230 ألف دولار تكلفة سنوية لدوران وظيفي يُقدر بنحو %10 في شركة تضم 100 موظف.
تحول كبير في كيفية تعامل الشركات مع ولاء المواهب والراتب لم يعد هو العامل الحاسم الوحيد.
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير والمنافسة الحادة بين الشركات على استقطاب المواهب والكفاءات لرفع قدرات طاقمها البشري، باعتباره الثروة الحقيقية والأصول الاستراتيجية لها، تكمن المشكلة الحقيقية في الاحتفاظ بأصحاب الخبرات والمهارات وخفض دوران العمالة الذي يضع أعباءً مالية إضافية عليها، وقدرة المؤسسات على خلق بيئة عمل مواتية ومحفزة ومشجعة ومنتجة على المدى الطويل، بما يؤدي إلى تعزيز السمعة والتنافسية وزيادة الإنتاجية.

التكاليف الخفية
وذكر مدير شركة ” Great Place to Work Italy” وهي إحدى الشركات الأوروبية الرائدة في الاستشارات الإدارية “بنيامينو بيدوسا”، أن الاحتفاظ بالمواهب يزداد صعوبةً في ظل معدلات الرواتب التي لا تتناسب مع توقعات الموظفين، والمدراء الذين يديرون فرق العمل وفقًا لمنطق عفا عليه الزمن، يعتمد على التحكم والتسلسل الهرمي أكثر من التفويض وتحقيق الأهداف.
وأشار إلى أن شركته أجرت دراسة شملت 25 ألف موظف في 19 دولة أوروبية، ونبهت إلى خطورة الاستهانة بالتكاليف الخفية لدوران الموظفين، مؤكدًا أن هذه التكاليف تزيد من عدم كفاءة المؤسسات، بسبب الموارد المُنفقة على الاختيار والتدريب وانتظار وصول الموظف الجديد إلى مستوى أداء الموظف المُستقيل، لافتًا إلى أن أي شركة إيطالية على سبيل المثال، تضم حوالي 100 موظف، ستواجه معدل دوران وظيفي يبلغ %10، وهو متوسط قيمة الشركات العاملة في شمال إيطاليا، وتكاليف سنوية تُعزى إلى مغادرة الموظفين تبلغ حوالي 200 ألف يورو ( 230 ألف دولار).
وأضاف أن استراتيجية بناء هوية مؤسسية جيدة، قائمة على التغذية الراجعة المباشرة من الموظفين، تُقلل من تكاليف التوظيف ودوران العمل، وهي ظاهرة آخذة في الازدياد، لا سيما بين الأجيال الشابة، مؤكدًا على أن الإنصات الفعال وإشراك الموظفين، يُحدث تأثيرًا مباشرًا على فخر الموظفين وشعورهم بالانتماء، وهما عنصران أساسيان لبناء ثقافة مؤسسية راسخة وجذابة ومستدامة مع مرور الوقت.
وأوضح “بيدوسا”، أن الركائز الرئيسية التي تستخدمها المؤسسات الأوروبية اليوم للاحتفاظ بالموظفين باعتبارهم ثروتها الحقيقية، هي ترتيبات العمل الهجينة، التي تجمع بشكلٍ متوازن بين الحضور المكتبي والعمل الذكي، والتوازن بين العمل والحياة، وتناسب الرواتب مع الخبرات والأحوال المعيشية، والتقدير، فضلاً عن الثقة بين المديرين والموظفين، وإزالة العوائق، والتقدم الوظيفي، والتدريب، وسياسات العمل الجذابة والذكية.

