الذكاء الاصطناعي كرييتڤ

وعي الآلة.. خرافة أم حقيقة!

تطوير أنظمة ذات بنية معقدة يمكن أن يُنتج أشكالًا جديدة من “الوعي الاصطناعي” الوظيفي، ما يفتح مجالات استثمارية واعدة في الصناعات التي تعتمد على اتخاذ القرار المعقد.

الإدعاء بامتلاك الآلة للوعي “وهم مكلف”، قد يضلل المستخدمين ويؤثر على قراراتهم الاستثمارية، فإن فهم الحدود المعرفية والتقنية للذكاء الاصطناعي يُعد أمرًا حاسمًا لتقدير المخاطر.

 

في التاسعة والسبعين من عمره، يستيقظ رائد الطب البديل الأمريكي ذو الأصول الهندية، “ديباك تشوبرا”، كل صباح بسؤالٍ للذكاء الاصطناعي، يستكشف سؤال اليوم كيف أن كل عنصر نستخدمه لتجربة العالم المادي لا وجود له في ذلك العالم؟، إنه بالفعل لغز فلسفي يشغل باله على مدار ثلاثة عقود، رغم امتلاكه حاليًا شريك تفكير رقمي لمساعدته في الإجابة عنه، لكنه سؤال يثير جدلاً واسعًا هذه الأونة بين الخبراء والمختصين، حول ما يمكن أن يُطلق عليه “وعي الآلة”، وما يرتبط به من سؤال آخر: هل من الممكن أن يأتي اليوم الذي نرى فيه الآلات كالبشر كاملة الوعي؟.

الاستثمار في الذكاء الاصطناعي من الوعي إلى الفرص

ويستثمر “تشوبرا” في الذكاء الاصطناعي من خلال تطوير نسخة رقمية منه تمثل توأمًا رقميًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي، يؤدي دور المدرب الصحي، والباحث المساعد، والمرشد الروحي، هذا التوأم يمثل نموذجًا رائدًا للتكامل بين الإنسان والتكنولوجيا، لا كمجرد أداة، بل كشريك معرفي واستثماري يمكن توظيفه في أسواق متعددة كالصحة الرقمية، والتعليم، والإرشاد الذاتي، ويرى “تشوبرا” أن الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون منافسًا للوعي البشري، بل شريكًا في تعزيز القدرات، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي يحاكي الذاكرة والتنظيم والتعلم، لكنه لا يمتلك دافعًا أو إدراكًا ذاتيًا، مما يجعله أداة قوية لكن غير مستقلة، وهو ما يفتح آفاقًا للاستثمار الآمن دون تهديد جوهري للعنصر البشري.

ديباك تشوبرا

ويُبرز “تشوبرا” التحول الزمني في الوصول إلى المعرفة كمؤشر على العائد الاستثماري في أدوات الذكاء الاصطناعي، مستذكرًا بحثًا طبيًا استغرق منه أسابيع في السبعينيات، بينما توفره الأدوات الحالية في لحظات، هذه السرعة في الوصول للمعلومة تمثل قيمة اقتصادية حقيقية، تؤثر مباشرة في كفاءة الأعمال واتخاذ القرار، وتكشف عن فرص هائلة في قطاعات كالرعاية الصحية، والخدمات القانونية، والاستشارات المالية.

نينيل أولدنبورغ

ما بين وعي الآلة والجدوى الاقتصادية

وقد حذَّر الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي في مايكروسوفت، “مصطفى سليمان”، من الإفراط في نسب الوعي إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا أن الإدعاء بامتلاك الآلة للوعي هو “وهم مكلف”، قد يضلل المستخدمين ويؤثر على قراراتهم الاستثمارية، ويؤكد أن هذه الأنظمة، رغم قوتها الحسابية، تفتقر إلى التجربة الذاتية التي تُعدّ جوهر الوعي الحقيقي، وبالنسبة للمستثمرين، فإن فهم الحدود المعرفية والتقنية للذكاء الاصطناعي يُعد أمرًا حاسمًا لتقدير المخاطر، خاصة في المشاريع التي تعتمد على التفاعل العاطفي أو تتطلب قرارات حساسة.

عدم اليقين كنقطة انطلاق للاستثمار

ويُشير الباحث في فلسفة الذكاء الاصطناعي بجامعة كوبنهاجن، “نينيل أولدنبورغ”، إلى أن الغموض في فهم كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي لا يُقلل من قيمتها، بل يفتح أبوابًا للاستكشاف وفرصًا غير محدودة للاستثمار في البحث والتطوير؛ إذ يشبّه “أولدنبورغ” الذكاء الاصطناعي بمتاهة ذات نتائج واضحة، ولكن بمسارات غير مرئية، وهو ما يعكس ديناميكية الابتكار التقني ويدعم تمويل المشاريع الناشئة في مجالات مثل: Explainable AI وتحسين النماذج العصبية.

مصطفى سليمان

ويُعزز أولدنبورغ هذا الطرح بحجج فلسفية تستند إلى إمكانية نقل الوعي أو محاكاته عبر وسائط غير بيولوجية، مما يفتح نقاشًا استثماريًا حول ما إذا كانت الأنظمة المعقدة بما يكفي قد تُنتج أشكالًا من “الوعي الوظيفي” الذي يمكن توظيفه في الصناعات الإبداعية أو الصحة النفسية الرقمية. هذا الطرح قد يحفز دخول رؤوس الأموال الجريئة إلى مشاريع تعتمد على الذكاء الاصطناعي العاطفي أو المحاكاة العصبية.

