الأسواق تكافئ الدول المنضبطة ماليًا بالعديد من المكاسب، أبرزها زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي.
الانضباط المالي يبعث برسالة طمأنة للمستثمرين بأن “أموالهم تُدار في مكان آمن“.
في عالم الاقتصاد المعاصر، يصبح الانضباط المالي بطاقة اعتماد للدول، تمنحها الثقة والمصداقية على الصعيدين المحلي والدولي. فالدولة التي تدير مواردها بحكمة، وتوازن بين الإنفاق والإيرادات، تكافئها الأسواق بتدفق الاستثمارات، وتمنحها المؤسسات الدولية ثقة أكبر، بينما تنظر إليها الدول الأخرى كمثال يحتذى به في الإدارة المالية الرشيدة.

فالانضباط المالي ليس مجرد سياسة محاسبية، بل هو جواز مرور نحو الاستقرار الاقتصادي، ونمو مستدام، وبيئة استثمارية آمنة تجعل الدولة محور اهتمام المستثمرين والشركاء الدوليين على حد سواء.
ويُقصد بمفهوم “الانضباط المالي”، قدرة الحكومة على إدارة النفقات والإيرادات المالية بشكلٍ دقيق، وبما يحقق المستهدفات المالية الموضوعة ومؤشرات الموازنة العامة للدولة، وذلك ضمن الخطط الاقتصادية المتوسطة وطويلة المدى. وبمعنى آخر، فإن الانضباط المالي عبارة عن سياسة تهدف إلى إدارة الميزانية بطريقة منظمة ومسؤولة؛ بحيث يتم التحكم في النفقات، وتنمية الإيرادات، وتجنب العجز المفرط، لضمان الاستقرار المالي على المدى الطويل.

تحفيز النمو وتحقيق الانضباط
ويتضمن “الانضباط المالي” مجموعةً من القواعد، وعلى رأسها اعتماد ميزانية واقعية، تُراعي الإيرادات وحجم الإنفاق، وكذلك تقليص الإنفاق وتصنيف الديون وتحديد سبل سدادها. ولا يقتصر “الانضباط المالي” بذلك على مجرد تدشين القوانين أو ترسيخ مفاهيم الاستدامة المالية، وتوحيد الأسس المحاسبية لمؤسسات الدولة، ولكن يشمل أيضًا تطوير طريقة إعداد الموازنة العامة وإطلاق تعزيز ممارسات الانضباط المالي في القطاع العام، وتدريب القيادات العليا وموظفي القطاع العام على أهمية الانضباط المالي والمهارات المالية.
في إطار السعي لتحقيق الاستدامة المالية، وهي إحدى ركائز رؤية 2030 فإن هناك رغبة في تحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق الانضباط المالي، وتطبيقه عمليًا على أرض الواقع؛ إذ تستهدف الرؤية تنويع مصادر الإيرادات، وزيادة مساهمة القطاع غير النفطي، وهو ما يتطابق مع وجهة نظر المؤسسات الدولية، التي تحذر من أن يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى تأثر الموارد المالية للمملكة.
ويُعد برنامج تطوير القطاع المالي جزءًا مهمًا من رؤية 2030، بما يتضمنه من أهداف مثل بناء “قطاع مالي متنوع، فعال، ومستقر” يدعم الاقتصاد الوطني، ويعزز الحوكمة والشفافية في القطاع المالي، ويوسع الأدوات المالية والاستثمارية، وينوع مصادر التمويل ونشر “ثقافة الادخار”.
وقد تطرقت الرؤية إلى موضوع الانضباط المالي، عبر أدوات، مثل “مركز إدارة الدين” و”هيئة كفاءة الإنفاق والمشروعات (EXPRO)”، وذلك ضمن الجهود المبذولة لتعزيز الرقابة على الإنفاق العام، وتحسين تخطيط الإيرادات.

