الريال الرقمي كرييتڤ

الريال الرقمي!

%79 نسبة المدفوعات الرقمية التي أجراها المستهلكون العام الماضي تُشكل %84 من حيث القيمة.

132 مليار دولار قيمة الاقتصاد الرقمي في المملكة تُمثل %15 من الناتج المحلي الإجمالي.

الريال الرقمي سيتصل بشبكات التجارة الذكية في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2040م.

 

على مدى العقد الماضي، شهد القطاع المالي في المملكة نموًا وتطورًا مستدامين تزامنًا مع التحول الشامل الذي يشهده الاقتصاد الوطني، في انعكاس مباشر لثمار رؤية 2030، وفي هذا الإطار، أثبتت المملكة قدرتها على الابتكار واستيعاب التغيير في خدمات الدفع، حيث نجحت في بلوغ الحصة المستهدفة لمعاملات التجزئة غير النقدية بواقع نحو %70 في عام 2023م، أي قبل عام كامل من الموعد المحدد.

 

وانسجامًا مع أحد الأهداف الرئيسة لبرنامج تطوير القطاع المالي، وصلت نسبة المدفوعات غير النقدية (الرقمية) التي نفّذها المستهلكون — من حيث العدد — إلى %79 خلال العام الماضي، وهو ما يمثّل ما نسبته %84 من إجمالي معاملات المستهلكين من حيث القيمة.

بنى تحتية قوية للمدفوعات

وذكر مساعد محافظ البنك المركزي “ساما” للشؤون التنفيذية، “عبدالإله الدحيم”، أنه على مدار ثلاثة عقود ونصف، طوّر البنك المركزي بنى تحتية رئيسية مشتركة للمدفوعات، مما يضمن الوصول إلى نظام مركزي ومتبادل لمدفوعات التجزئة، متاح لجميع المشاركين المؤهلين (من البنوك وغير البنوك)، وفي هذا الإطار، يبلغ معدل الشمول المالي الآن ما يقرب من %94 من سكان المملكة البالغين.

وأضاف أن هذا التحول في قطاع المدفوعات نتيجة للجهود الحثيثة المبذولة بالتركيز على ثلاثة مجالات أساسية، تتمثل في تطوير البنية التحتية الأساسية للمدفوعات، وتنفيذ الإصلاحات التنظيمية، وترسيخ ثقافة الابتكار، فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، قادت “ساما” برنامجًا استراتيجيًا متكاملاً لتطوير المدفوعات في جميع أنحاء المملكة، وقامت تدريجيًا ببناء وتشغيل نظام مدفوعات يضمن بنية تحتية دائمة للمدفوعات مع الحفاظ على ثقة المستهلك.

وأوضح الدحيم أن البنية التحتية الوطنية للمدفوعات، التي تخدم أكثر من 35 مليون نسمة، تضم حاليًا مجموعة من خمسة أنظمة دفع أساسية، منها نظام سداد للدفع والعرض الإلكتروني، ويدعم نظام ومحول بطاقات الخصم المحلية “مدى”، الذي أُطلق في البداية عام 1990م، وأُعيد تطويره عام 2015م، كلاً من معاملات بطاقات الخصم المحلية والدولية، وصُمم نظام “ساري” للدفع الفوري، لتوفير الجيل التالي من إمكانات الدفع بتحويل الرصيد لمستخدمي الدفع من الشركات والأفراد في المملكة، موفرًا خدمة توصيل المدفوعات في الوقت الفعلي على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.

وشهدت معاملات البطاقات في نقاط البيع نموًا استثنائيًا على أساس سنوي منذ عام 2014م، حيث زاد حجمها بأكثر من 30 ضعفًا خلال العقد الماضي، بالإضافة إلى ذلك، وفي عام 2024م، أصبحت %96 من جميع معاملات نقاط البيع في المملكة تتم بدون تلامس، و%51.9 منها بدون بطاقات (بفضل مدفوعات البطاقات الرمزية باستخدام الأجهزة المحمولة).

عبدالإله الدحيم

رحلة الريال الرقمي

ورسخت المملكة مكانتها كواحدة من أبرز الاقتصادات الرقمية الناشئة في العالم، مدفوعةً برؤية استراتيجية طموحة، تضع التحوّل الرقمي في صميم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وتقدر حاليًا قيمة الاقتصاد الرقمي في المملكة بنحو 132 مليار دولار، تمثل %15 من الناتج المحلي الإجمالي، وقد شكّل إطلاق منصة “أبشر” أول إنجاز رئيس في مسيرة التحول الرقمي، حيث مثّل نقطة انطلاق لخدمات الحكومة الإلكترونية على نطاق أوسع، تبع ذلك منصات متطورة مثل “توكلنا” و”نفاذ”، والتي أحدثت ثورة في العلاقة بين الدولة ومواطنيها من خلال خدمات آلية عالية الكفاءة.

