جرام واحد من الثوريوم يعادل 7500 جالون من البنزين، ما يعني أن سيارة تحتوي على 8 جرامات فقط من الثوريوم، قد تسير لمليون ميل.
الاستثمار في “سلسلة قيمة الثوريوم” من التنقيب إلى التوليد النووي، يمكن أن يُشكّل أحد أعمدة الاقتصاد غير النفطي في المملكة.
مع تنامي التوجه نحو الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على الموارد الأحفورية، تبرز فرص استثمارية جديدة تحمل بين طياتها إمكانات هائلة للنمو المستدام، ومن بين هذه الفرص، يظهر معدن “الثوريوم” كخيار استراتيجي غير تقليدي، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في صناعة الطاقة النووية البديلة.

إن الاهتمام العالمي المتزايد بالثوريوم لا ينبع فقط من خصائصه الفيزيائية المميزة، بل من قدرته على إعادة تشكيل خريطة الطاقة عالميًا، والإسهام في دعم الاقتصادات الطموحة نحو التنويع، كما هو الحال في رؤية المملكة 2030، التي تسعى إلى بناء اقتصاد لا يعتمد على النفط كمصدر دخل رئيسٍ، بل يستند إلى استثمار الموارد المحلية في قطاعات واعدة، وفي مقدمتها الطاقة النووية النظيفة.
وبينما تتسابق الدول المتقدمة لاستكشاف مصادر جديدة للطاقة تحقق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والاستدامة البيئية، يتقدم الثوريوم ليقدم نفسه كمرشح قوي، يجمع بين الوفرة النسبية، وانخفاض النفايات المشعة، وارتفاع الأمان التشغيلي، ما يجعله فرصة استثمارية فريدة لصنّاع القرار والمستثمرين على حد سواء.

معدن المستقبل ووقود الطاقة القادم
الثوريوم معدن طبيعي لونه فضي، اكتُشف عام 1828م، على يد الكيميائي السويدي “يونس ياكوب بيرسيليوس”، وتمت تسميته نسبة إلى الإله الإسكندنافي “ثور”، يتواجد الثوريوم في الطبيعة بكميات ضئيلة داخل الصخور والتربة، وتُعد معادن مثل “المونازيت” من أبرز مصادره، حيث يحتوي المونازيت على نسب عالية من فوسفات الثوريوم قد تصل إلى %12.
ويتميز الثوريوم بأنه أكثر وفرة من اليورانيوم بنحو 3 أضعاف، وله نشاط إشعاعي منخفض نسبيًا، وهو ما يجعله أكثر أمانًا في التعامل مقارنةً بغيره من المواد المشعة، والنظير الطبيعي الوحيد للثوريوم هو “الثوريوم232-“، الذي لا يُستخدم كوقود نووي بشكل مباشر، بل يُحوَّل إلى اليورانيوم233- بعد امتصاصه لنيوترون، ليصبح بذلك وقودًا انشطاريًا فعالاً في المفاعلات النووية.

وفرة واستدامة وأمان
ويمتلك الثوريوم خصائص فريدة تؤهله ليكون أحد أهم بدائل الوقود النووي في المستقبل، ومن أبرز هذه الخصائص، هي: النشاط الإشعاعي المنخفض، ما يجعله أكثر أمانًا في التخزين والنقل، وقلة نفاياته المشعة، إذ يُنتج عن احتراقه نفايات أقل وأكثر استقرارًا مقارنة باليورانيوم، وإنتاجه طاقة أكبر، وتشير التقديرات إلى أن الطن الواحد من الثوريوم يمكن أن يولد طاقة تعادل 200 طن من اليورانيوم، أو نحو 3.5 مليون طن من الفحم، وأخيرًا استحالة استخدامه في الأسلحة النووية، وهو ما يُقلل من المخاوف الجيوسياسية المرتبطة باستخدامه، كل هذه العوامل تجعل من الثوريوم خيارًا اقتصاديًا مستدامًا يوازن بين متطلبات الأمن والسلامة، ويقلل من التكاليف التشغيلية على المدى الطويل.
