زادت نسبة العقارات المعروضة في السوق لأكثر من 200 مليون متر مربع منذ تعديلات رفع الرسوم السنوية إلى %10 على الأراضي غير المطوّرة.
الرسوم سوف تخلق ضغطًا حميدًا على أصحاب الأراضي لدفعهم نحو الدخول في شراكات تطويرية أو بيع أراضيهم لمطورين قادرين على تحويلها إلى مشروعات.
مع تزايـــد الحاجــــة إلى تهيئـــة بيئة استثمارية مستدامة، جاءت رسوم الأراضي البيضاء كأداة استراتيجية تهدف إلى إعادة توازن سوق العقارات، فلا يمثل تطبيق الرسوم مجرد سياسة مالية فحسب، بل يُعد حافزًا اقتصاديًا ذكيًا يحوّل الأراضي الخام غير المستغلة إلى أصول منتجة تسهم في تحفيز عجلة البناء والتشييد، وتوفر فرصًا استثمارية واعدة للمطورين والمستثمرين على حد سواء.
وقد بات من الواضح أن هذا التوجه لا يخدم فقط أهداف الإسكان والطلب السكني المتزايد، بل يُسهم في إعادة تدوير الثروة العقارية، وخلق بيئة أكثر شفافية في السوق، ما يفتح المجال أمام نمو صحي مستدام يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني والمجتمع في آنٍ واحد.

تعديلات نظام رسوم الأراضي البيضاء
ومنذ أن أقر مجلس الوزراء في أواخر أبريل 2025م، تعديلات على نظام رسوم الأراضي البيضاء، برفع الرسوم السنوية إلى %10 على الأراضي غير المطوّرة وشاملة للعقارات الشاغرة، زادت نسبة العقارات المعروضة في السوق لأكثر من 200 مليون متر مربع، وهو ما أنعكس بشكل إيجابي على الحركة العقارية، ليس في الرياض فقط التي شهدت المرحلة الأولى من التطبيق، بل امتد التأثير إلى مدن رئيسة مثل الدمام وجدة، نتيجة الترقب الواضح لتوسيع تطبيق النظام على باقي المناطق، ما دفع عديدًا من المستثمرين إلى تعديل استراتيجياتهم، والبحث عن حلول استثمارية أكثر جدوى.
ويبدو واضحًا أن تطبيق الرسوم أدى إلى تقليص مساحات المضاربة العقارية التي أسهمت سابقًا في رفع الأسعار بشكل غير منطقي، وهو ما كان يشكِّل تحديًا كبيرًا أمام المواطنين الساعين لتملك السكن.
ومن خلال هذا التعديل الهيكلي بتوسيع نطاق تطبيق رسوم الأراضي البيضاء خصوصًا في مدينة الرياض، وتقسيم الأراضي إلى خمس شرائح بحسب أولوية التطوير، مع فرض رسوم متدرجة تبدأ من %2.5 حتى %10 سنويًا، بدأ السوق يشهد تغيرًا ملحوظًا في سلوك المستثمرين العقاريين، حيث انتقل التركيز من انتظار ارتفاعات الأسعار إلى التطوير الفعلي للأراضي وتحويلها إلى مشروعات سكنية وتجارية تعود بالنفع على الاقتصاد ككل؛ إذ عكس هذا التدرج في الرسوم استراتيجية ذكية تهدف إلى تحفيز ملاك الأراضي في المناطق الحيوية على اتخاذ خطوات عاجلة نحو التطوير أو البيع، وبالفعل، بدأت مؤشرات هذا التوجه تظهر جليًا من خلال ارتفاع وتيرة المزادات العقارية، وزيادة حجم المشاريع السكنية الجديدة، خصوصًا في مناطق مثل النرجس، العارض، والمناطق الشمالية للعاصمة.
التأثير الإيجابي يمتد تدريجيًا إلى مناطق أخرى
وقد أوضح الرئيس التنفيذي لشركة “منصات العقارية”، خالد المبيض، أن تطبيق الرسوم أسهم في تراجع الأسعار في الرياض بشكل ملحوظ نتيجة زيادة المعروض، وأشار إلى أن التأثير الإيجابي لم يقتصر على العاصمة، بل بدأ يمتد تدريجيًا إلى مناطق أخرى بفعل الترقب، مؤكدًا أن التوسع في التطبيق سيُحدث تأثيرًا أوسع وأكثر استقرارًا على السوق العقارية.

