توقعات بأن يصل حجم سوق البلاستيك العالمي المُعتمد على ثاني أكسيد الكربون إلى 8.8 مليار دولار بحلول عام 2033م.
%7.3 نمو متوقع لـ “بلاستيك الكربون” في المملكة بحلول عام2030م وإيرادات مُتوقعة تقدر بحوالي 62 مليون دولار.
في صباح أحد أيام كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، كان فريق من العلماء داخل مختبرات “معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا” يقف أمام تجربة فريدة من نوعها، قد تُغير مجرى الصناعات البتروكيميائية بشكل كبير؛ حيث ضوء أحمر يومض على شاشات الأجهزة بالمختبر لتعلن عن نجاح أول عملية لتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون — من الغازات الدفيئة الأشهر والأخطر — إلى بلاستيك قابل للاستخدام الأدمي، فلم يكن هذا حلمًا أو خيالاً علميًا، بل بداية لعصر جديد: إنه عصر “بلاستيك الكربون”، حيث تدعم هذه التقنية المبتكرة، جهود العالم المتواصلة للتخفيف من آثار التغيرات المناخية، والاستغلال الأمثل لأحد أخطر الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

بلاستيك من العدم.. أو من التلوث!
في خطوة غير مسبوقة، نجح باحثو “معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا” في ابتكار نظام قادر على تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى بلاستيك، ما يدعم جهود مكافحة التغير المناخي، ويستغل أحد أكبر مصادر التلوث بطريقة مبتكرة.
وصرَّح رئيس الفريق البحثي، “ماكسيم زيليابوفسكي”، بأن التقنية الجديدة تُمكّن من إنتاج جزيئات مفيدة مثل: الإيثيلين، وأول أكسيد الكربون مباشرة من ثاني أكسيد الكربون، دون الاعتماد على النباتات أو عمليات التمثيل الضوئي التقليدية، وأشار إلى أن هذه التقنية مازالت في طور الاختبار، لكنها تنتج بالفعل تركيزات أعلى من الجزيئات المطلوبة مقارنةً بالتقنيات السابقة، وأوضح أن النظام التجريبي يُنتج %11 من الإيثيلين، و%14 من أول أكسيد الكربون، ما يفتح آفاقًا اقتصادية واعدة على مستوى الصناعات التحويلية.

