الموظفين القدامى ثروات

كيف تدير الشركات إرث موظفيها القدامى؟

يُنظر إلى الموظفين القدامى بوصفهم حماة الهوية المؤسسية، فهم من يملكون المعرفة التاريخية العميقة بالشركة، ويتميزون بولاء وانتماء نادرين، نتيجة سنوات طويلة من العمل والتضحية.

 

في إحدى المدن الصناعية، تقع شركة تصنيع بريطانية عريقة تأسست منذ عشرات العقود، داخل مبناها القديم يجلس رجل خمسيني من أوائل الموظفين الذين انضموا إليها منذ بداياتها الأولى، وكان “George” يعرف كل زاوية وكل ملف في الأرشيف، تمامًا كما يعرف تفاصيل العقود والمراسلات وعلى دراية تامة بأسماء العملاء القدامى، وأسرار الماكينات التي لم تعد تُستخدم، وحتى تفاصيل أول صفقة تجارية وقّعها المؤسس بخط يده.

ولكن مع مرور الزمن، بدأ يتسلل إلى الشركة تغيير جذري، حيث تم تحديث أنظمة التشغيل التقليدية إلى برمجيات حديثة، وطُوّر هيكل الحوكمة وفقًا لأحدث المعايير العالمية، ودخل الذكاء الاصطناعي إلى خطوط الإنتاج عبر شراكات مع شركات ناشئة، ومع كل خطوة من خطوات التحديث هذه، بدأت تظهر مقاومة صامتة من “George” ومن هم على شاكلته من الموظفين القدامى، فلم تكن المقاومة نابعة من رفض التغيير نفسه، بل من شعور عميق بأن الزمن تجاوزهم، وأن أساليب عملهم التقليدية لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر الرقمي.

وتُطرح اليوم في الشركة أسئلة جوهرية: كيف يمكن الحفاظ على قيمة الخبرة والولاء المكتسبين عبر عقود، مع ضرورة التكيف مع رؤى وتكنولوجيا المستقبل؟ هذه المعضلة ليست محصورة في هذه الشركة فقط، بل تواجه آلاف المؤسسات حول العالم، ما يجعلها واحدة من أكبر التحديات الإدارية المعاصرة، والمعروفة دوليًا بـ “The Legacy Employee Dilemma” أو محليًا بـ “معضلة الموظفين القدامى”.

ويشهد الاقتصاد العالمي تحولات متسارعة وغير مسبوقة في أنماط العمل والإدارة والتشغيل. ففي الثلاثة عقود الماضية أصبح تطور الأعمال وأنماطها الإدارية والتشغيلية في حالة تغييرات شبه دائمة، وأصبحت الشركات أمام ضرورة الموازنة بين مواكبة المستجدات الطارئة على المشهد الاقتصادي العالمي، وبين البحث عن طرق تمكنها من إدارة نقاط قوتها، والتي منها موظفوها الأوائل أو القدامى الذين شهدوا تأسيس الشركة وشاركوا في بنائها وأسهموا في نموها وازدهارها، وعادةً يكونون الأكثر ولاءً وانتماءً للشركة دون غيرهم، فقد قضوا فيها حياتهم الوظيفية وكبرت الشركة على أيديهم، وكذلك كبرت مكانتهم فيها ويمتلكون قوةً وسلطةً كبيرة بداخلها ومعرفةً بكل تفاصيل الأعمال الدقيقة.

حماة الهوية المؤسسية

وغالبًا ما يُنظر إلى هؤلاء الموظفين بوصفهم حماة الهوية المؤسسية، فهم من يملكون المعرفة التاريخية العميقة بالشركة، ويتميزون بولاء وانتماء نادرين، نتيجة سنوات طويلة من العمل والتضحية. لكن، من الجانب الآخر، ومع تطور بيئة الأعمال وتغير الأساليب الإدارية، بدأ يُنظر إليهم أحيانًا كـ “أعباء” على ديناميكية الابتكار والتغيير، رغم أن الموظفين الأكبر سنًا دائمًا ما يتألقون عندما يتعلق الأمر بالنضج والاحترافية، مما يؤدي إلى أخلاقيات عمل قوية، فمع الموظف الأكبر سنًا، غالبًا ما تجد نفسك مع شخص يعمل بجد لإنجاز المهمة بشكل صحيح، فضلاً عن قدرتهم أيضًا في توفير المهارات لأعضاء الفريق الأصغر سنًا، وذلك من خلال نقل معارفهم وخبراتهم، فالثقة التي ينضج بها الموظفون القدامى يمكن أن تكون لها تأثير إيجابي على الموظفين الأصغر سنًا انطلاقًا من أنه عندما يكون فريق العمل واثقًا مما يفعله، فإن العمل يسير بشكل أكثر فعالية.

القيمة الحقيقية للموظف القديم

في الاقتصاد الاستثماري، حيث تُقاس كل خطوة بعائدها، لا يمكن تجاهل أن الموظف القديم يمثل أصلًا معنويًا ذا قيمة عالية. تمامًا مثل الأصول الثابتة، يحمل الموظف المخضرم في جعبته رأسمالًا معرفيًا Intangible Asset يتجاوز الشهادات والمهارات التقنية الحديثة. هؤلاء الموظفون يمتلكون: ذاكرة مؤسسية قادرة على تفسير سلوك العملاء والأسواق بناءً على الخبرة المتراكمة، وعلاقات استراتيجية قد تمتد لعقود مع الشركاء والموردين، وانتماء داخلي يترجم غالبًا إلى التزام، واستعداد لبذل جهد إضافي دون مطالبات مباشرة.