كما بدأت رحلة المملكة نحو الريال الرقمي مع مشروع “عابر” في الفترة 2019م – 2020م، وهو مشروع تجريبي مشترك مع الإمارات العربية المتحدة لاختبار العملات الرقمية للبنوك المركزية، وفي يونيو 2024م، انضمت المملكة إلى مشروع “إم بريدج”، وهو مبادرة متعددة الجنسيات للعملات الرقمية للبنوك المركزية، تشمل الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات العربية المتحدة، وتُؤكد هذه الخطوة التزام المملكة بإعادة تشكيل التجارة العالمية من خلال تقنية البلوك تشين.

وعلى الرغم من أن الريال الرقمي غير مُتاح بعد للاستخدام من قبل الأفراد، ولم يُعلن عن موعد إطلاقه بشكل رسمي، فإن المرحلة التجريبية التي ركزت على تطبيقات الجملة بين البنوك وعبر الحدود، تُشير إلى أن المملكة تُجهّز شبكتها المالية لمعاملات متعددة الجنسيات وأكثر تعقيدًا. وإذا سارت المملكة في خطتها الزمنية الطموحة، فقد يظهر الريال الرقمي بشكل جزئي بحلول عام 2026م، وهو بذلك سيمثل نقطة تحول بالنسبة لعمليات الدمج والاستحواذ عبر الحدود، حيث يمكن هيكلة الصفقات باستخدام السيولة الرقمية، والضمان العابر للحدود، والامتثال القابل للبرمجة، وكلها مدعومة ببنية تحتية من “ساما”.

ويتوقع الخبير الاقتصادي “مشاري العواد”، أن تصبح المملكة رقمية بالكامل وذكية ماليًا بحلول عام 2035م، حيث ستتقدم نحو مستقبل يصبح فيه المال قيمة رقمية ذكية، متكاملة وآمنة في جميع القطاعات، مشيرًأ إلى أن الخدمات الرقمية مثل “اس تي سي باي” وأبشر”، استغرقت ما يقرب من عقد من الزمان للوصول إلى مرحلة التبني الكامل، وسيتبع الريال الرقمي المسار الثابت نفسه نحو واقع مالي رقمي كامل.

وعلى الصعيد العالمي، من المتوقع أن تُطلق أكثر من %60 من البنوك المركزية عملات رقمية بحلول عام 2035م، ويُعِدّ الاتحاد الأوروبي اليورو الرقمي، وتُوسّع الصين نطاق اليوان الرقمي، وتُطلق الإمارات العربية المتحدة الدرهم الرقمي.

وأوضح “العواد”، أنه بعد عام 2035م، ستنتقل المملكة إلى عصر التمويل المُعتمد على الذكاء الاصطناعي، وستتطور المحافظ الرقمية إلى مُساعدين أذكياء يُديرون المدخرات والضرائب والاستثمارات تلقائيًا، ستستخدم الحكومة الذكاء الاصطناعي لإدارة الإنفاق والتنبؤ بالاتجاهات فورًا، وسيعمل الريال الرقمي كعملة تفاعلية ذاتية التنفيذ، حيث تخصم الزكاة والضرائب، وتُنفذ العقود الذكية، وتُصدر تقارير فورية، وستُخصم ضريبة القيمة المضافة تلقائيًا من أي شركة سعودية تدفع لمورد في الخارج، دون معالجة يدوية.

وبحلول عام 2040م، سيتصل الريال الرقمي بشبكات التجارة الذكية العالمية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، وسيدفع التجار السعوديون للموردين في أي مكان في ثوانٍ دون وسطاء أو رسوم، وستستخدم الحكومة والشركات لوحات معلومات الذكاء الاصطناعي الفورية لمراقبة الإنفاق والإيرادات والامتثال، وبذلك ستصبح المملكة رائدة عالمية في مجال التمويل الذكي، من خلال دمج العملة الرقمية للبنك المركزي والذكاء الاصطناعي وأنظمة التجارة الذكية، وسيكون الريال الرقمي عملة موثوقة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخارجها.

رمز رسمي للريال

وكان البنك المركزي، قد اعتمد مؤخرًا، رمزًا جديدًا لعملة الريال، بتصميم فريد يجمع بين الأصالة والمستقبل، بما يدعم مكانته على الساحة العالمية، في خطوة استراتيجية ضمن مبادرات التحول الرقمي.