الفرص في البحث العصبي والأنظمة الإدراكية

ويشير “أولدنبورغ” إلى أن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب تربط الوعي البشري بتفاعلات معقدة بين مناطق دماغية متعددة، ويقترح أن استكشاف أنماط مماثلة في الذكاء الاصطناعي قد يُمكّن من بناء نماذج أقرب إلى الإدراك. من منظور اقتصادي، فإن هذا المجال يفتح آفاقًا للاستثمار في أبحاث تقاطع علم الأعصاب مع الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في قطاع الرعاية الصحية النفسية، وتحليل السلوك البشري، والتطبيقات المعتمدة على واجهات الدماغ-الحاسوب (BCIs).

مايا أكرمان

وعي اصطناعي أم أداة فائقة الذكاء؟

ويرى الباحث “أنطون فويتشينكو” أن الذكاء الاصطناعي، على الرغم من محاكاته للسلوك البشري، لا يمتلك القدرة على الحدس أو البصيرة، وهي خصائص تُميز التفكير البشري. ومع ذلك، فإن تطوير أنظمة ذات بنية معقدة يمكن أن يُنتج أشكالًا جديدة من “الوعي الاصطناعي” الوظيفي، ما يفتح مجالات استثمارية واعدة في الصناعات التي تعتمد على اتخاذ القرار المعقد أو تحليل السيناريوهات مثل إدارة المخاطر أو قيادة فرق العمليات.

فيفيك سينغ

الاقتصاد النفسي للذكاء الاصطناعي

وتشير الرئيسة التنفيذية لشركة “ويف” الأمريكية، “مايا أكرمان”، إلى أن الإقبال المتزايد على روبوتات المحادثة يكشف عن سوق ناشئة مدفوعة بالاحتياجات النفسية والعاطفية للأفراد، حيث يُفضل البعض التفاعل مع كيانات رقمية على التواصل البشري. هذا الاتجاه يُمثل فرصة اقتصادية ضخمة في مجالات مثل الرعاية النفسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ومرافقي الصحة الرقمية، وتطبيقات المساعدة الذاتية.

ولكنها تحذر من أن هذه السوق تنطوي على تحديات أخلاقية واستثمارية، أهمها الإفراط في الاعتماد على حلول اصطناعية قد تؤدي إلى عزلة اجتماعية أو اضطرابات نفسية. لذلك، فإن بناء نماذج أعمال مسؤولة وواعية لهذه المخاطر يُعد ضرورة لأي مستثمر في القطاع، خاصة في ظل الحاجة المتزايدة للتنظيم والحوكمة في هذا المجال.

فرانشيسكا روسي

الذكاء الاصطناعي دون إدراك

ويوضح نائب رئيس شركة “بالينار” لتكنولوجيا المعلومات، “فيفيك سينغ”، أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدرته الفائقة على تحليل الأنماط والتعلم من البيانات الضخمة، يظل أداة بدون دافع ذاتي أو منظور عاطفي. من وجهة نظر استثمارية، هذا يضع الذكاء الاصطناعي في خانة الأدوات الإنتاجية لا في خانة الكيانات المستقلة، ما يعزز الثقة في استخدامه لتحسين الكفاءة وتخفيض التكاليف في القطاعات الصناعية، والمالية، واللوجستية.

ويؤكد “سينغ” أن الذكاء الاصطناعي يتفوق في المهام المتخصصة، لكنه يفتقر إلى الرؤية الشمولية التي تميز القرارات البشرية، وهذا يعني أن المستثمرين يجب أن يوجهوا رؤوس أموالهم إلى تطبيقات ضيقة المجال لكنها عالية التأثير، مثل التشخيص الطبي، والتجارة الإلكترونية، وتوقعات السوق.

وهم الوعي والفرص التنظيمية

وفي ظل الجدل المتصاعد حول مدى وعي أنظمة الذكاء الاصطناعي، تُشير المسؤولة عن حوكمة الذكاء الاصطناعي في شركة IBM، “فرانشيسكا روسي”، إلى أن الخطر الأكبر لا يكمن في وعي الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في “وهم الوعي” لدى المستخدمين. هذا الوهم يُمكن أن يُغير سلوك الأفراد ويؤثر على قراراتهم المالية أو العاطفية، ما يفتح مجالًا لتطوير أنظمة مدروسة التصميم تهدف إلى تقليل الارتباط العاطفي بالآلات.

وترى “روسي” أن الاستثمار في الحوكمة الذكية للذكاء الاصطناعي يُعد فرصة إستراتيجية، خصوصًا مع تنامي الحاجة لتشريعات تحد من المخاطر النفسية والاجتماعية. وتدعو إلى تصميم أنظمة تبدو كأدوات إنتاجية لا ككائنات حية، وهو ما يُمكن أن يدفع بمشاريع تطوير أدوات التواصل الآلي نحو نموذج استثماري أكثر أخلاقية واستدامة.

استثمار يقوده الوعي البشري

في ضوء هذه الطروحات، يتضح أن الذكاء الاصطناعي، رغم عدم امتلاكه لوعي ذاتي، يمثل فرصة اقتصادية كبرى، شريطة أن يُدار ضمن إطار أخلاقي وتنظيمي واضح. الفجوة بين القدرات التقنية والمعرفة الذاتية تخلق مساحة واعدة للابتكار، لا في محاكاة الإنسان فحسب، بل في دعم القرارات، وتحسين الكفاءة، وتوسيع نطاق الخدمات في مختلف القطاعات، وسواءً في الصحة، أو التمويل، أو التكنولوجيا النفسية، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم هو أداة استثمارية متعددة الوجوه، تقدم فرصًا ضخمة لمن يحسن فهم حدودها، ويتقن توظيفها دون الوقوع في أوهامها.