مؤشران ماليان رئيسان
وفي إطار السعي لتعزيز الانضباط المالي، قامت المملكة بالفعل ببعض الخطوات المهمة، فيما يتعلق بتعزيز الانضباط المالي، مثل تنمية الإيرادات غير النفطية، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي وترشيد المصروفات وتقليل النفقات غير الضرورية، والتركيز على تخصيص الإنفاق الحكومي في الأولويات التنموية. كما تم إعـــادة هيكلـــة منظومـة الميزانيـة العامـة للدولـة، لتكـون أكثـــر مرونـــة، وأصبحت تسـتند علـــى مؤشـــرين مالييـــن رئيسين، وهما مؤشـر نسـبة الانحراف فـي النفقـات لدى الميزانيـــة”، ومؤشر “العجـــز فــي الميزانيــة كنســبة مــن الناتــج المحلــي الإجمالي”، واسترشدت المملكة بالمنظمات الدولية في تحديد مستهدفات المؤشرين.
وإذا كانت الاستدامة المالية، ترتكز على ضرورة تنويع الإيرادات غير النفطية ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وتحسين إدارة الدين العام، فإن “الانضباط المالي” يُسهم ليس فقط في تقليص النفقات، ولكنه يؤدي دورًا مهمًا في إعادة توزيع النفقات والموارد، بما يحقق الكفاءة الاقتصادية والعوائد التنموية المرجوة. وذلك بعكس الإنفاق غير المنضبط الذي يزيد من ارتفاع الديون، ويؤدي لاحقًا إلى تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم وبرامج الدعم الاجتماعي.

تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي
ومن أبرز فوائد “الانضباط المالي” قدرته على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، والتحكم في التضخم، وتحسين التصنيف الائتماني للدولة، ما يقلل تكلفة الاقتراض ويزيد قدرة الدولة على جذب التمويل. كما يعزز ثقة المستثمرين ويزيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية، ويساعد على مواجهة التقلبات الاقتصادية العالمية وتقلبات أسعار الطاقة. إضافة إلى ذلك، فإن الانضباط المالي يتيح للدولة إعادة توزيع الموارد والنفقات بشكل يحقق الكفاءة الاقتصادية والعوائد التنموية، ويضمن استدامة المالية للأجيال القادمة، وتمويل المشاريع الاستراتيجية طويلة الأجل.
كما أن الانضباط المالي يمنح الدولة مكانة مرموقة على الصعيد الدولي، حيث تكافئها الأسواق بالاستثمارات والائتمان، وتعتبرها الدول الأخرى نموذجًا للإدارة المالية الرشيدة. وقد أكد وزير المالية السعودي، خلال مشاركته في اجتماعات مجموعة العشرين، أن الالتزام بالانضباط المالي واستدامة الديون يمثلان ركائز أساسية لاستقرار الاقتصاد الكلي، داعيًا إلى تعزيز الشفافية والحوكمة المالية ورفع كفاءة الإنفاق. وتتوافق هذه الرؤية مع توجيهات المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تشدد على أهمية الانضباط المالي في تمكين الدول من مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية وتحقيق نمو مستدام.
إضافة إلى أن “الانضباط المالي” يسهم في التوزيع العادل للأعباء ويمنع تراكم الديون على الأجيال المقبلة، ويزيد من قدرة الدولة على تمويل المشروعات الكبرى ووضع الخطط التنموية وتنفيذ مشروعات استراتيجية طويلة المدى.