الهوية أم الراتب
وفي السياق نفسه، أدى تطور نماذج الأعمال والرقمنة إلى تحويل مراكز خدمات الأعمال العالمية إلى ركائز أساسية للمؤسسات الكبيرة، ومع ذلك، أصبح الاحتفاظ بالمواهب أحد أكبر التحديات التي تواجه هذه المراكز في ظل ارتفاع تكاليف العمالة، ودوران الموظفين، ونقص المهارات المتخصصة.
وكشف استطلاع “ديلويت” العالمي لخدمات الأعمال 2025م، أجري على قادة من أكثر من 30 دولة حول العالم، وجُمعت بياناتها على مدى ثماني سنوات، أن %50 من المؤسسات تخطط لتوسيع نطاق خدماتها، لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات كبيرة تتعلق برأس المال البشري، مشيرًا إلى أن المؤسسات تواجه ثلاثة عوائق رئيسة في الحفاظ على فرق عملها، تتضمن ارتفاع معدلات دوران الموظفين، والفجوات بين المهارات المطلوبة والمتاحة، وارتفاع تكاليف العمالة.
ويتفاقم هذا الوضع مع تزايد عدد الشركات المتنافسة على كفاءات مماثلة، لا سيما في مجالات مثل تحليل البيانات، والأتمتة، والتمويل الرقمي، وتجربة العملاء. ففي ظل هذه البيئة، لا يُعد الاحتفاظ بالكفاءات أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل هو أيضًا أمرًا حيويًا لضمان استمرارية العمليات وعائد الاستثمار في التحول الرقمي.
وفيما يتعلق باستراتيجيات الاحتفاظ بالمواهب والكفاءات داخل المؤسسات، أشار الاستطلاع إلى أن مراكز خدمات الأعمال حول العالم تعمل على تطوير استراتيجيات جديدة تُركز على الثقافة التنظيمية، والرفاهية، والتعويض العادل، وتشمل المبادرات الأكثر فعالية: “بناء ثقافة قوية” (%51)، و”مواءمة الأجور مع معايير السوق” (%41)، و”زيادة فرص الرفاهية” (%37)، و”تعزيز هوية صاحب العمل” (%23)، و”التدريب على الأدوات الرقمية” (%21)، وتعكس هذه الأرقام تحولاً كبيرًا في كيفية تعامل الشركات مع ولاء المواهب، فلم يعد الراتب هو العامل الحاسم الوحيد، وبدأت ثقافة الشركة تلعب دورًا محوريًا في قرارات الموظفين بالبقاء أو المغادرة.
وقد خلص استطلاع “ديلويت” إلى أن المنافسة على المواهب ستستمر في الازدياد، لكن الشركات التي تستثمر في الثقافة والرفاهية والقيادة الأصيلة ستكون في وضع أفضل للاحتفاظ بقواها العاملة وتطويرها، مؤكدًا أهمية أن تقوم المؤسسات بمواءمة أهدافها التجارية مع توقعات موظفيها، حيث تكون أكثر استعدادًا لمواجهة التغيرات في بيئة العمل، وترسيخ مكانتها كأصحاب عمل مُفضّلين.

ثقافة السلامة أولاً
ويُعد تعزيز ثقافة السلامة في بيئة العمل من أبرز العوامل التي تساعد على الاحتفاظ بالمواهب والكفاءات، كما أن له تأثير أيضًا على قرارات الالتحاق بالشركات من عدمه، إذ ذكرت مديرة الصحة والسلامة في شركة “إيروتيك” الأمريكية للاستشارات، “ميج أرتيمكو”، أن أصحاب العمل لا يسلطون الضوء دائمًا على ممارسات السلامة لديهم خلال عملية التوظيف، ورغم أن اتجاهات التوظيف الحالية قد لا تكون بنفس جدية السنوات الأخيرة، إلا أن استقطاب أفضل الكفاءات لا يزال أمرًا بالغ الأهمية، مشيرةً إلى أن عديدًا من المتقدمين يُراعون ممارسات السلامة لدى صاحب العمل المُحتمل قبل اتخاذ قرارات التوظيف، وإن معالجة هذه المخاوف خلال عملية التوظيف يُمكن أن تُثير اهتمام الباحثين عن عمل، بالإضافة إلى ذلك، فإن تهيئة بيئة عمل تُعطي سلامة الموظفين الأولوية يُسهم في بناء سمعة إيجابية لدى المتقدمين المُحتملين.
وأضافت أن تحسين وتطوير وسائل نشر ثقافة السلامة من خلال التدريب المنتظم والتواصل المفتوح والالتزام القيادي الواضح، يُمكّن الشركات من تعزيز سمعتها في مجال السلامة بشكلٍ كبير، وهذا النهج الاستباقي لا يمنع الحوادث ويعزز الامتثال فحسب، بل يعزز أيضًا معنويات الموظفين واستبقائهم وإنتاجيتهم، ومع تطور سوق العمل، تزداد أهمية إعطاء الأولوية للسلامة لجذب أفضل الكفاءات والحفاظ على ميزة تنافسية، مشيرةً إلى أن الاستثمار في السلامة لا يقتصر على تخفيف المخاطر فحسب، بل يشمل أيضًا بناء نهج شامل يؤدي في النهاية إلى قوة عاملة أكثر انخراطًا وإنتاجية، مما يعود بالنفع على الموظفين والمؤسسة على حدٍ سواء.