موقع المملكة الجيولوجي
بحسب بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، يبلغ إجمالي الاحتياطي العالمي المعروف من الثوريوم نحو 6.4 مليون طن، وتتصدر الهند هذه القائمة بنحو 850 ألف طن، تليها البرازيل، والولايات المتحدة، وأستراليا، ومصر، وتركيا، أما الصين فقد أعلنت مؤخرًا عن اكتشاف احتياطات ضخمة تُقدّر بمليون طن في منجم “بايان أوبو” بمنغوليا الداخلية، يُمكن أن تكفيها لتوليد الكهرباء لأكثر من 60 ألف عام، وفي المملكة كشفت المسوحات الجيولوجية عن وجود كميات من الثوريوم في منطقة “جبل سعيد”، ضمن معادن ثانوية، وتُشير بعض التقديرات إلى أن هناك احتياطيات معتبرة في منطقة حائل، ما يفتح الباب أمام استثمارات واعدة في هذا القطاع، ويُحتمل أن تكون منطقة الخليج العربي عمومًا غنية بهذا المورد، بما يؤهلها لأن تلعب دورًا محوريًا في سوق الثوريوم العالمي مستقبلًا، فاحتياطيات المنطقة من “الثوريوم”، قد تكفي بحسب التقديرات لتلبية احتياجات الطاقة العالمية لمئات السنين، إذا ما تم استخدامها في مفاعلات الجيل الرابع.
مفاعلات نووية قائمة على الثوريوم
رغم أن استخدام الثوريوم لا يزال في مراحله التجريبية، إلا أنه أثبت كفاءته في عدة تجارب قامت بها دول مثل ألمانيا، الهند، والولايات المتحدة، وقد استُخدم الثوريوم مع محفزات مثل اليورانيوم عالي التخصيب لتوليد الكهرباء في أنواع مختلفة من المفاعلات، ومن بين أبرز أنواع المفاعلات القادرة على استخدام وقود الثوريوم، هي: مفاعلات الماء الثقيل، والمفاعلات عالية الحرارة والمبردة بالغاز، ومفاعلات الملح المنصهر. وتتميز هذه المفاعلات بكفاءة تشغيلية عالية، وقدرة على العمل بأمان دون خطر الانصهار، وهو ما يُقلل من احتمالية الكوارث النووية.

جهود المملكة في استكشاف الثوريوم
وتُولي المملكة أهمية متزايدة لتطوير مصادر طاقة بديلة ونظيفة، وفي هذا الإطار، بدأت بتعزيز استثماراتها في قطاع الطاقة النووية السلمية، ثمة خطط لتطوير صناعة الطاقة النووية باستخدام اليورانيوم المحلي، خاصةً أن الدراسات الميدانية الأخيرة أظهرت موارد يورانيوم واعدة في المملكة، وتشمل هذه الجهود: تنفيذ مشروع استكشافي لتقييم موارد اليورانيوم والثوريوم في منطقة حائل، بالتعاون بين مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة وهيئة المساحة الجيولوجية والشركات الصينية، وإطلاق ورش عمل ومشروعات بحثية لتطوير تقنيات استكشاف وتقييم خامات اليورانيوم والثوريوم، إضافة إلى توقيع مذكرات تفاهم مع جهات دولية، مثل المؤسسة الوطنية الصينية للصناعة النووية، لتطوير مفاعلات نووية عالية الكفاءة. وتُعد هذه الخطوات جزءًا من الاستراتيجية الوطنية الهادفة إلى إنشاء أول مفاعلين نوويين بطاقة إجمالية تبلغ 2.8 جيجاوات، ما يعكس التزام المملكة بتنويع مصادر الطاقة وتحقيق أهداف الاستدامة.
