السوق السعودية تعيش تحولاً هيكليًا غير مسبوق، يجعل من أسهم القيمة ركيزة أساسية لبناء محفظة قوية قادرة على الصمود أمام التقلبات.
مع تزايد الإدراج في السوق، وانفتاحها على قطاعات جديدة كالتقنية، والخدمات اللوجستية، فإن تنويع المحفظة لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية.
في عام 2016م، وبينما كانت أسواق الأسهم العالمية تعيش حالة من التذبذب الحاد، جلس المستثمرون في سوق الأسهم يراجعون محافظهم المتأرجحة، فكانت أعين الجميع آنذاك تتجه نحو أسهم النمو، بينما كانت هناك شركة بتروكيماوية ضخمة، تتداول بسعر أقل بكثير من قيمتها الدفترية، لكن لم يلتفت إليها القليل ممن قرروا أن يغامروا، على طريقتهم الخاصة لا بمطاردة الموجة، بل بالغوص في العمق، باحثًا عن القيمة الحقيقية خلف الضجيج.
ومرت السنوات، وخلالها تغيرت السوق، وبدأت الأنظار تعود إلى تلك الشركات الراسخة، وتضاعف سهم الشركة التي اختارها هؤلاء المستثمرون، وأثبتت استراتيجيتهم القائمة على الاستثمار في أسهم القيمة أنها ليست فقط أقل خطرًا، بل ربما الأكثر ربحًا على المدى الطويل..

ما المقصود بأسهم القيمة؟
وتعرف أسهم القيمة بأنها تلك الأسهم التي تتداول في السوق بسعر أقل من قيمتها الحقيقية أو الجوهرية، وهذا التقييم لا يُبنى على الحدس أو التوقعات السطحية، بل على تحليل دقيق للبيانات المالية للشركة، ومؤشرات أدائها، وقدرتها على تحقيق أرباح مستقبلية مستدامة. ويُفضل هذا النوع من الاستثمار المستثمرون الذين يبحثون عن الاستقرار والعوائد الثابتة على المدى البعيد، وليس المضاربون الذين يتطلعون إلى الربح السريع..
وفي السوق السعودية، تظهر أسهم القيمة بشكل جلي في قطاعات مثل: البتروكيماويات، المصارف، والاتصالات، حيث تتمتع هذه الشركات بمراكز مالية قوية، ونماذج أعمال راسخة، وأرباح منتظمة..
القيمة والنمو.. أين يكمن الفرق؟
ولفهم السياق الاستثماري بشكل أفضل، لا بد من التمييز بين أسهم القيمة وأسهم النمو؛ إذ تُمثل الأولى الشركات الكبيرة والمستقرة، التي تتداول بأسعار منخفضة مقارنةً بقيمتها الدفترية أو الجوهرية، وغالبًا ما تكون خارج دائرة الضوء الإعلامي، وتنتمي إلى شركات عملاقة مثل: البنوك الكبرى أو شركات البتروكيماويات، أما الثانية، فهي شركات صاعدة، ذات إمكانات نمو مستقبلية عالية، لكنها تحمل في طياتها مخاطرة أكبر، نظرًا لاعتمادها على تطلعات مستقبلية قد لا تتحقق، وتظهر في قطاعات ناشئة كالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والسوق الموازية..

جاذبية أسهم القيمة
ووفقًا إلى مؤشرات السوق فإن المملكة تمر بمرحلة انتقالية مهمة نحو النضج الاستثماري، في ظل التحولات الاقتصادية والتنظيمية الجارية، هذه المرحلة تجعل من أسهم القيمة خيارًا أكثر منطقية، لا سيما في ظل تراجع جاذبية أسهم النمو، وازدياد الحاجة إلى التوازن في المحافظ الاستثمارية..
ويؤكد الرئيس التنفيذي لشركة ريادة المالية، فيصل الشماس، أن السوق السعودية تعيش تحولاً هيكليًا غير مسبوق، يجعل من أسهم القيمة ركيزة أساسية لبناء محفظة قوية قادرة على الصمود أمام تقلبات السوق، ولفت إلى أن الاستثمار الناجح لا يقوم على التنبؤ الدقيق بالمستقبل، بل على الاستعداد لتعدد السيناريوهات، وهو ما يعني توزيع المحفظة بما يوازن بين القطاعات والأنماط الاستثمارية المختلفة، بحيث يعمل جزء منها كدرع حماية في فترات التقلبات، بينما يتيح الجزء الآخر الاستفادة من الموجات الصاعدة.