جهود عالمية لترويض الكربون
هذه المحاولات ليست حديث الساعة؛ فمنذ أكثر من عقد، بدأ علماء من جامعة شيفيلد البريطانية تجارب على تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى بوليمرات مثل “بولي أكريلاميد”، واعتبروا أن هذه الخطوة بمثابة “ثورة” في قطاع البتروكيماويات، كما نجح علماء جامعة مانشستر أيضًا في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى بلاستيك مُتجدد باستخدام البكتيريا الزرقاء؛ حيث أظهر هذا النوع من البكتيريا قدرة واعدة على إنتاج السيترالات، وهي مكون أساسي في صناعة البلاستيك المُستدام مثل البلاستيك الشفاف، من خلال عملية التمثيل الضوئي.
وفي السياق ذاته، أعلن مركز أبحاث التقنية وجامعة “لابينرنتا” للتكنولوجيا في فنلندا، عن نتائج مشروعهما البحثي الذي استمر لمدة ثلاث سنوات، حول احتجاز الكربون واستخداماته المختلفة، ومنها إنتاج مواد خام بلاستيكية متجددة منه ومن الهيدروجين الأخضر، حيث تمكَّن الفريق من تحويل الكربون الناتج عن حرق النفايات إلى منتجات عالية القيمة المضافة، مثل: البولي بروبيلين، والبولي إيثيلين، إذ تُعدّ هذه المواد الخام من أكثر أنواع البلاستيك شيوعًا في الحياة اليومية، ويعتمد إنتاجها حاليًا بشكل أساسي على المواد الخام التقليدية، وهو ما يمهد الطريق لظهور فرصًا استثمارية كبيرة لصناعات مُستدامة جديدة.
وذكر المسؤول عن مشاريع أبحاث المواد الخام المتجددة في شركة “بورياليس” الفنلندية، “أسمو سافالامبي”، أنه يمكن استغلال ثاني أكسيد الكربون في تصنيع منتجات بلاستيكية طويلة الأمد، كالطلاءات والعوازل المستخدمة في الكابلات الكهربائية، وتطبيقات الأنابيب المختلفة، فضلاً عن منتجات التغليف القابلة لإعادة التدوير.
من اقتصاد نفايات إلى اقتصاد دائري
تشير التقديرات إلى أن العالم اليوم ينتج أكثر من 380 مليون طن متري من البلاستيك المصنوع من الوقود التقليدي سنويًا، وتُسهم معالجة المنتجات النفطية المستخدمة في البلاستيك – لا سيما حرق النفايات – في آثار مناخية سلبية، كالجفاف والطقس المتطرف وموجات الحر الناتجة عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
من هنا، تبرز أهمية التحول إلى البلاستيك المشتق من ثاني أكسيد الكربون، الذي يدعم الاقتصاد الدائري، ويقلل النفايات والانبعاثات، وعلى الرغم من أن زجاجات البلاستيك القابلة للتحلل تحتاج 18 شهرًا لتتحلل، إلا أن البلاستيك التقليدي يستغرق ما يصل إلى 1000 عام!
في المقابل، فإن تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، والتي ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي، باتت تُستخدم بطرق أكثر فاعلية اليوم؛ حيث يُحتجز ثاني أكسيد الكربون من المداخن أو الهواء المحيط، ليتم ضخه تحت الأرض وعزله بشكل دائم، فهناك حاليًا نحو 400 منشأة عاملة أو قيد التشغيل، لالتقاط الكربون في العالم، بقدرات تتجاوز 100 مليون طن سنويًا، وتشير تقديرات دولية إلى أن دمج الكربون في صناعات عدة، مثل البلاستيك والأسمنت ووقود الطائرات، يمكن أن يساعد في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري السنوية بنحو 20 مليار طن بحلول عام 2050م، أي ما يعادل نصف الانبعاثات العالمية الحالية.

نمو متوقع وفرص استثمارية
وثمة بيانات تتوقع بأن سوق البلاستيك المُعتمد على ثاني أكسيد الكربون سيبلغ 8.8 مليار دولار بحلول 2033م، مقارنة بـ 3.1 مليار دولار في عام 2024م، ويتوقع أن يصل إلى 3.4 مليار دولار في عام 2025م، بمعدل نمو سنوي مركب %11.6.
وتُعد أمريكا الشمالية السوق الأكبر حاليًا، بحصة %44.5، أما في المملكة العربية السعودية، فتتوقع شركة “جراند فيو ريسيرش” التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، نمو السوق بنسبة %7.3 سنويًا بين 2025م و2030م، ليصل إلى 61.8 مليون دولار، لافتةً إلى تصدر قطاع “البولي كربونات” قائمة الإيرادات في عام 2024م، بقيادة قطاع “البولي كربونات”.
وبشكل عام، تُظهر المؤشرات في الشرق الأوسط وإفريقيا، نموًا قويًا في استخدام هذه التقنية، بدعم من الاستثمارات الضخمة في احتجاز الكربون وخطط “صافي الانبعاثات الصفرية”، وذلك أمام ما تقدمه قطاعات البتروكيماويات والتعبئة والتغليف والبناء من فرص استثمارية واعدة، خاصةً مع الاستثمارات الضخمة في تقنيات احتجاز الكربون واستخدامه كجزء من خطط صافي الانبعاثات الصفرية.
ومن جانبها، قالت شركة “إيكونيك” البريطانية، التي تُنتج بالفعل البولي يوريثان من ثاني أكسيد الكربون، إن تكلفة طن ثاني أكسيد الكربون لا تتعدى 100 دولار للطن المتري، مقارنة بـ 2000 دولار للطن المتري من المادة الخام التقليدية، مما يعني أن مصنعًا ينتج 50 ألف طن سنويًا، يُمكنه توفير 10 ملايين دولار سنويًا من خلال التحول إلى استخدام الكربون المُلتقط كمواد خام.

