اقتصاديات التحول الطاقي

التحول الطاقي.. رهان رابح للمستثمرين

تتجه المملكة الآن إلى خلق مزيج طاقة متنوع يحقق الاستدامة والاستقلالية، ويجعل من قطاع الطاقة محرّكًا للتنويع الاقتصادي ونمو القطاعات الصناعية.

يستفيد المستثمرون من التحول الطاقي عبر مجموعة واسعة من الفرص التي تتوزع على عدة مجالات رئيسة، وأول هذه المجالات هو الاستثمار المباشر في مشاريع توليد الطاقة.

 

من مساحات شديدة السكون قديمًا، إلى مركز ينبض اليوم بالتقنية والطاقة والاستثمارات الضخمة.

فعلى أطراف صحراء مدينة العُلا، يتأمّل المرء الأفق الممتدّ أمامه. فلا يُنظر إلى الرمال فحسب، بل إلى مستقبلٍ جديد يتشكَّل بهدوء، حيث ألواح شمسية تتبع حركة الشمس، وتوربينات للرياح تدور في انسجامٍ كامل كأنها ترسم شكل الاقتصاد السعودي الجديد.

وفي تلك اللحظة، يدرك الجميع أن المملكة لا تبني مشروعات طاقة فحسب، بل تعيد تعريف الطاقة وتحوُّلها من مصدر أحادي قائم على النفط إلى منظومة متكاملة من الفرص الاقتصادية والابتكار والنمو المستدام. وهكذا يبدأ التحول الطاقي في المملكة قصة تريد أن يشارك فيها كل مستثمر يرى المستقبل قبل أن يصل.

مشروع سدير للطاقة الشمسية

رؤية تتجاوز الطاقة نفسها

يُشكَّل التحول الطاقي في المملكة إحدى الركائز الاستراتيجية لرؤية 2030، فالمملكة تتجه الآن إلى خلق مزيج طاقة متنوع يحقق الاستدامة والاستقلالية، ويجعل من قطاع الطاقة محرّكًا للتنويع الاقتصادي ونمو القطاعات الصناعية.

وترتكز هذه الرؤية على عدة مسارات رئيسة، أولها: زيادة حصة الطاقة المتجددة في مزيج الكهرباء إلى %50 بحلول 2030م، وثانيها: رفع كفاءة استهلاك الطاقة في مختلف القطاعات، من المباني إلى النقل والصناعة، وثالثها: إطلاق مشاريع عالمية في الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر، ورابعها: تعزيز توطين الصناعة في مكوّنات الطاقة المتجددة، وأخيرًا تحقيق اقتصاد منخفض الكربون دون التأثير على النمو. هذه المحاور لا تغيّر قطاع الطاقة فقط، بل تخلق فرصًا في التعليم، والابتكار، والتصنيع، والخدمات اللوجستية، والتقنية، والاستثمار المباشر وغير المباشر.

اقتصاد جديد يولد

وكانت السنوات الأخيرة قد شهدت مشاريع ضخمة، جعلت المملكة من أكبر الأسواق الصاعدة في مجال الطاقة المتجددة، فمن مشروع سدير للطاقة الشمسية، الذي يُعد من أكبر المشاريع عالميًا، إلى مشروع دومة الجندل للرياح الذي وضع المملكة على خريطة طاقة الرياح، وصولاً إلى المشروع الأضخم عالميًا في الهيدروجين الأخضر داخل مدينة “نيوم”، هذه المشاريع ليست مجرد بنية تحتية طاقية، بل قواعد انطلاق لصناعات وأسواق جديدة بأكملها.

وتشكل الطاقة الشمسية العمود الفقري لهذا التحول، من خلال مشاريع مثل: مبادرة الملك سلمان للطاقة المتجددة والمشروع الشمسي الضخم الجاري في مدينة “نيوم”، المتوقع أن يولّد 2.6 جيجاوات ويغذي أكثر من مليون منزل، وتتمتع المملكة بأحد أعلى معدلات الإشعاع الشمسي في العالم، ما يجعل استغلال هذه الثروة خيارًا اقتصاديًا قبل أن يكون بيئيًا، فالمشاريع الضخمة في كل من القصيم، الرياض، مكة، والمدينة، تستوعب استثمارات كبيرة في مراحلها المختلفة: من التخطيط، إلى التوريد، إلى البناء، إلى التشغيل والصيانة.

