تُعد البطاريات المُبتكرة بديلًا واعدًا للحد من النفايات الإلكترونية وبطاريات الليثيوم أيون.
“كعكة الزفاف الروبوتية” تضم أول بطارية قابلة لإعادة الشحن وصالحة للأكل في العالم.
إنتاج النفايات الإلكترونية ينمو بمعدل أسرع خمس مرات من إعادة تدويرها، ومتوقع أن يصل إلى 82 مليون طن بحلول عام 2030م.
تخيّل أن تستيقظ يومًا ما وفي جيبك بطارية يمكنك أكلها أو أن يبتلع مريض كبسولة إلكترونية صغيرة تعمل لعدة ساعات داخل جسمه ثم تتحلل تلقائيًا كما تتحلل قطعة فاكهة! تخيّل أن مصدر الطاقة الذي يُشغّل أجهزة دقيقة داخل معدتك مصنوع من الفيتامينات والأحماض الأمينية وليس من المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية.

قد يبدو هذا كله مشاهد من فيلم خيال علمي، لكن العالم اليوم يقترب بسرعة من تحويلها إلى واقع ملموس. هذا هو جوهر الابتكار الذي توصّل إليه باحثون في جامعة “تكساس إيه آند إم” الأمريكية، إذ طوروا بطارية فريدة من نوعها تعتمد بالكامل على مكونات طبيعية قابلة للتحلل الحيوي — بل وصالحة للأكل أيضًا.
وتتكون البطارية الجديدة من عنصرين رئيسين موجودين في الطبيعة، هما “الريبوفلافين”، المعروف أيضًا باسم فيتامين B2، وحمض “الجلوتاميك”، وهو حمض أميني يساعد في بناء البروتينات في الجسم، حيث أمضى الفريق البحثي قرابة 15 عامًا في التحول نحو المنتجات الطبيعية لصنع مواد إلكترونية مُستدامة قابلة للتحلل.
وتوضّح أستاذة الهندسة الكيميائية وعضو الفريق البحثي الدكتورة “جودي لوتكينهاوس”، “أنه لطالما اهتممنا بمواد لصنع البطاريات تكون آمنة وتتصف بالمرونة، وعندما بدأ مختبر الدكتورة “كارين وولي”، أستاذة الكيمياء في الجامعة، في تطوير هذه المواد ذات المصادر الطبيعية، والتي تتسم بقدرتها على اكتساب وفقد الإلكترونات مثل البطاريات التقليدية، وهو ما فتح الباب أمام ابتكار جديد كليًا، بطارية قادرة على الأداء الجيد والاختفاء بأمان عندما لا نعود بحاجة إليها”.
وأضافت أنه على عكس بطاريات الليثيوم أيون، التي تعتمد على المعادن والبتروكيماويات، تُشتق هذه البطاريات الجديدة بالكامل من مصادر بيولوجية مُتجددة، وبالتالي فهي تتحلل بشكل آمن عندما تتعرض للماء أو الإنزيمات، مما يجعلها بديلاً واعدًا للحد من نفايات البطاريات، خاصةً التي لا يُعاد تدويرها بشكلٍ صحيح.
وتدعم البطاريات المُبتكرة الجهود الدولية المبذولة للتحول إلى الاقتصاد الدائري، وخفض المواد المعاد تدويرها والتوجه نحو الصناعات الخضراء التي من شأنها الحفاظ على البيئة من التلوث، ورغم أن الطريق مازال طويلاً للاستخدام التجاري لهذه البطاريات الذي قد يصل إلى 5 – 10 سنوات، إلا أنها بدايةً لا يمكن التقليل من شأنها في هذا المجال.

