قفزت الأسعار منذ بداية العام بنسبة %58.6، واخترقت حاجز 4 آلاف دولار لأول مرَّة في تاريخها.
التضخم العالمي، دفع المستثمرين إلى الذهب كملاذ آمن لحماية أموالهم من تآكل القوة الشرائية.
شهدت أسعار الذهب تقلبات ملحوظة خلال العامين الماضيين، وبرزت بشكل واضح خلال عام 2025م، مما دفع مجلس الذهب العالمي للتأكيد على أن الطلب العالمي على المعدن الأصفر ارتفع إلى مستويات قياسية.
وثمة مؤشرات بأن الذهب لم يصل بعد إلى قمته، ولا يزال هناك مجال لمزيد من الارتفاعات خلال العام الجاري، إذا استمرت العوامل التي دفعت الأسعار للصعود دون تدخل اقتصادي فاعل.

وقد أسهمت عدة عوامل في اختراق الذهب حاجز الـ 4000 دولار للأونصة، منها انخفاض سعر الدولار، وركود الاقتصاد الأميركي، وارتفاع معدلات الفائدة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية مثل الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الرسوم الجمركية. وبحسب الخبراء، لم يصل الذهب إلى ذروته بعد.
ومنذ عام 2023م، شهد الذهب تقلبات بسبب تفاعل عدة عوامل اقتصادية وجيوسياسية. وقد ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ نتيجة استمرار التضخم العالمي، الذي دفع المستثمرين إلى الذهب كملاذ آمن لحماية أموالهم من تآكل القوة الشرائية. ومع رفع البنوك المركزية الكبرى، مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أسعار الفائدة للحد من التضخم، شهدت أسعار الذهب بعض التراجع، ولكنها لم تكن كافيه، إذ سرعان ما أعادت التوترات الجيوسياسية، مثل: الحرب في أوكرانيا والأزمات في الشرق الأوسط، دفع الذهب إلى مستويات مرتفعة مجددًا، ليظل خيارًا استثماريًا جذابًا للمستثمرين الباحثين عن الأمان المالي، ولم يرغبوا في دخول دوامة الاقتصاد غير الثابت.
ولم تكن رحلة الذهب إلى الصعود المستمر غير عادية؛ فقد قفزت الأسعار منذ بداية عام 2025م، بنسبة %58.6، واختبرت حاجز 4000 دولار لأول مرة في تاريخها في 8 أكتوبر، مدفوعةً بتزايد الإقبال على الملاذات الآمنة في ظل الضبابية الاقتصادية والجيوسياسية المتصاعدة. وبلغ الذهب 4,049 دولارًا للأونصة، قبل أن يتأرجح بين 4,050 و4,070 دولارًا. وقبل شهر من نهاية العام، سجل الذهب ارتفاعًا بنسبة %55 منذ بداية العام، بعد أن صعد %27 في عام 2024م.