وإلى جانب الطاقة الشمسية، تأتي طاقة الرياح لتغير المعادلة، وقد أثبتت مشاريع الرياح جدواها العالية، حيث تعمل مزرعة رياح دومة الجندل على سبيل المثال بطاقة 400 ميجاوات، وتغذي نحو 70 ألف منزل بالكهرباء. وفتحت مشروعات الرياح الباب أمام توسع كبير في هذا القطاع، وخلق فرص في مجالات، مثل تصنيع الأبراج وريش الرياح، وإنشاء مراكز خدمات وصيانة متخصصة. فيما يُعد أحد أعمدة هذه الاستراتيجية الأكثر أهميةً هو الهيدروجين الأخضر، إذ يجري إنشاء أكبر منشأة عالمية لإنتاج الأمونيا القائمة على الهيدروجين الأخضر باستخدام الطاقة المتجددة، باستخدام الكهرباء المتجددة لتفكيك جزيئات الماء، وتخطط المملكة لإنتاج وقود هيدروجيني خالٍ من الانبعاثات، وهذه المشاريع مدعومة بشراكات مع شركات عالمية ومستثمرين صينيين بارزين في التكنولوجيا النظيفة، وتهدف بأن تصبح المملكة مصدرًا رئيسًا للطاقة النظيفة، ما يمكّنها من خفض انبعاثات اقتصادها مع الحفاظ على مكانتها كقوة طاقة كبرى. وهذا المجال وحده قادر على استيعاب مليارات من الاستثمارات في البناء، والتخزين، واللوجستيات، والشبكات، والابتكار، إضافة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة التي ستخدم هذه الصناعة من حولها.

فرص استثمارية غير مسبوقة

ومن المؤكد أن التحول الطاقي ليس مجرد سياسة، بل سوق كبيرة قيد التشكّل، وتتميز المملكة فيها بثلاثة عناصر قوة، أولها: الطلب الكبير محليًا وإقليميًا، فالمملكة بحجمها الصناعي والسكاني المتزايد، تمثل واحدة من أكبر أسواق الطاقة في العالم. ومع التوجه لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر والطاقة النظيفة، تصبح الفرص مضاعفة، فضلاً عن أن المنطقة وأوروبا وآسيا جميعها بحاجة للطاقة النظيفة، والمملكة تمتلك ميزات الموقع الجغرافي والقدرة التمويلية والبنية ذات المستوى العالمي.

وثانيها: الدعم الحكومي غير المحدود، فلا توجد دولة في المنطقة توفر حوافز وتسهيلات في مجال الطاقة النظيفة كالمملكة، فمن إعفاءات ضريبية وتسهيل إجراءات الاستثمار، إلى شراكات حكومية ودعم كبير للتصنيع المحلي، وأيضًا تدشين المناطق الاقتصادية الخاصة، والرؤية الواضحة طويلة المدى، وكل ذلك جعل المخاطر أقل، والعوائد أكثر وضوحًا.

وثالثها: توفير الموارد الطبيعية والتقنية، فمع أن الطاقة الشمسية والرياح هما من أعلى الموارد الطبيعية جودة في العالم، ومع وجود مراكز بحث وتطوير جديدة، وارتفاع نسبة الاستثمار في التقنية والذكاء الاصطناعي، أصبحت المملكة بيئة جذابة للمستثمرين المحليين والدوليين.

كيف يستفيد المستثمرون من هذا التحول؟

ويستفيد المستثمرون من التحول في قطاع الطاقة عبر مجموعة واسعة من الفرص الواعدة التي تتوزع على عدة مجالات رئيسة، وأول هذه المجالات هو الاستثمار المباشر في مشاريع توليد الطاقة؛ إذ يمكن للمستثمرين الدخول في شراكات استراتيجية أو تمويل إنشاء محطات طاقة شمسية وطاقة الرياح. ورغم أن هذا النوع من الاستثمارات طويل الأجل، إلا أنه يوفر عوائد مستقرة ويُعد من أكثر خيارات الاستثمار أمانًا.