بطارية الشكولاتة الداكنة
من الملاحظ أن ابتكار بطاريات صديقة للبيئة وقابلة للأكل قد فتح شهية الباحثين على مدار السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث كرست مجموعة متخصصة من التقنيين والمهندسين والأطباء جهودها لتطوير أدوات إلكترونية ليس بالضرورة لتغذية الإنسان، بل لأغراض طبية.
وتمكن فريق بحثي مشترك من مدرسة لوزان الاتحادية للفنون التطبيقية بسويسرا والمعهد الإيطالي للتكنولوجيا، مؤخرًا، من ابتكار كعكة روبوتية (تشبه كعكة الزفاف) بمكونات صالحة للأكل، ومزودة بأول بطارية قابلة لإعادة الشحن وصالحة للأكل في العالم، هذه البطارية مصنوعة بالكامل من فيتامين B2، والكيرسيتين (مضاد أكسدة وموجود في الخضراوات والفواكه)، والكربون المنشط، والشوكولاتة الداكنة.
وأكد الباحثون أنه من خلال استبدال الإلكترونيات التقليدية، يمكن لهذه المكونات أن تساعد على معالجة ملايين الأطنان من النفايات الإلكترونية السنوية، بينما ستقلل الأجزاء القابلة للاستهلاك بالكامل من هدر الطعام، وأشاروا إلى أن المستقبل سيشهد استخدام هذه التقنية كحبوب ذكية لمراقبة صحة الإنسان.
وقال الباحث في المعهد الإيطالي للتكنولوجيا والمشرف الرئيس على الدراسة، “إيفان إيليتش”، هناك طريقتان رئيستان تُلحق بهما البطارية الضرر بالأنسجة البشرية أثناء وجودها داخل الجسم، وهما التحليل الكهربائي للماء والمواد السامة، ويحدث التحليل الكهربائي، عندما يُحوّل جهد كهربائي أعلى من 1.2 فولت (في جميع بطاريات الليثوم أيون تقريبًا) الماء إلى أكسجين وهيدروجين (غاز متفجر)، وهو عمل خطير للغاية إذا حدث في المعدة، لكن جهد بطارتينا المبتكرة أقل بكثير من هذا الجهد فهو حوالي 0.65 فولت، لذا لا يُمكن حدوث التحليل الكهربائي، ومن ناحية أخرى، استخدمنا موادًا غذائيةً فقط، فلا شيء سام!.
وفي منتصف عام 2022م، أعلن فريق بحثي في جامعة كارنيجي ميلون الأمريكية عن ابتكار بطاريات مصصمة للوصول إلى الجسم وقابلة للهضم لتشغيل أجهزة إلكترونية صالحة للأكل، تُستخدم في أغراض طبية متنوعة، من التشخيص إلى العلاج، وتعتمد على “الميلانين” كمكون رئيسي، وهو صبغة طبيعية موجودة في جلد وشعر وعين الإنسان، لتصنيع الأقطاب الكهربائية.
وفي عام 2018م، فاز أستاذ الكيمياء بجامعة تورنتو في كندا “دوايت سيفروس” بجائزة “ماكلين” المرموقة للأبحاث العلمية المبتكرة، لاستخدامه مركبات طبيعية مُعدلة مثل بعض الفتيامينات الموجودة في أوراق الشجر، لصنع منتجات عالية التقنية مثل البطاريات الصديقة للبيئة، والملابس التي يُمكن أن تعمل كنظام تبريد شخصي لمرتديها.
وذكر “سيفروس”، أن الطبيعة تعرف ما هو الأفضل، ولكن أحيانًا يُمكن لبعض التعديلات البسيطة أن تُحسّن الأمور، وأضاف: “نحاول أن نستلهم من الطبيعة، إذ يُمكن تعديل المركبات الطبيعية لتحسينها، لقد تم تطبيق ذلك في صناعة الأدوية، ولكن ليس بنفس القدر في صناعة المواد عالية التقنية“.

كارثة النفايات الإلكترونية
وأشار خبير التكنولوجيا البريطاني “روبرت ليا”، إلى تنامي التقنيات الإلكترونية القابلة للأكل، والتي قد يتم استخدامها في علاج وتشخيص أمراض عدة أبرزها اضطرابات الجهاز الهضمي، فضلًا عن الاستفادة منها في مجال مراقبة جودة الطعام، مشيرًا إلى أن إيجاد مصدر طاقة صالح للأكل يُعد من أبرز المشكلات التي تُعيق حاليًا تطوير تقنيات الطعام، فقد أسفرت محاولات تحقيق ذلك عن إنتاج مكثفات فائقة صالحة للأكل تعاني من انخفاض الطاقة لكل وحدة حجم وهي ما تُسمى “كثافة الطاقة”، وبطارية تُخلّف كميات غير مرغوب فيها من معدن المنجنيز، فبينما يُعدّ القليل منه مفيدًا، إلا أن الإفراط فيه قد يُسبب آثارًا صحية مثل فقدان الشهية، وتباطؤ النمو، ومشاكل في الإنجاب.
ويمكن القول بأن نجاح تجارب صناعة البطاريات من مواد قابلة للتحلل سيساهم بشكل كبير في حل مشكلة النفايات الإلكترونية في العالم، التي تمثل أحد أخطر عوامل تلوث البيئة والإضرار بحياة الإنسان على الكوكب، فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، يتزايد إنتاج النفايات الإلكترونية بمعدل أسرع خمس مرات من إعادة تدويرها، وخلال عام 2022م وحده، تم إنتاج 62 مليون طن منها، ومن المتوقع أن يصل إلى 82 مليون طن بحلول عام 2030م، مشيرةً إلى أن عمليات إعادة التدوير تلبي فقط %1 من الطلب على العناصر النادرة.

