رأي

الانكفاء التنموي!

في علم الذرة تُعدُّ النواة أقوى المكونات التي تنطلق منها الطاقة، وفي معظم الأنظمة الفيزيائية (ذرة، نجم، كوكب) المركز هو الأقوى لأنه موضع تراكم القوى، بينما الأطراف أضعف نسبيًا.

فالقوة وتأثيرها تنطلق بداية من الداخل ثم تتدرج نحو الخارج وليس العكس، والحال نفسه ينطبق على الدول أو الشركات فالنجاح والقوة يبدأ دائمًا من المركز/الداخل، ثم يمتد تدريجيًا إلى الأطراف/الخارج.

الانكفاء التنموي في اقتصاديات الدول (مصطلح فلسفي مبتكر من كاتب المقال) يعبر عن حالة الانكفاء الداخلي للدولة اقتصاديًا (انكفاء مُخطط ومؤقت مع وجود استقرار سياسي) من أجل بناء قدراتها الداخلية بأسلوب متقن عن طريق: إنشاء بنية تحتية وطنية متقدمة (كطُرقٍ وموانٍ وكهرباء واتصالات حديثة)، بناء رأس مال بشري قوي بمهارات عالية عن طريق نقل الخبرة والاستثمار في التعليم الكفء والبحث العلمي.

وإدارة حكيمة للعملة وتجنب التضخم الجامح والديون الخارجية المفرطة وتجنب التذبذب في السياسات أو تغيرها بصورة مفاجئة (قانون راسخ وشفافية)، والاهتمام بالصناعات الاستراتيجية واختيار قطاعات محددة يتم التركيز عليها بديلاً عن العشوائية (قطاعات يتفوق فيها).

بعد الانتهاء من هذه المرحلة والتأكد من جودة البناء والتأسيس الداخلي وتعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات وتحفيز الاستهلاك الداخلي، تصبح الدولة أكثر صلابةً اقتصاديًا وأقل عرضة للصدمات الخارجية مثل: (الأزمات المالية العالمية أو اضطرابات سلاسل التوريد)، وتصبح مغناطيسًا يجذب الاستثمارات العالمية دون الحاجة للاستدانة أو الاعتماد الكامل على الموارد الطبيعة، فضلاً عن أن عملية التوسع الخارجي وقتها تصبح نتاجًا طبيعيًا لا عبئًا استهلاكيًا!

دول عديدة تفتقر للموارد الطبيعية الوفيرة طبقت مفهوم الانكفاء التنموي، أي تطوير قاعدة اقتصادها الداخلي وإعادة بنائه أولاً وفضلته على التوسع الخارجي المفرط وحققت قفزات ونهضة اقتصادية باهرة.

اليابان (1950م – 1980م) استثمرت بكثافة في التعليم والتقنية والبنية التحتية وتحولت من دولة مدمرة بعد الحرب العالمية الثانية إلى أكبر ثاني اقتصاد عالمي بحلول الثمانينيات من القرن الماضي وما زالت تستقطب استثمارات عملاقة في التقنية وصناعة السيارات.

كوريا الجنوبية (1960م – 1990م) بدأت كدولة فقيرة ومقسمة استثمرت بالتعليم والصناعات الثقيلة وحافظت على استقرار اقتصادي وإدارة حكيمة للعملة وأصبحت قوة صناعية عملاقة ومن أكثر الدول جذبًا للاستثمارات التقنية.

وتايوان (1950م- 1990م) بنت نظامًا تعليميًا قويًا وحافظت على استقرار سياسي واقتصادي وركزت على الصناعات الإلكترونية والتصنيع الدقيق، حاليًا تسيطر على أكثر من %60 من الإنتاج العالمي للرقائق الإلكترونية.

وهناك سنغافورة (1960م- 1990م) بلد صغير يفتقر للموارد الطبيعية تحولت إلى مركز مالي عالمي وميناء تجاري استراتيجي، وأصبحت من أغنى دول العالم بعد أن ركزت على التعليم والمهارات العالية والبنية التحتية المتقدمة.

وختامًا الصين التي قررت الانفتاح التدريجي على العالم منذ عام 1978م، حتى اندماجها في الاقتصاد العالمي عام 2001م، بدأت بالإصلاحات الداخلية واستثمرت في البنية التحتية والمصانع والمناطق الصناعية الخاصة والتعليم والبحث العلمي والقوى البشرية، وبعد نجاحها الداخلي توسعت نحو التجارة والاستثمار الأجنبي حتى أصبحت حاليًا تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وقفات:

  • الانكفاء للداخل اقتصاديًا لا يعني العزلة، بل يعني التركيز على البناء الداخلي للدولة وتقويتها، فمكمن نجاح الدول منطلقة من داخلها.
  • دول كاليونان والأرجنتين وفنزويلا وبعض دول إفريقيا ركز بعضها على التوسع الخارجي والاستثمارات الدولية والقروض والاعتماد على الموارد الطبيعية دون تنويع الاقتصاد الداخلي وتقويته، فكانت النتيجة خسائر أو أزمات اقتصادية.