العالم يغرق… في البلاستيك!
ومع التوقعات بوصول استهلاك البلاستيك العالمي إلى مليار طن سنويًا بحلول عام 2050م، ومع إعادة تدوير أقل من %20 من هذا الكم الهائل، تتفاقم أزمة النفايات البلاستيكية، وتشير التقديرات إلى أن %40 من البلاستيك المُنتج عالميًا هو من نوع “الاستعمال القصير”، ما يزيد من حجم الكربون المنبعث في البيئة، في المقابل، يمكن للشركات العاملة في هذا المجال تحقيق أرباح إضافية من خلال اعتمادات الكربون، نتيجة استخدام الكربون الملتقط كمادة خام، بدلاً من إطلاقه في الغلاف الجوي.

التحدي الأكبر… والفرصة الأعظم
ويؤكد رئيس برنامج “كربون إكس 2” في شركة “فورتوم” لإعادة التدوير في فنلندا، “توني رين” أن التقنية الجديدة تسهم في تعزيز الأمن الصناعي والبيئي، خاصة مع توقع ندرة المواد الخام التقليدية مستقبلاً، ويدعم هذا التوجه مفهوم “الاقتصاد الدائري” الذي يُعد مفتاحًا لفرص استثمارية واعدة. أما الخبير الأمريكي في مجال الصناعات المُستدامة، “ريك لينجل”، فشدد على ضرورة تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى بوليمرات، بدلاً من مجرد احتجازه، مؤكدًا أن الحلول البيئية العظيمة تتطلب أفكارًا ثورية، متوقعًا أن يؤدي تعاون القطاع الصناعي وتشديد السياسات البيئية إلى تسريع تبني هذه المواد الجديدة، غير أن بعض التحديات لا تزال قائمة، مثل ارتفاع تكلفة إنتاج البوليمرات الكربونية مقارنةً بالتقليدية، وحاجتها لطاقة أكبر.
ويُعد السوق الألماني والهندي من أكثر الأسواق نشاطًا في هذا المجال؛ إذ تشهد صناعة الكيماويات في الهند نموًا ملحوظًا بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ %9.3 في عام 2025م، ومن المتوقع أن تصل إلى 304 مليارات دولار بحلول عام 2030م، ويدفع هذا النمو السوق نحو خيارات صديقة للبيئة، بعيدًا عن البوليمرات التقليدية المصنوعة من البتروكيماويات، وفي ألمانيا، وفي إطار التزامها باتفاقية باريس لتغير المناخ وأجندة 2030م، لتحقيق الاستدامة، فقد اعتمدت بالفعل البوليمرات القائمة على ثاني أكسيد الكربون كبديل صديق للبيئة للبلاستيك التقليدي.

من الانبعاثات إلى الابتكارات
ويبقى أن تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى بلاستيك قد لا يكون مجرد إنجاز تقني، بل تحول استراتيجي في مسار البشرية نحو الاستدامة، وفي وقتٍ يزداد فيه الضغط على البيئة، تصبح مثل هذه الابتكارات ليس فقط ضرورة، بل فرصة استثمارية وتكنولوجية لا يمكن تجاهلها.
والسؤال الآن، هل يكون “بلاستيك الكربون” هو الحل السحري الذي يُحول مصدر التلوث إلى أداة للبقاء؟ يبدو أن العلم يقول: نعم. وفي جامعة ستوكهولم بالسويد، يعمل فريق بحثي بقيادة استاذ الكيمياء “جياين يوان”، على استخدام ثاني أكسيد الكربون لإنتاج إيثيلين خالٍ من الوقود التقليدي، وهو مركب أولي للبولي إيثيلين، باستخدام الطاقة الكهربائية المتجددة.