وحول أبرز الآثار التحولية التي أحدثتها رسوم الأراضي البيضاء، قال المبيض، إنها تغيير الثقافة الاستثمارية السائدة في السوق، فبدلاً من تجميد الأراضي لسنوات دون أي تطوير، أصبح التوجّه أكثر نحو ضخ الاستثمارات في البنية التحتية وتطوير الوحدات السكنية والتجارية، ما يحرك قرابة 90 قطاعًا اقتصاديًا مرتبطًا بالإنشاءات، ويؤكد أن هذا التحول مفيد للاقتصاد الوطني، إذ يُخرج رؤوس الأموال المجمدة ويوجهها نحو أنشطة منتجة، كما يسهم في توفير وحدات سكنية بأسعار أكثر واقعية، لافتًا إلى أنه حتى لو لم يتم فرض الرسوم مباشرة في بعض المناطق، إلا أن حالة الترقب وحدها كانت كافية لتحريك السوق ودفع المستثمرين لتغيير نهجهم.
وثمة تقارير صادرة عن شركة الراجحي المالية أشارت إلى أن التعديلات التي طرأت على نظام رسوم الأراضي البيضاء سيكون لها أثر إيجابي كبير على المدى المتوسط والبعيد، خصوصًا في مواجهة الأسعار التضخمية الناجمة عن المضاربة في بعض أحياء الرياض، وأكدت أن العاصمة تظل المحور الأساسي للنشاط الاقتصادي في المملكة، لاسيما مع مشاريع ضخمة قيد التنفيذ مثل: حديقة الملك سلمان، المربع الجديد، بوابة الدرعية، وتنظيم إكسبو 2030م، وكأس العالم 2034م، وأن الطلب العقاري سيبقى مرتفعًا، مما يجعل من الضروري وجود أدوات تنظيمية تضمن استقرار السوق.

المستثمرون ينتظرون وضوح الصورة المستقبلية
وعلى الرغم من تراجع النشاط العقاري بنسبة %22 في الربع الثاني من عام 2025م، بحسب تقارير السوق، إلا أن هذا التباطؤ يمكن أن يُعزى إلى انتظار المستثمرين وضوح الصورة المستقبلية بعد تطبيق الرسوم، ما ينبئ بعودة النشاط بوتيرة أسرع خلال النصف الأول من عام 2026م، وعلى الجانب الآخر، أبدى بعض العقاريين في المناطق الشرقية والغربية مخاوفهم من التسرع في تطبيق الرسوم، خصوصًا في ظل الركود النسبي الذي تعانيه هذه المناطق.
وقد عبّر الرئيس التنفيذي لشركة “تمكين للاستثمار”، حامد بن حمري، عن قلقه من أن تؤدي الرسوم إلى زيادة الركود في المنطقة الشرقية، التي لم تشهد زيادات سعرية ضخمة كما في الرياض، وأوضح أن السوق في الدمام والخُبر لا تزال مستقرة، وأن أي إجراء ضريبي في الوقت الحالي قد يُبطئ التعافي الحاصل.
أما فيما يتعلق بالمنطقة الغربية، يقول المثمن العقاري، علي الكاشف، إن هناك حالة من الترقب في جدة، خصوصًا في ظل التأثيرات غير المباشرة للقرار، والتي بدأت تظهر من خلال زيادة المعروض وتراجع الأسعار في بعض الأحياء بنسبة تصل إلى %30، مشيرًا إلى أن إزالة الأحياء العشوائية وعمليات التطوير المصاحبة ستزيد من الضغط على السوق في المستقبل القريب.

