يفتح أبوابًا واسعة أمام المستثمرين الجدد للدخول في أسواق واعدة ومحمية في الوقت نفسه بسياسات استقرار وتشجيع مدروسة، كما يُشير “الفالح” إلى أهمية البنية التحتية المتطورة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي للمملكة، باعتبارهما عنصرين جاذبين للصناعات الموجهة للتصدير.

تبنّي تقنيات الثورة الصناعية الرابعة

تأتي هذه التوجهات مدعومة بإرادة سياسية واقتصادية واضحة لتعزيز موقع المملكة كمركز صناعي إقليمي، وربما عالمي، وتُعد الاستراتيجية الوطنية للصناعة من أبرز معالم هذا التحول، حيث تستهدف رفع عدد المصانع وتوسيع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي غير النفطي، وتمتد هذه الاستراتيجية لتشمل تطوير صناعات نوعية جديدة، منها المركبات الكهربائية، والأدوية، والتقنيات المتقدمة، إلى جانب تعزيز مكانة المملكة في الصناعات التقليدية مثل البتروكيماويات والمعادن.

ولا يمكن الحديث عن مستقبل التصنيع دون التطرق إلى ما تسعى إليه المملكة بتبنّي تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في مصانعها، من خلال الاستثمار في الأتمتة، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء الصناعية، فهذه الخطوة لا تعني فقط رفع كفاءة الإنتاج، بل أيضًا تمكين المصانع من العمل بمرونة وتنافسية على مستوى عالمي، ومع توسع المدن الصناعية الذكية، والتكامل مع منظومات الخدمات اللوجستية، تبدو البيئة الصناعية مهيأة لأن تصبح حاضنة للمصانع الرقمية ومراكز الابتكار التقني في المنطقة.

وتتجلى أيضًا هنا أهمية ربط التصنيع بالاستدامة، وهو توجه أصبح عالميًا، وتتبناه المملكة بشكل واضح ضمن مبادراتها الخضراء، فهناك جهود متزايدة لدمج مبادئ الاقتصاد الدائري، وخفض الانبعاثات الكربونية في العمليات الصناعية، مع تعزيز استخدام مصادر الطاقة النظيفة، هذا التوجه لا يعزز فقط من فرص المملكة في أسواق التصدير التي أصبحت أكثر حساسية للمعايير البيئية، بل يفتح مجالاً واسعًا للاستثمار في التقنيات النظيفة، ومشروعات الطاقة المتجددة المرتبطة بالتصنيع، وتطوير حلول مبتكرة لإدارة الموارد.

فصل محوري في قصة التحول الوطني

ومن خلال هذه المسارات، تتكشّف أمام المستثمرين المحليين والدوليين فرص متعددة، تشمل الدخول في صناعات جديدة، أو إنشاء مصانع لإنتاج مكونات ومعدات ومواد كانت تُستورد سابقًا، كما أن سلاسل القيمة الصناعية الممتدة في المملكة تمنح المستثمرين قدرة على التكامل مع منشآت قائمة أو تصدير منتجاتهم بسهولة إلى أسواق إقليمية ودولية. وبفضل الاتفاقيات التجارية والبنية التحتية المتقدمة، فإن المُصنع في المملكة لم يعد يخدم السوق المحلي فقط، بل أصبح بوابة لأسواق الخليج، والشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وحتى أوروبا وآسيا.

ولا تقتصر الفرص على المشاريع الكبرى، بل تمتد لتشمل رواد الأعمال، والشركات الصغيرة والمتوسطة التي يمكن أن تملأ فجوات مهمة في سلاسل التوريد، أو تقدم خدمات صناعية مساندة، أو تطور منتجات مبتكرة محليًا. إن البيئة الصناعية السعودية الجديدة تُتيح لهذه الشركات أن تنمو بسرعة، مستفيدة من حاضنات الأعمال، وبرامج التمويل، ومنصات الدعم التقني والتدريب.

ورغم هذه الصورة المتفائلة، فإن نجاح التحول الصناعي يتطلب مواجهة بعض التحديات الجوهرية، لعل أبرزها الحاجة إلى تأهيل الكفاءات الوطنية على أعلى مستوى تقني، لضمان قيادة المصانع الذكية، وتشغيل خطوط الإنتاج الحديثة بكفاءة، كما أن إدارة التكاليف التشغيلية والقدرة على ضبط سلاسل التوريد تمثل تحديًا آخر، خاصة في ظل التقلبات العالمية، هناك أيضًا أهمية للتوازن بين تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر وبناء قاعدة صناعية وطنية قوية ومستقلة تعتمد على المعرفة المحلية والابتكار الذاتي. ومع ذلك، فإن التوقعات المستقبلية تشير إلى أن المملكة ستشهد طفرة صناعية حقيقية خلال السنوات القليلة القادمة، فمن المتوقع أن ترتفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي، وتزداد حصة المنتجات غير النفطية في الصادرات، مع دخول المملكة بقوة إلى قطاعات صناعية متقدمة، كذلك ستتوسع الشراكات الدولية في التصنيع، وستُصبح المملكة مركزًا إقليميًا للبحث والتطوير الصناعي، خاصة في الصناعات النظيفة، والمركبات الكهربائية، والحلول التقنية.

فإن المشهد الصناعي يُرسي قواعد جديدة لاقتصاد ما بعد النفط، ويقدّم فرصًا هائلة لكل من يملك الرؤية والاستعداد للدخول في هذا السوق، فالمملكة لا تكتفي بأن تكون بيئة جاذبة للاستثمار، بل تسعى لأن تكون حاضنة للابتكار الصناعي، ومركزًا رئيسًا في سلاسل الإمداد العالمية، ومصدرًا للحلول الصناعية المستدامة، إنها مرحلة جديدة، يكتب فيها التصنيع فصلاً محوريًا في قصة التحول الوطني.