في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها المملكة ضمن رؤية 2030، تبرز التقنية الحيوية كأحد أعمدة المستقبل الواعد، ليس فقط بوصفها أداة للابتكار العلمي، بل كقطاع اقتصادي استراتيجي يحمل فرصًا استثمارية هائلة.
ومن خلال إطلاق الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية مطلع عام 2024م، دخلت المملكة مضمار التنافس العالمي بعزمٍ على تحويل هذا القطاع إلى مصدرٍ متجدد للنمو الاقتصادي، والإسهام بنسبة طموحة تصل إلى %3 من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.
وإن ما يُميز هذا التوجه ليس فقط التركيز على الاكتفاء الذاتي في الصناعات الحيوية، بل تبنّي نموذج تنموي متكامل يدمج بين التصنيع المحلي، والبحث والتطوير، وتطوير الكفاءات الوطنية، ليشكِّل بذلك بيئة استثمارية خصبة للشركات الناشئة والمستثمرين في مجالات مثل اللقاحات، والعلاجات الجينية، والصحة الرقمية، والزراعة المستدامة.
فرصة ذهبية للاستثمار في اقتصاد المعرفة
ومع تنامي الشراكات الدولية، وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وتوافر بنية تحتية علمية متقدمة، تُثبت المملكة أن التقنية الحيوية ليست فقط مستقبل الصحة والبيئة، بل هي أيضًا محركٌ استراتيجي للنمو الاقتصادي طويل الأمد، وفرصة ذهبية للاستثمار في اقتصاد المعرفة.
وتسير المملكة بخطى واثقة نحو الريادة العالمية في مجال التقنية الحيوية، من خلال استراتيجية وطنية طموحة تهدف إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي، وتنويع مصادر الدخل، وتحقيق تقدم نوعي في قطاع الرعاية الصحية، هذه الاستراتيجية، التي ترتكز على أربعة محاور رئيسة، تُمثل بوابة عبور المملكة إلى مستقبل يقوم على الابتكار والمعرفة، وليس فقط على الإنتاج.

الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية
وتتضمن الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية أربعة محاور أساسية:
- تطوير قدرات تصنيع اللقاحات والمستحضرات البيولوجية: تهدف المملكة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية واللقاحات الحيوية، مع التوسع في التصدير وتقليل الاعتماد على الواردات.
- تسريع التحول نحو الطب الدقيق: وذلك من خلال توسيع قاعدة البيانات الجينومية الوطنية، ودمج تقنيات التحليل الوراثي في الرعاية السريرية لتعزيز الوقاية والعلاج المبكر.
- تعزيز الأمن الغذائي من خلال التكنولوجيا الحيوية النباتية: بما يدعم الاستدامة البيئية ويُحقق الأمن الغذائي في مواجهة التحديات المناخية.
- تحقيق مساهمة فاعلة في الناتج المحلي غير النفطي: تستهدف المملكة من خلال هذه الاستراتيجية أن تسهم التقنية الحيوية بنسبة %3 في الناتج المحلي غير النفطي.
نقطة تحول نوعي في الاقتصاد الوطني
ويُشكل الجمع بين مفهومي “صُنع في السعودية” و”ابتكر في السعودية” نقطة انطلاق نحو تحول نوعي في الاقتصاد الوطني، فالدول التي تدمج الابتكار مع التصنيع تُحقق قيمة مضافة أعلى من تلك التي تركز فقط على الإنتاج، كما هو الحال في الولايات المتحدة وسويسرا، اللتين تُحققان مكاسب ضخمة من الملكية الفكرية وابتكار الأدوية الجديدة.
وتؤكد المؤشرات أن المملكة، وتحديدًا العاصمة الرياض، في طريقها للتحول إلى مركز عالمي في مجال التقنية الحيوية، منافسةً مدنًا رائدة مثل بوسطن الأمريكية، وثمة توقعات أن يرتفع حجم سوق التقنية الحيوية في المملكة إلى نحو 11.6مليار دولار بحلول عام 2033م، مقارنة بـ 7.1 مليار دولار في عام 2024م، مدفوعًا بزيادة الاستثمارات، وتطور البنية التحتية، والطلب المتنامي على المستحضرات الحيوية، كما يُتوقع نمو سوق الصحة الرقمية بوتيرة متسارعة، ليصل إلى نحو 17 مليار دولار بحلول عام 2033م، مقارنة بـ 2.5 مليار دولار في عام 2024م بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ %23.8.