وقال إن التنويع هنا لا يعني التشتت، بل إدارة واعية للمخاطر تتيح للمستثمر أن يبقى في اللعبة حتى في أوقات العواصف، وأضاف أنه مع الخطط التطويرية التي تنفذها هيئة السوق المالية، تتجه السوق السعودية تدريجيًا إلى أن تصبح أكثر شمولاً من حيث عدد ونوعية القطاعات والشركات، مؤكدًا أن هذا التوسع عزز من عمق السوق والقدرة على التنويع، وخلق فرصًا استثمارية جديدة تجذب شرائح أوسع من المستثمرين المحليين والعالميين للاستثمار، ليشكل مشهدًا ماليًا أكثر توازنًا يزيد من قدرة السوق على امتصاص التقلبات والتفاعل بمرونة مع المتغيرات الإقليمية والعالمية..
استراتيجية استثمار طويلة الأجل
ومن المعروف أن الأسواق تتحرك في دورات، ومع كل دورة يتغير المزاج الاستثماري، ففي فترات النمو والوفرة، تتصدر أسهم النمو المشهد، حيث يبحث المستثمرون عن أرباح سريعة وعوائد كبيرة، أما في أوقات التباطؤ الاقتصادي أو الضبابية، فإن المستثمرين ينجذبون إلى الأسهم التي توفر استقرارًا وربحية منتظمة، وفي هذه الظروف، تأخذ أسهم القيمة زمام المبادرة، مدفوعة بانخفاض مكررات الربحية، وتوزيعات الأرباح المستقرة، والطلب على الاستثمارات الآمنة، ويبرز دور الأسهم الدفاعية – وهي نوع من أسهم القيمة – في الحفاظ على استقرار المحافظ، حتى في أوقات الأزمات..
فالاستثمار في أسهم القيمة ليس مجرد تكتيك مرحلي، بل هو استراتيجية طويلة الأمد، يقوم هذا النهج على فكرة أن السوق قد تسيء تقييم الشركات أحيانًا، مما يخلق فرصًا للمستثمرين الصبورين لشراء هذه الأسهم بأسعار مغرية، ثم الانتظار حتى “يُدرك السوق” قيمتها الحقيقية.

ويشير المستثمر الشهير “بنيامين غراهام”، الذي يعد الأب الروحي لاستثمار القيمة، إلى أن السوق على المدى القصير “آلة تصويت”، لكنه على المدى البعيد “آلة وزن”، وهذا هو جوهر فلسفة أسهم القيمة: البحث عن الشركات الجيدة، في أوقات لا يراها فيها الجميع كذلك..
ويعتبر التحليل الأساسي هو الأداة الأهم في تقييم أسهم القيمة، وهناك عدة نماذج لذلك، منها النموذج الذي طوّره الاقتصادي رويدن وارد في عام 1969م، اعتمادًا على فلسفة غراهام ووارن بافيت، والذي يركز على 7 معايير، منها: جودة التصنيف الائتماني، نسبة الدين إلى الأصول، النمو الإيجابي للأرباح، مكرر الربحية (P/E)، نسبة السعر إلى القيمة الدفترية، ومن خلال هذه الأدوات، يستطيع المستثمر تحديد الأسهم المقيمة بأقل من قيمتها، والتي تمتلك احتمالية كبيرة لتحقيق عوائد مرتفعة على المدى الطويل..