فرص استثمارية عديدة
إن تطوير بطاريات قابلة للتحلل والأكل يوفر فرص استثمارية واعدة في قطاعات عدة، خاصةً فيما يتعلق بتطبيقات الرعاية الصحية والمنتجات المُخصصة للأطفال، حيث نخشى عليهم دائمًا من ابتلاع المواد الضارة بالجسم، حيث يتم العمل على تطوير أجهزة ذات سعة أكبر وحجم أصغر، وسيتم اختبار هذه الابتكارات مستقبلاً للتوصل إلى روبوتات صالحة للأكل أيضًا، وفقًا لمنسق مختبر الإلكترونيات في إيطاليا “ماريو كايروني”.
وأضاف أن “البطاريات الصالحة للأكل مثيرة للاهتمام أيضًا من قبل المعنيين بتقنيات تخزين الطاقة، خاصةً أن بناء بطاريات أكثر أمانًا، دون استخدام مواد سامة، يمثل تحديًا نواجهه مع تزايد الطلب على البطاريات، فعلى الرغم من أن بطارياتنا لن تُشغّل السيارات الكهربائية، إلا أنها تُثبت إمكانية تصنيع البطاريات من مواد أكثر أمانًا من بطاريات الليثيوم أيون الحالية، ونعتقد أنها ستُلهم علماء آخرين لبناء بطاريات أكثر أمانًا لمستقبل مستدام حقًا”.
ويعد الهدف الرئيس من هذه الأبحاث، ابتكار إلكترونيات تتحلل بشكل غير ضار في جسم الإنسان، مما يُغني عن الحاجة إلى الاستئصال الجراحي أو الإجراءات الأخرى اللازمة لإزالة الوسائل التقليدية بعد انتهاء مهامها، وبذلك، فإن المجال الطبي يُعد من أكثر القطاعات الواعدة في هذا الشأن، إذ يُمكن استخدام أجهزة الاستشعار الصالحة للأكل لمراقبة صحة الجهاز الهضمي، والكشف عن الأمراض، وحتى إعطاء جرعات دقيقة من الدواء مباشرةً عند الحاجة، ويُمكن لهذه الأجهزة نقل المعلومات الحيوية إلى شاشات خارجية، مما يسمح بمراقبة الصحة في الوقت الفعلي.
ومع تحول هذه التجارب إلى منتجات تجارية، سيكون لدينا أنظمة مراقبة صحية أكثر تقدمًا قادرة على تشخيص وعلاج الحالات الصحية في الجسم، ويمكن لهذه الأنظمة أن تلعب دورًا حاسمًا في الطب الشخصي، حيث توفر علاجات مصممة خصيصًا بناءً على بيانات آنية من داخل جسم المريض.

تطبيقات سلامة الغذاء
وبرغم إن إنتاج بطاريات صالحة للأكل ينطوي على العديد من العقبات التقنية، أبرزها استخدام مواد آمنة للاستهلاك البشري، وقادرة على أداء وظائف إلكترونية في الوقت نفسه، إلا أنها وبعد التغلب على هذه التحديات، ستكون بمثابة “ثورة في سلامة الغذاء”، حيث يتم دمج هذه الأجهزة في العبوات لمراقبة جودة المنتجات الغذائية، حيث يمكنها اكتشاف التلوث والتلف، مما يضمن سلامة الطعام للاستهلاك قبل وصوله إلى المستهلكين، وبذلك فهي ستمثل قفزة نوعية في مجالي التكنولوجيا والاستدامة.
وإذا كان الطريق لا يزال طويلًا قبل أن نحصل على كافة إمكانات هذا النوع المبتكر من البطاريات، إلا أنها سيكون لديها القدرة على إحداث تغيير جذري في جوانب حياتنا في المستقبل القريب، وستكون بمثابة دفعة قوية لتقديم خدمات صحية وغذائية أكثر تقدمًا وابتكارًا.