تعزيز الشفافية والحوكمة المالية
ومن خلال مشاركته في الاجتماع الرابع لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين، والذي انعقد خلال أكتوبر 2025م، أشار وزير المالية “مـحمد الجدعان” إلى أن الالتزام بالانضباط المالي واستدامة الديون العامة يمثلان ركيزة أساسية لاستقرار الاقتصاد الكلي، مؤكدًا على تعزيز الشفافية والحوكمة المالية، ورفع كفاءة الإنفاق.
ولا شك أن أحد أسباب الاهتمام الحالي بالانضباط المالي، هو التوقعات السابقة للمملكة بحدوث عجز مالي عام 2025م يبلغ %5.3 من الناتج المحلي الإجمالي، (أكبر من النسبة التي كانت متوقعة من قبل والبالغة %2.3)، ثم عجز مالي يبلغ %3.3 في 2026م.
وفي هذا الإطار، يشير تقرير شركة “بي دبليو سي (PWC)” العالمية للاستشارات، والذي صدر في فبراير 2025م، أن التقلبات في سوق النفط أدت إلى تركيز عديد من الدول على الانضباط المالي، وعلى رأس تلك الدول السعودية، موضحًا أن “المملكة تعمل على إعادة ضبط أولوياتها لتحقيق التوازن بين الانضباط المالي والأهداف الاستثمارية الطموحة والمشروعات الكبرى للبنية التحتية”، وكذلك تعزيز القطاع الخاص وتطوير مشروعات البنية التحتية.
وتكافئ الأسواق الدول المنضبطة ماليًا بعديد من المكاسب، ففي الدول المنضبطة ماليًا تزداد تدفقات الاستثمار الأجنبي، ويصبح السوق المحلي أكثر جاذبية للتجارة والاستثمار، وتدخل شركات عالمية جديدة للسوق.
سياسة مالية واضحة ومستدامة
وعندما تكون ميزانية الدولة منضبطة ويتحقق الانضباط المالي، فإن المخاطر المالية تنخفض، وتقل مخاطر تخلف الدولة عن سداد التزاماتها، وكذلك تقل مخاطر التقلبات الكبيرة في أسعار الصرف أو الفائدة، ويُقبل المستثمرون على شراء سنداتها فتنخفض الفوائد على السندات الحكومية، وهو ما يقلل عبء خدمة الدين ويوفر أموالاً إضافية يمكن ضخها كإنفاق استثماري.
والدول المنضبطة يتحسن تصنيفها الائتماني، وتحظى بإشادة وكالات التصنيف نتيجة وجود سياسة مالية واضحة ومستدامة وبسبب انخفاض العجز واستقرار الدين العام، وهو ما يزيد من ثقة المستثمرين ويقلل من تكلفة الاقتراض ويزيد من قدرة الدولة على جذب التمويل.
كما أن الطلب على العملة المحلية يرتفع ويحدث استقرار في أسعار الصرف وترتفع أسعار أسهم الشركات ويزيد حجم التداول في البورصة، وبمعنى مختصر، فإن الانضباط المالي يبعث برسالة طمأنة للمستثمرين بأن أموالهم تُدار في مكان آمن.
وبرغم الجهود المبذولة لتقليل الاعتماد على النفط، إلا أن التقلب في أسعار النفط مازال مؤثرًا في كافة الاقتصاديات المنتجة للنفط، وفي هذا الإطار، ترى وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أن انخفاض أسعار النفط قد يؤدي إلى خفض الإنفاق أو إلى زيادة الديون، الأمر الذي انتبهت له المملكة، ويتطابق مع سعيها لتنويع مصادر الإيرادات.
ولذلك، فإن الإيرادات غير النفطية لها قوتها الصاعدة، في ظل قوة الاقتصاد غير النفطي، وهناك مؤشرات لنمو القطاع غير النفطي واستمرار الإنفاق على المشروعات التنموية والبنى التحتية؛ إذ تتوقع الحكومة السعودية أن ترتفع إيراداتها %5.1 في 2026م، وأن ينخفض الإنفاق %1.7.
حوافز معنوية وتمويلية
وقد جاء قيام مجموعة “أوبك بلس” بتأجيل التخفيضات الطوعية التدريجية وتمديدها إلى عام 2026م، خاصةً في ظل ظهور مؤشرات على تباطؤ نمو الطلب على النفط، في إطار تفهم وإدراك دول المجموعة لأهمية تكييف السياسات المالية والنفقات مع توقعات أسعار النفط، وهو ما يعزز من الاستدامة المالية مع الحفاظ على خطط النمو، وتسريع الاستثمار غير النفطي وتنويع الاقتصاد.
ويمكن للمؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي القيام بدور مهم، فيما يتعلق بتقييم السياسات المالية للدول وبتقديم حوافز معنوية وتمويلية وتقديم الدعم الفني والمشورة في بناء قدرات التخطيط المالي وتطبيق معايير الشفافية الدولية وتحسين الإدارة المالية بشكلٍ عام.
ويتطابق ذلك، مع رؤية وزير المالية “مـحمد الجدعان”، حين دعا المؤسسات المالية الدولية لتقديم إرشادات واضحة لمساعدة الدول على مواءمة سياساتها الوطنية مع الاستقرار المالي العالمي، موضحًا أن التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، لا يمكن مواجهتها بالانعزال عن النظام التجاري المتعدد الأطراف، بل في العمل الجماعي على تحسينه لتعزيز الثقة والاستثمارات طويلة الأجل.