ارتفاع مستمر للطلب
ويستمر الطلب على الذهب مع استمرار المخاطر المالية والسياسية، واتجاه السيولة نحو المعدن الثمين، إضافة إلى زيادة حيازات الصين وروسيا لتجنب العقوبات الغربية.
كما ساعدت زيادة مشتريات البنوك المركزية، وتجدد الاهتمام بصناديق الاستثمار المدعومة بالذهب، وتراجع الدولار، وقوة الطلب من الأفراد، في تعزيز صعود الذهب. وأدت الاضطرابات السياسية في فرنسا واليابان إلى زيادة الإقبال على المعدن الأصفر، ويتوقع الخبراء أن يستمر الذهب في الصعود خلال عام 2026م، وإن كان بوتيرة أقل من الارتفاعات القياسية في عام 2025م، فقد بلغ الذهب ذروته في العام الماضي ليصل عند مستويات 4,200 دولار، قبل أن يعود للانخفاض جزئيًا بفعل عمليات جني الأرباح، وسط توقعات بخفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.
بحسب تقرير رويترز، دفعت أزمة التعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على أوروبا وآسيا، المستثمرين للجوء إلى الذهب كملاذ آمن، بسبب الضبابية والتوترات التجارية، إلى جانب التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وأثرت توقعات ركود الاقتصاد الأمريكي، مع تجاوز الدين العام 37 تريليون دولار، على تعزيز الطلب على الذهب.
هذه التحولات رفعت زخم التداول في الذهب، وصعدت مشتريات البنوك المركزية لتتجاوز 900 طن خلال أول 9 أشهر من العام، على رأسها البنك المركزي الصيني وبنوك الاتحاد الأوروبي، إلى جانب صناديق الاستثمار المرتبطة بالذهب، مما عزز الطلب على المعدن الثمين.
وبدوره، يؤكد خبير صناعة وتسويق الذهب، عبدالغني المهنا، على أن الذهب باب محير، بقوله إنه لا يمكن التوقع أو التنبؤ بأسعاره، لأن أسعاره تخضع أكثر للسياسات الاقتصادية العالمية من قوانين العرض والطلب، ومن يتحمل عبء ذلك هم صغار المستثمرين، لهذا الدخول في أسواق الذهب حاليًا سواء بالبيع أو الشراء مخاطرة كبيرة، وقد يتعرض للخسارة، لأن من يتحكم في الأسعار هي الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية”.
وأضاف المهنا أن أسعار الذهب لن تعود كما كانت عليه قبل عام 2024م، خلال فترة قصيرة، مؤكدًا على أن العالم لا يزال في حروب وصراعات اقتصادية وسياسية وإعلامية، وهذا لا يساعد على تراجع أسعار الذهب، بل يزيد من ارتفاع المعدن الثمين، وبرغم ذلك حذَّر من الدخول في مجال المضاربة في بورصات الذهب من البيع أو الشراء في خضم هذه التغيرات السريعة خلال ثوانٍ.

توتر اقتصادي وجيوسياسي
أدت عدة عوامل إلى حالة عدم الاستقرار في الذهب، أبرزها انخفاض الثقة في الدولار واليورو، والركود التضخمي في الاقتصاد الأمريكي، وارتفاع أسعار السندات الآسيوية، مما يهدد السيولة العالمية واستقرار الأسواق المالية. كما أسهمت السياسات الأميركية والتوترات الدولية، وأزمات فرنسا وبريطانيا السياسية والاقتصادية، في صعود أسعار الذهب.
فحالة التوتر الاقتصادي، في كل أنحاء العالم تقريبًا، دفع الذهب للصعود بقوة على الصعيد الشهري، إذ ارتفع الذهب بنسبة %10.7 مقابل الدولار الأمريكي، و%12.2 أمام اليورو، و%12 أمام الجنيه الإسترليني، ونسب مشابهة أمام العملات الأخرى عالميًا. وبناءً على هذه الوتيرة، رفع بنك غولدمان ساكس توقعاته لسعر الذهب في مطلع عام 2026م، إلى 4.900 دولار للأونصة، بدلاً من 4,300 دولار، مع توقع وصول السعر إلى نحو 5,000 دولار إذا تضرر استقلال الاحتياطي الفيدرالي.
وثمَّة مؤسسات مالية أخرى، مثل لايت فاينانس، تتوقع أن يتراوح سعر الذهب بين 4,812 و6,546 دولارًا للأونصة بين أعوام 2027م و2030م، بينما يرى خبراء إدارة الأصول أنه قد يصل إلى 8,900 دولار بحلول عام 2030م، بناءً على توقعات التضخم والسياسات النقدية.
ووفق استطلاع أجرته شبكة CNBC في نوفمبر، فإن %36 من المستثمرين يتوقعون وصول الذهب إلى أكثر من 5000 دولار خلال العام المقبل، بينما يرى %33 أن السعر سيتراوح بين 4500 و5000 دولار، أما المتشائمون فلم تتجاوز نسبتهم %5.