الثوريوم والنقل الأخضر: ثورة قادمة
أحد الاستخدامات المستقبلية المثيرة للثوريوم هي قدرته على تشغيل المركبات، إذ تشير التقديرات إلى أن جرامًا واحدًا من الثوريوم يعادل 7500 جالون من البنزين، ما يعني أن سيارة تحتوي على 8 جرامات فقط من الثوريوم، قد تسير لمليون ميل دون الحاجة لإعادة التزود بالوقود، هذه القدرة الهائلة تُنبئ بثورة في عالم النقل الأخضر، قد تجعل المركبات النووية أكثر استدامة من السيارات الكهربائية، التي تتطلب بطاريات مكلفة تعتمد على معادن نادرة مثل الليثيوم.
وبمعنى آخر، فإن الطاقة النظيفة، التي ينتجها “الثوريوم” تدوم لفترات طويلة، مما يجعلها أكثر فاعلية من السيارات الكهربائية، التي تحتاج لإعادة الشحن، وتحتاج بطاريتها لمعادن نادرة، مثل “الليثيوم”. ويمكن أن يوفر بذلك إذا استُخدم كوقود نووي بالسيارات طاقة نظيفة ومستدامة دون الحاجة إلى الوقود الأحفوري، مما سيقلل بشكل كبير من الانبعاثات الكربونية، ويجعله خيارًا أكثر استدامة بيئيًا.
عوائد اقتصادية واستثمارية
ولا شك أن استخدام الثوريوم يمتد إلى قطاعات متعددة، بما في ذلك: الصناعة النووية وتوليد الكهرباء، وتحلية المياه باستخدام مفاعلات متقدمة، والزراعة من خلال الطاقة النظيفة للمزارع، والطب في بعض التطبيقات الإشعاعية، وكذلك التنمية الصناعية المرتبطة بالتعدين والتقنيات المتقدمة، وصناعة معالجة الوقود النووي وإعادة تدويره، وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإن “الثوريوم” يتميز بأمانه النسبي، على اعتبار أن النفايات المشعة، الناتجة عنه أقل خطورة من مثيلتها الناتجة عن اليورانيوم، كذلك، فإن “الثوريوم” يصدر إشعاع ألفا، الذي لا يخترق الجلد البشري، ويمكن احتواؤه باستخدام حاوية فولاذية سميكة.
ومن جهةً أخرى، فإن تكلفة استخراج “الثوريوم” وتجهيزه أقل من اليورانيوم، فضلا عن صعوبة استخدامه في مجال الأسلحة النووية.
ومع توفر الاحتياطي، والطلب العالمي المتنامي على مصادر طاقة آمنة ونظيفة، فإن الاستثمار في “سلسلة قيمة الثوريوم” من التنقيب إلى التوليد النووي، يمكن أن يُشكّل أحد أعمدة الاقتصاد غير النفطي في المملكة.
التحديات والفرص المستقبلية
ورغم المزايا المتعددة، تواجه صناعة الثوريوم تحديات منها: نقص التجارب التشغيلية واسعة النطاق، وارتفاع تكاليف البحث والتطوير، وقلة الكوادر البشرية المتخصصة في تقنيات الثوريوم، وضعف البنية التحتية لسلسلة التوريد النووية الخاصة به، وكما يواجه استخدام “الثوريوم” منافسة مع مصادر الطاقة الأخرى، وعلى رأسها، الطاقة الشمسية والرياح، والتي تشهد تطورًا سريعًا وانخفاضًا في التكاليف، وإن كانت ترتبط بتقلبات الطقس، ومع ذلك، فإن العوائد الاقتصادية والبيئية المُتوقعة تفوق هذه التحديات، خاصة مع الدعم الحكومي، والاستثمارات في التعليم والبحث، والتعاون مع الشركاء الدوليين.
وفي ضوء التحولات الكبرى في قطاع الطاقة العالمي، يُمثل الثوريوم فرصة ذهبية أمام المملكة لتأمين مكانة متقدمة في سوق الطاقة المستقبلية. الاستثمار في هذا المعدن ليس فقط خطوة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، بل أيضًا فرصة لبناء اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة. ومع توفر الرؤية، والإرادة السياسية، والدعم المؤسسي، فإن المملكة قادرة على تحويل الثوريوم من مجرد مورد طبيعي إلى ركيزة من ركائز “اقتصاد ما بعد النفط”.