أما المجال الثاني فهو سلاسل الإمداد والتصنيع المحلي، ما يتيح فرصًا لإنشاء مصانع للألواح الشمسية، وتصنيع البطاريات، وإنتاج توربينات الرياح، وأنظمة التوزيع والمحولات، إضافة إلى مصانع الهيدروجين الأخضر. هذه المشروعات تحتاج إلى شركات عالمية ومحلية وناشئة، مما يفتح الباب أمام المستثمرين للدخول المبكر في السوق.

ويبرز كذلك المجال الثالث، وهو التقنيات الرقمية المرتبطة بالطاقة، والذي يشمل حلولاً تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإدارة الشبكات الذكية، وإنترنت الأشياء لمراقبة الاستهلاك، وتقنيات تخزين الطاقة، ومنصات التجارة الرقمية، إلى جانب الأمن السيبراني للبنية التحتية، ما يعد بيئة خصبة للشركات الناشئة وللاستثمارات في رأس المال الجريء.

وفي المجال الرابع، تأتي خدمات ما بعد الإنشاء (O&M) التي تحتاجها جميع مشاريع الطاقة، مثل: الصيانة الدورية، ومراقبة الأنظمة، وخدمات التشغيل والتنظيف، وتحديث البنية التقنية. هذا القطاع يمثّل فرصة مهمة لبناء شركات صغيرة ومتوسطة ذات استدامة عالية.

وأخيرًا، يظهر المجال الخامس المرتبط بالبنية التحتية للسيارات الكهربائية، وهو قطاع يشهد توسعًا سريعًا، وتتنوع الفرص فيه بين إنشاء محطات الشحن، وتقديم خدمات الصيانة، وبيع الأجهزة والأنظمة، وتصنيع وحدات الشحن، إضافة إلى تطوير تطبيقات لإدارة أساطيل المركبات، ويُعد هذا القطاع وحده قادرًا على خلق مئات الشركات الجديدة.

التحول الطاقي: قصة جديدة تتشكل

ولم يعد التحول الطاقي في المملكة مجرد مشروع بيئي يهدف إلى خفض الانبعاثات، بل أصبح سردية اقتصادية جديدة تعيد تشكيل ملامح النموذج الوطني للتنمية؛ فهذا التحول يفتح الباب أمام قيام اقتصاد صناعي متقدم، يعتمد على الابتكار والتقنيات الحديثة، ويخلق فرصًا استثمارية واسعة في مجالات التصنيع، وإدارة الطاقة، والبنية التحتية، والخدمات المرتبطة بها.

ومع توسع هذه القطاعات، تنشأ وظائف نوعية عالية المهارة، تُسهم في رفع تنافسية الشباب وتعزيز قدراتهم في مجالات المستقبل، كما يمنح التحول الطاقي الشركات المحلية ميزة تنافسية عالميًا، من خلال دخول أسواق التقنيات النظيفة وتطوير منتجات وخدمات قابلة للتصدير، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يربط هذا التحول بين الطاقة والتقنية والبحث العلمي، لتبدأ المملكة مرحلة يصبح فيها الاقتصاد قائمًا على المعرفة، وعلى القيمة المضافة الناتجة من الابتكار.

ويبقى أن التحول الطاقي في المملكة ليس تحولاً تقنيًا فحسب، بل بابًا واسعًا للفرص—فرصٌ ينتظر أن يقتنصها من يدرك أن المستقبل لا يأتي، بل يُصنع، فالمملكة اليوم تبني أسس اقتصاد جديد يتطلب عقولاً مبتكرة، واستثمارات جريئة، وشركات قادرة على النمو في بيئة سريعة التغير، ومع توسع مشروعات الطاقة المتجددة، وتطوير سلاسل الإمداد، وتبني التقنيات الرقمية، يتشكل سوق ضخم يتيح للمستثمرين ورواد الأعمال أن يكونوا جزءًا من قصة التحول، وهذا يعني أن المرحلة القادمة ليست فقط للمتابعين، بل للفاعلين الذين يختارون أن يكون لهم دور في تشكيل مستقبل الطاقة والاقتصاد معًا، ومن يفهم هذا جيدًا، يدرك أن الفرص الحقيقية لا تُمنح—بل تُبنى.