نمو قطاع البحث والتطوير في المملكة
ويشهد قطاع البحث والتطوير في المملكة نموًا ملحوظًا، حيث سجّل معدل نموًا سنويًا بنسبة %17.4 في عام 2023م، وتحتضن مؤسسات بحثية مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، بنية تحتية متطورة تشمل مصانع تجريبية، ومراكز تسلسل جينومي، ضمن برنامج الجينوم البشري، الذي نجح في تسلسل بيانات أكثر من 650 ألف فرد، ويعكس هذا الإنجاز التقدم الكبير في تأسيس قاعدة بيانات وراثية متكاملة، تدعم التحول نحو الطب الشخصي وتحسين جودة الحياة.
بيئة محفزة على الابتكار والبحث العلمي
وقد أطلقت المملكة مبادرات متعددة لدعم الشركات الناشئة في القطاع، منها “مسرّع التقنية الحيوية”، إلى جانب تسريع إجراءات هيئة الغذاء والدواء لإجازة التجارب السريرية، ما يُشكل بيئة محفزة على الابتكار والبحث العلمي.
وتُشير الخبيرة في شركة (PwC)، “كلوديا بالم”، إلى أن المملكة تمتلك مقومات فريدة للريادة في مجالات مثل علم الجينوم، والعلاج الجيني، والتقنيات الزراعية الحديثة، لا سيما مع التحديات البيئية التي تواجه العالم، مثل التصحر وتغير المناخ، وأشارت إلى استضافة مشروع “نيوم” كمركز جديد للأنشطة العلمية والتجارية، بما يسهم في إجراء التجارب السريرية، بالإضافة إلى ذلك، تُساعد مبادرات الابتكار، إلى تعزيز جهود الباحثين، وتسويق التقنيات والمنتجات المبتكرة.
وأضافت “بالم”، أن المملكة تدخل مرحلة التكنولوجيا الحيوية العالمية، بفضل مجموعة من العوامل التي تعمل لصالحها، مثل الاهتمام العالمي بعلم الجينوم والعلاج الخلوي والجيني، فضلًا عن التأثير السلبي لتغير المناخ، وضرورة الزراعة في المناطق الجافة، كما تُتيح مكانة “أرامكو” كأكبر شركة في العالم للمملكة فرصةً فريدةً لدفع عجلة تطبيقات التقنية الحيوية الصناعية، والاستفادة من خبراتها، إلى جانب خبرات شركة “سابك” لإطلاق منتجات جديدة في أسواق الطاقة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الدولية المتشعبة والقوية للمملكة مع الدول الكبرى مثل الصين، التي تتيح لها مزيدًا من فرص الشراكة والتعاون في هذه المجالات.

فرص كبيرة لبناء شركات مبتكرة
والتحول الذي يشهده قطاع الرعاية الصحية في المملكة يتجاوز مجرد تحديث المستشفيات، بل يشمل إعادة هيكلة جذرية يقودها القطاع الخاص، بدعم حكومي. فقد تجاوزت قيمة الاستثمارات المحلية والدولية في هذا القطاع أكثر من 8 مليارات دولار عبر 170 صفقة استثمارية، بين عامي 2020م و2024م، مع توجه متزايد نحو حلول الذكاء الاصطناعي في التشخيص، واستخدام البيانات الجينومية لتخصيص العلاج.
ويرى مستشار النمو في مجموعة “أرانكا”، “راو كارتيكيا”، أن البيئة الاستثمارية في المملكة أصبحت جاذبة للشركات الناشئة، خاصة في مجال التقنيات الحيوية، حيث توفر المملكة فرصًا كبيرة لبناء شركات مبتكرة، تُسهم في خلق وظائف نوعية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
وأضافت “كارتيكيا” أن قطاع الرعاية الصحية في المملكة يشهد تحولًا جذريًا في تاريخه الحديث، لطالما اعتُبر القطاع يقدم خدمات عامة تعتمد على الإنفاق الحكومي، لكنه يتحول الآن وبسرعة إلى منظومة تنافسية، مدفوعةً بالابتكار، ويقودها القطاع الخاص، إذ يكمن جوهر هذا التحول في إعادة تنظيم حاسمة لرأس المال، فبين عامي 2020 و2024م، استثمرت الشركات والمؤسسات أكثر من 6.5 مليار دولار في مشاريع الرعاية الصحية المحلية، مما يُشير إلى اهتمام قوي لتمكين الرعاية القائمة على التكنولوجيا، وليس فقط زيادة سعة المستشفيات.
ليست بلدًا منتجًا فقط بل مُبدعًا ومُبتكرًا
وتشير تقارير شركة “آرثر دي ليتل” إلى أن السوق العالمي للتقنية الحيوية قد يشهد نموًا من 1.5 تريليون دولار إلى 4 تريليونات دولار بحلول عام 2030م وتُدرك المملكة هذا التحول، حيث أطلقت مشاريع مثل “برنامج الجينوم السعودي”، الذي يُعد حجر الأساس لتطوير الرعاية الصحية المبنية على البيانات الوراثية.
وتستهدف المملكة استثمار ما يعادل %2.5 من الناتج المحلي الإجمالي في البحث والتطوير بحلول عام 2040م، بما يُسهم في إضافة 16 مليار دولار للاقتصاد الوطني، وخلق وظائف متقدمة في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
وتؤكد مديرة شركة آرثر دي ليتل، “أنكيتا جولاتي”، أن التقاء البيانات الجينومية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي يُمثل مستقبل الطب الحديث، حيث يُمكن من خلاله تصميم علاجات دقيقة، ومخصصة لكل مريض، بشكل يرفع من كفاءة العلاج ويقلل من تكاليف الرعاية الصحية.
ويُعد برنامج الجينوم السعودي واحدًا من المشاريع الرائدة في هذا المجال، إذ لا يقتصر على دراسة الصفات الوراثية للسكان، بل يسهم في إعادة رسم خريطة الرعاية الصحية في المملكة.
ومن خلال رؤية واضحة، واستثمارات استراتيجية، وبنية تحتية متطورة، تُثبت المملكة أنها ليست فقط بلدًا منتجًا، بل بلدًا مُبدعًا ومُبتكرًا. وبدخولها عالم التقنية الحيوية من أوسع أبوابه، تضع المملكة نفسها في موقع متقدم على خريطة المستقبل، لتكون مركزًا عالميًا يجمع بين الابتكار والتصنيع، ويقود التحول نحو اقتصاد المعرفة.