صوت من داخل السوق
غير أن الخبير طارق الماضي، يعتقد أن الأمر أكبر من مجرد قوانين جامدة، ويؤكد أنه من خلال متابعته للسوق لأكثر من ثلاثة عقود، وجد أن لكل متداول منطق يختلف عن الأخر، فهناك من يتداول بالأسهم الخاسرة، على اعتبار أنها هي الأسهم التي تتحرك صعودًا ونزولاً، ولكن هناك مشكلة في تحديد ما هي الأسهم ذات القيمة، فهناك أكثر من 30 شركة تحدد مسارات السوق، وفي الغالب هي ليست دقيقة، ويشدد الماضي على أن تحديد السعر العادل للسهم لا يكون من خلال نشاط السهم في الفترة الماضية، ولكن ما سيكون عليه خلال العامين القادمين على الأقل، فالقوة هي في توقع المستقبل، فمثلاً الشركات النفطية يتم تحديد مستهدفها من خلال توقع أسعار النفط، وكذلك شركات البتروكيماويات، من خلال توقع أسعار البتروكيماويات، قائلاً: هنا نحن لا نحكم بناءً على ما أمام عيوننا الآن، ولكن من خلال استشراف المستقبل..
وبحسب الماضي هناك معايير يمكن الاعتماد عليها، ولكن السؤال الأهم هو هل الشركة لها توقعات مستقبلية جيدة، مثل شركة أسمنت تعمل بكامل طاقتها، هل لديها القدرة على التوسع، لتحقيق النمو، لهذا نجد شركة مثل: المراعي تتوسع في كل عام في نشاطات مختلفة وجديدة، وهذا ينطبق على باقي الشركات، فهناك شركات نجاحها وفشلها يعتمد على سعر منتجيها في السوق، كشركات التصنيع، متى ما ارتفع السعر؟ فهذا يؤثر عليها، لهذا المستثمر يسأل عن المستقبل وليس الماضي، مؤكدًا على أن الأفضل للمستثمر إلا يستثمر في قطاع واحد ولكن في عدة قطاعات لتنويع محفظته وتجنب الخسارة..

المشهد الراهن بين التقلبات والفرص
وكانت السوق السعودية، قد شهدت خلال العام الجاري حالة من التراجع، حيث خسر المؤشر العام نحو %4.43، وبلغت الخسائر السوقية قرابة 882 مليار ريال، وتأثرت الأسواق بعوامل عدة، منها انخفاض أسعار النفط، وارتفاع الفائدة، وتباطؤ الاقتصاد الصيني، مع ذلك، يرى المحللون أن هناك فرصًا واعدة تنتظر من يقرأ السوق جيدًا، ويتوقع الخبراء تحسنًا في الأداء مع بداية عام 2026م، بدعم من السياسات النقدية التيسيرية، واستقرار الجغرافيا السياسية، وارتفاع الطلب العالمي على النفط.

ويشير خبير السوق بشر بخيت، إلى أن المستقبل سيكون لصالح الشركات الناشئة وأسهم السوق الموازية، لكنها ستكون بحاجة لرؤوس أموال ذكية واستثمارات استراتيجية، بعيدًا عن المضاربات قصيرة الأجل، مشيرًا إلى أن هيئة السوق المالية تسعى إلى تحويل السوق نحو بيئة أكثر نضجًا وشفافيةً، عبر تطوير الأنظمة، وتوسيع قاعدة المستثمرين، وتعزيز التنوع القطاعي، وهذا بدوره يعزز من دور أسهم القيمة، ويجعلها مكونًا رئيسًا في المحافظ الاستثمارية المتوازنة، قائلاً: إنه مع تزايد الإدراج في السوق، وانفتاحها على قطاعات جديدة مثل: التقنية، والخدمات اللوجستية، فإن تنويع المحفظة لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية لمواكبة التحولات الهيكلية في السوق..

ما الذي يجب أن يفعله المستثمر؟
وبناء على ما سبق، فإن الاستثمار في أسهم القيمة يتطلب الصبر والتمهل وعدم الانجراف وراء تقلبات السوق الآنية، والاعتماد على التحليل الأساسي لا على الشائعات أو الأخبار العاطفية، وتنويع المحفظة بين القطاعات المختلفة لتقليل المخاطر، النظر إلى المستقبل، لا الماضي فقط، عند تقييم السهم..
في النهاية، ليست كل الأسهم المغرية تحمل قيمة، ولا كل سهم راكد هو فرصة، لكن من يفهم طبيعة السوق، ويقرأ بين السطور، يجد في أسهم القيمة فرصة للاستقرار، والنمو المستدام، وخلق الثروة على المدى الطويل.