وقال الخبير الاقتصادي ومستشار السياسات “محمود خيري”: “تلعب رموز العملات دورًا حيويًا في تشكيل نظرة الناس إلى عملات الدول، ومن شأن طرح رمز جديد للريال أن يُسهم في ترسيخ مكانته كعملة حديثة ومستقلة، مضيفًا أن الرمز المُتقن الصنع يُعزز الفخر الوطني ويُميز الريال عن غيره من العملات وهو أمر بالغ الأهمية لكسب الاعتراف الدولي.

وأوضح الخبير في شركة “استبرق” للاستشارات ” تشارلز ميتشل”، أن إطلاق رمز جديد للريال، يُعد أكثر من مجرد تحول نقدي، بل هو تعبير عن قوة الهوية ونفوذها، ولا يقتصر هذا الرمز على المعاملات فحسب، بل يُجسد حضورًا قويًا في الاقتصاد العالمي، يعكس الدور المتنامي للمملكة في التجارة المالية والاستثمار.

ويتجاوز رمز العملة كونه رمزًا ماديًا أو رقميًا، إذ يُمثّل أهميةً في كيفية تقديم الدولة لنفسها للعالم، وكيفية تأكيد مكانتها في النظام المالي، وكيفية تعزيز علامتها التجارية، إذ تتجاوز قوة العملة حدود الأوراق النقدية والعملات المعدنية، فهي تعكس المكانة الاقتصادية للدولة، وبمثابة رمز للثقة والاستقرار والطموح.

وأضاف “ميتشل”، أن بناء الهوية الوطنية يُعد جهدًا مستمرًا يتطلب سردًا قصصيًا مميزًا وتحديدًا استراتيجيًا، ويتماشى إطلاق هذا الرمز مع جهود المملكة الأوسع نطاقًا لتعزيز حضورها على الساحة العالمية، سواء من خلال استثمارات رؤية 2030 في الترفيه الرياضي أو السياحة، كما تبني الدول معالم بارزة أو تستضيف فعاليات عالمية لتشكيل الصورة الذهنية، ليصبح رمز العملة امتدادًا لتلك الهوية، ونقطة اتصال يومية تعزز طموحات الأمة وثقتها بمستقبلها.

وأشار إلى أن المملكة لا تقتصر على تشييد البنية التحتية أو إطلاق السياسات فحسب، بل تُشكل بدقة علامة تجارية تُجسّد قوة الابتكار والريادة، حيث تركز رؤية 2030، على إعادة تعريف هوية المملكة ضمن علامتها التجارية الخاصة وإطارها الوطني، بقدر ما تُركز على التنويع الاقتصادي والتحديث، حيث يتضافر التحول الاقتصادي والمكانة العالمية لخلق رمز دائم ومميز للهوية الاقتصادية والثقافية.

الخصوصية والثقة

وأكد مختصون أنه حتى يتم تطبيق الريال الرقمي بشكل رسمي، ينبغي على الجهات المعنية مراقبة ثلاثة أمور، تشمل التجارب المباشرة باستخدام أموال حقيقية، والإعلانات التنظيمية من البنك المركزي السعودي، وأي برنامج تجريبي عام يشمل البنوك التجارية، مشيرين إلى أن هذه التطورات تعكس مدى قرب المملكة، من تمكين صفقات الاندماج والاستحواذ الرقمية المدعومة بالريال.

على الرغم من التقدم التقني، فإن الأمان والخصوصية من أبرز العقبات التي يتعين التعامل معها، فلم تُعلن الجهات التنظيمية بعد عن أطر عمل تتعلق بالخصوصية، ومكافحة غسل الأموال وحوكمة الأصول الرقمية، ولكي تستفيد عمليات الدمج والاستحواذ عبر الحدود استفادة كاملة، سيحتاج صانعو الصفقات إلى ضمانات بأن معاملات الريال الرقمي قابلة للتنفيذ قانونيًا ومتوافقة مع القوانين.

وتعد الثقة عقبة أخرى، إذ يجب أن تؤمن البنوك وشركات التكنولوجيا المالية والشركات بأمن النظام وسهولة استخدامه، فأي خلل ــــ سواءً كان تقنيًا أو يتعلق بالسمعة ـــــ قد يُبطئ التبني ويُضعف حماس عمليات الدمج والاستحواذ، ومع ذلك فإن موقف المملكة “اللا تسرع” يُشير إلى تفضيل الدقة على السرعة، مما قد يُعزز في النهاية ثقة المؤسسات.