فإنهم يشكّلون عنصر استقرار وثقة داخل المؤسسة، ويعملون كحلقة وصل غير مرئية بين الماضي والمستقبل، يسهمون في الحفاظ على الهوية التنظيمية وتوجيه الأجيال الجديدة من الموظفين. كما أن خبرتهم التراكمية تتيح لهم تقديم حلول عملية مستمدة من الواقع، لا من الكتب أو النظريات.

ولكن، رغم هذه المزايا النوعية، فإن القيمة لا تكون مكتملة ما لم تتواكب مع القدرة على التكيّف والمرونة في الأداء، وهنا تظهر الفجوة. إذ قد يتحول هذا الأصل المعنوي إلى عبء إذا لم يواكب التحولات التكنولوجية والسلوكية الحديثة، أو إذا تمسّك بمفاهيم تقليدية تضعف من ديناميكية المؤسسة. ومن هنا، تصبح مسؤولية الإدارة مزدوجة: الحفاظ على هذا الأصل وتحديثه في آنٍ معًا، عبر تمكينه من التطور لا فقط تقديره على ما كان عليه.

 

الجيل الجديد وصراع الرؤى

غالبًا ما يكون المديرون الجدد أو الفرق الإدارية الحديثة في المؤسسات الطامحة للتطور حاملين لأفكار تطويرية تستند إلى أسس علمية وحديثة مثل الحوكمة، الإدارة بالبيانات، التحول الرقمي، والتوسع الاستثماري الخارجي.

ولكن هؤلاء المديرين يصطدمون بعقبات كثيرة، أبرزها: المعارضة الضمنية من قبل بعض الموظفين القدامى، خاصة أولئك الذين كانوا مقربين من المؤسس، والميل للروتين ورفض الطرق الجديدة في إدارة المشاريع أو تقييم الأداء، والشعور بالخطر من فقدان النفوذ أو المكانة الاجتماعية داخل المؤسسة، لا سيما عند تعيين جيل أصغر في مناصب قيادية. وكل هذه التحديات تخلق ما يشبه “الثقب الأسود الإداري” داخل الشركات، حيث تُستهلك الطاقة في مقاومة التغيير بدلًا من الاستثمار فيه.

 

استراتيجية الاستثمار في الكفاءات المتنوعة

الحل لا يكون في الاستغناء عن الموظفين القدامى، ولا في تسليمهم دفة القيادة دون تجديد، بل في صياغة سياسات إدارية مرنة تستوعب التنوع العمري والوظيفي داخل الشركة، كإعادة تأهيل الموظفين القدامى: فبدلاً من وضعهم في هامش التطوير، يمكن إطلاق برامج تدريب مصممة خصيصًا لهم، تراعي: الفروقات العمرية في أساليب التعلم، والتدريب العملي بدلاً من النظري، ودمجهم في مشاريع رقمية بسيطة لتعزيز الثقة، وأيضًا الدمج بين الأجيال: فإنشاء فرق عمل مختلطة (Mixed Teams) بين موظفين قدامى وشباب يعمـــــل على: أولاً تسهيل نقل المعرفة، وثانيًا تخفيف حدة الصدام الثقافي، وثالثًا تطوير مهارات القيادة التشاركية، وأخيرًا توظيف القدامى كمستشارين داخليين: فقد لا يكون من الضروري أن يبقى الموظف القديم في المنصب التنفيذي، لكن يمكن الاستفادة منه كمستشار أو مشرف على الجودة المؤسسية.

 

عائد استثماري للتنوع العمري

من منظور اقتصادي بحت، فإن التنوع في بيئة العمل يُنتج قيمة حقيقية يمكن قياسها بوضوح في مؤشرات الأداء. فقد أثبتت الدراسات أن الشركات التي تحتضن فرقًا عمرية متباينة تحقق مستويات أعلى من الابتكار، حيث تُخلق بيئة ديناميكية يتفاعل فيها التفكير الاستراتيجي الناضج مع الحلول غير التقليدية التي يقدّمها الجيل الشاب. وتشير الأبحاث إلى أن الإنتاجية ترتفع بنسبة قد تصل إلى %20 في فرق العمل المختلطة التي تجمع بين خبرة الكبار وحماس الشباب، وهو ما يُترجم إلى نمو مباشر في العائد على الاستثمار (ROI).

علاوة على ذلك، تُعدّ التكاليف المرتبطة بالدوران الوظيفي (Turnover Costs) — بما فيها تكاليف الاستقطاب والتدريب وفقدان المعرفة — عبئًا حقيقيًا على ميزانية الموارد البشرية. لكن وجود الموظفين القدامى، الذين غالبًا ما يتمتعون بدرجة عالية من الولاء المؤسسي، يقلل من هذه التكاليف على المدى الطويل. فكل سنة إضافية يقضيها موظف مخضرم في موقعه تمثّل توفيرًا حقيقيًا في النفقات التشغيلية، واستقرارًا في الأداء المؤسسي يصعب تعويضه.

وفي بيئة يسودها التفاهم والتكامل بين الأجيال، يمكن تحويل ما يُعتبر تقليديًا “معضلة إدارية” إلى “فرصة استثمارية” عالية العائد، فبدلاً من استنزاف الموارد في محاولة معالجة الفجوات العمرية، يمكن للمؤسسة أن تستثمر في بناء نماذج عمل هجينة تحفّز التعلم المتبادل، وتدعم نقل المعرفة رأسًا من الخبرة إلى الحداثة، مما يعزز الكفاءة والقدرة التنافسية في السوق.

وفي النهاية، فإن الشركة التي تنجح في الاستثمار الحقيقي ليست تلك التي تضعف أمام الضغوط، ولا تلك التي تُغيّر جذورها لمجرد مجاراة السوق، فالشركة الذكية هي التي تدير التنوع كأصل، وتحوّل مقاومة التغيير إلى شراكة تطوير.