ضغط “حميد” على أصحاب الأراضي الكبيرة
ومن الواضح أن اللائحة المطورة لنظام رسوم الأراضي البيضاء جاءت لتعيد هيكلة طريقة التطبيق، عبر تصنيف النطاقات الجغرافية إلى شرائح حسب أولوية التطوير العمراني، وتحديد نسب رسوم متدرجة، فهذه الآلية تستهدف تحفيز البيع أو التطوير العاجل، خاصة في الأراضي الخام والكبيرة الواقعة داخل النطاقات العمرانية، وهي الفئة الأكثر تسببًا في تقييد العرض ورفع الأسعار، مما يخلق ضغط “حميد” على أصحاب الأراضي الكبيرة، لدفعهم نحو الدخول في شراكات تطويرية، أو بيع أراضيهم لمطورين قادرين على تحويلها إلى مشاريع سكنية وتجارية.
ونتيجة لذلك، يتوقع أن يشهد السوق خلال الفترة القادمة تحولاً جذريًا في طبيعة المعروض، سواء من حيث الجودة أو الكمية، بما يسهم في توفير خيارات أوسع للمستهلك النهائي، لا سيما في المناطق ذات الخدمات المكتملة.

ومنذ انطلاق البرنامج وحتى مطلع عام 2025م، تم ضخ أكثر من 160 مليون متر مربع من الأراضي إلى السوق، منها 39 مليون متر دخلت فعليًا حيز التداول، وفي عام 2021م فقط، تم فرض الرسوم على أكثر من 400 مليون متر مربع من الأراضي، مما أدى إلى تطوير أو بيع نحو ربع هذه المساحات، وهو ما يعكس حجم الكتلة العقارية التي بدأ تحريكها فعليًا.
وقد فتح هذا التغير في سياسة التعامل مع الأراضي البيضاء آفاقًا واسعة للمطورين العقاريين والشركات التمويلية، إذ أصبحت شركات التطوير العقاري عنصرًا رئيسًا في المعادلة الجديدة، خصوصًا تلك التي تتمتع بقدرات تمويلية قوية وشراكات استراتيجية، كما يُتوقع أن تستفيد شركات الأسمنت ومواد البناء والمقاولات من هذه الطفرة، نظرًا لزيادة الطلب على المشاريع الجديدة، بالإضافة إلى استفادة البنوك وشركات التمويل العقاري من زيادة الإقراض الموجه نحو التطوير لا المضاربة.
وبدأت فعليًا تحالفات بين كبار ملاك الأراضي وصناديق التطوير العقاري بهدف تسريع عملية تحويل الأراضي إلى مشاريع قائمة، في محاولة لتجنب عبء الرسوم السنوية العالية، هذه الشراكات ستسهم في خلق وحدات سكنية بأسعار مناسبة، خصوصًا مع احتمالية خفض أسعار الفائدة خلال الشهور القادمة، مما يعزز القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة ويعيد النشاط للسوق.

تحول استراتيجي شامل في السوق العقاري
ويبدو أن فرض رسوم على الأراضي البيضاء لا يُعد مجرد أداة مالية أو تنظيمية، بل هو تحول استراتيجي شامل في فلسفة التعامل مع السوق العقاري، هذه السياسة أعادت تعريف العلاقة بين المالك والسوق، حيث لم يعد الاحتفاظ بالأراضي دون تطوير أمرًا مقبولًا اقتصاديًا، بل أصبح مكلفًا وغير مجدٍ.
ومن خلال هذه الآلية، يتم تحفيز رؤوس الأموال المجمدة على التحرك نحو التنمية، وتوجيه الاستثمار نحو الإنتاج الفعلي بدلاً من المضاربة. كما تخلق هذه السياسة بيئة أكثر عدالة للمواطنين الباحثين عن السكن، وتعيد للعقار دوره التنموي الحقيقي.
وفي ظل التغيرات التي تشهدها المملكة، ومع الزخم الكبير الناتج عن المشاريع الوطنية الكبرى، فإن تحرير %20 فقط من الأراضي البيضاء كفيل بإحداث توازن حقيقي في السوق العقارية، وقد يؤدي إلى خفض الأسعار بنسبة تصل إلى %40، ويتوقع خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، أن نشهد نقلة نوعية في حجم الأراضي المطورة، قد تتجاوز 350 مليون متر مربع، وهو ما سيؤدي إلى تحول مدن المملكة إلى بيئات أكثر حيوية، تحتضن مشروعات سكنية ومجتمعات عمرانية متكاملة.
وأخيرًا فإن استدامة سوق العقارات السعودية أصبحت الآن أقرب من أي وقت مضى، بفضل السياسات الجريئة التي تعالج جذور المشكلة لا أعراضها فقط، وتجعل من العقار أداة للتنمية لا لتكديس الثروة.