فقاعة أم استمرار للصعود؟
ويرى بعض الخبراء أن ارتفاع الذهب منذ منتصف عام 2023م، إلى مستويات تاريخية لا يشير بالضرورة إلى فقاعة، بل يمثل سوقًا صاعدة نشطة، خاصة كملاذ آمن ضد الكوارث الاقتصادية. ومع ذلك، أدى ارتفاع الأسعار إلى تراجع الطلب على المجوهرات، بينما زاد الطلب على السبائك والذهب الخام. وقد انخفض الطلب على المجوهرات بنسبة %14 إلى 341 طنًا في الربع الثاني من عام 2025م، وهو أدنى مستوى منذ جائحة كورونا، بينما سجل تصنيع المجوهرات انخفاضًا بنسبة %9 في عام 2024م.
وفي الإطار نفسه، يؤكد تاجر الذهب، عبدالهادي محمد علي، على أن التوجه السائد حاليًا، هو شراء السبائك الذهبية، أكثر من المشغولات الذهبية بسبب ارتفاع أسعار الأخيرة، قائلاً إن عدم وضوح الرؤية حول مستقبل أسعار الذهب مستقبلاً أثر على القطاع كثيرًا، لافتًا إلى أن الارتفاع الكبير للذهب وصل لأكثر من الضعف خلال العامين الماضيين، وهذا الارتفاع تسبب في انخفاض عمليات شراء المشغولات الذهبية، وبات المستهلك ينتظر انخفاض الأسعار وعودتها لما كانت عليه في السابق، ولأن الرؤية غير واضحة، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيكون عليه الأسعار في العام المقبل، يفضل الكثيرون التريث في عمليات الشراء، ويفضلون التوجه لشراء السبائك الذهبية، كنوع من الملاذ الأمن الأموال. ويوضح أن الأوضاع السياسية العالمية هي السبب وراء الارتفاع، محملاً الجزء الأكبر من المسؤولية للفيدرالي الأمريكي الذي له تأثير أكبر من أي مؤثر آخر على الأسعار.

انتعاش غير مسبوق
والمثير للاستغراب، بين الاقتصاديين، هو استمرار ارتفاع أسعار الذهب والأسهم الأمريكية لمستويات قياسية في آنٍ واحدٍ؟، عادة ما يكون ارتفاع الأول، بسبب انخفاض الثاني، غير أن الذهب شهد انتعاشًا ملحوظًا يبدو أنه لا يمكن إيقافه في الوقت الحالي، مواصلاً تسجيل مستويات قياسية جديدة متتالية، في وقت تسجل فيه أسواق الأسهم ارتفاعات جديدة أيضًا وهو ما يشير عادة إلى التفاؤل.
ومع صعود الذهب ارتفع مؤشر الأسهم الأمريكية “إس أند بي 500” نحو مستويات تاريخية هو الآخر، فيما يصفه الخبراء بالحدث النادر، والمُحير في وقت واحد.
وكان قد أُغلق الذهب والمؤشر عند مستويات قياسية في ست جلسات تداول في عام 2025م، وعشر مرات في عام 2024م، ولكن منذ عام 1970م، وحتى عام 2023م، لم يحدث ذلك إلا مرتين.
ومن بين التفسيرات للوضع الراهن هو الانخفاض الحالي في قيمة الدولار، إذ يعد مؤشر العملة الأمريكية منخفضًا بحوالي %10 هذا العام متجهًا نحو تسجيل أسوأ أداء سنوي منذ عام 2023م، وعادة ما يدعم ضعف العملة، الذهب، كما أنه يعزز الأسهم الأمريكية بجعلها أرخص للمشترين الأجانب.

وثمة خبراء في الأسواق أمثال الرئيس والمستشار المالي لدى مجموعة “ليبرتاس لإدارة الثروات”، آدم كووس، والمدير التنفيذي لشركة مونتري ميتالز، كيث وينر، يرون أن هذه التحركات تعكس تيارًا خفيًا مرتبطًا بضعف الدولار أو المخاوف التضخمية، فيما يشير البعض إلى أن نهاية الهيمنة المالية الأمريكية تمثل نقطة تحول في الأسواق العالمية.
ويبقى أن الذهب يظل مدعومًا بالعوامل التقليدية: انخفاض الفائدة، المخاطر المالية، التوترات الجيوسياسية، وعمليات الشراء المستمرة من البنوك المركزية، لكنه لا يشكل جزءًا من قائمة المعادن الحيوية، وبالتالي يفتقر إلى محرك الرسوم الجمركية الذي يدعم المعادن البيضاء، ورغم تحقيقه ارتفاعًا بنسبة %57 منذ بداية العام، فقد جاء أداؤه النسبي دون الفضة والبلاتين.