الاحتفاظ بالكفاءات
وفيما يخص الشركات الصغيرة، أوضح مدير تطوير الأعمال في مؤسسة “وان آر دي جي” الأمريكية للاستشارات، “جريج كولين”، أنه منذ جائحة كوفيد، تواجه الشركات الصغيرة تحديات مستمرة في توظيف الموظفين والاحتفاظ بهم، خاصةً مع تغيرت أولويات الموظفين، حيث أصبحت جودة الحياة، وثقافة الشركة، والمرونة أكثر قيمة من مجرد الراتب، وفي الوقت نفسه، تحل القوى العاملة الشابة تدريجيًا محل الجيل الأكبر سنًا المتقاعد، مما يجلب توقعات جديدة.
ففي حين أن الشركات الصغيرة قد تكون أكثر محدودية فيما يمكنها تقديمه من رواتب وأجور، لا يزال هناك عديد من الطرق العملية التي تمكنها من الحفاظ على تنافسيتها في جذب الكفاءات المتميزة والاحتفاظ بها، أهمها تقديم مزايا صحية شاملة والتي لا تعني بالضرورة إرهاق الميزانية، فمن خلال استكشاف حلول أقل شهرة وأكثر فعالية من حيث التكلفة، لا يزال بإمكان الشركات الصغيرة توفير خيارات شاملة للموظفين، من خلال الاستفادة من برامج ومبادرات الرعاية الصحية الموجودة في كافة الدول.
وأكد “كولين” أهمية تعزيز عملية استقطاب الموظفين الجدد، خاصةً أن الانطباعات الأولى أهم مما نظن، وعملية استقطاب الموظفين الجدد يُمكن أن يكون لها تأثير دائم، مشددًا على أهمية إعادة تعريف ثقافة مكان العمل والتطوير المستمر للموظفين.
وأشار الخبير الأمريكي إلى أن مقولة “العمل للعيش، لا العيش للعمل” أصبحت أكثر من مجرد مقولة شائعة بين الباحثين عن عمل اليوم، فبالنسبة للشركات الصغيرة التي تتنافس على استقطاب الكفاءات، يُعدّ تعزيز ثقافة عمل إيجابية وتوفير المرونة من أبرز طرق التميز، كما أصبح توفير مزايا مكتبية إضافية، مثل الصالات الرياضية داخل المكتب، والوجبات الخفيفة أو القهوة المجانية، أو أماكن للاسترخاء، أكثر جاذبية للموظفين، ويمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في شعورهم تجاه العمل.

مواهب الموظفين وتقديرهم
وبالمثل، فإن الاحتفال بالأحداث المهمة، مثل الالتزام بموعد نهائي لمشروع كبير، أو عيد ميلاد، أو الأعياد، يمكن أن يُساعد في تعزيز التواصل ورفع معنويات الفريق، لكن لا يجب أن تكون هذه اللحظات مُبالغًا فيها، فحتى اللفتات الصغيرة لها تأثير كبير، كما أن توفير المرونة في مكان وزمان عمل الموظفين لا يقل أهمية، سواءً كان ذلك السماح لشخص ما بالعمل من المنزل لرعاية طفل، أو تعديل ساعات عمله لتلبية احتياجاته الشخصية، أو التأكد من حصوله على إجازة دون الشعور بالذنب، فإن المرونة تُمكّن الموظفين من إدارة حياتهم دون التضحية بالأداء.
وأوضح “كولين”، أن التوظيف صعب، لكن الاحتفاظ بالموظفين أصعب، فمن أكثر الطرق فعالية للاحتفاظ بالموظفين الاستثمار في نموهم، وقد لا تمتلك الشركات الصغيرة دائمًا مسارات ترقية واضحة، لكن هذا لا يعني أنها لا تستطيع توفير مسارات أخرى لمواصلة النجاح، مشيرًا إلى أن تقديم مهام تطويرية، وبرامج إرشادية، وتدريب متبادل، وغيرها، يمكن أن يساعد الموظفين على اكتساب مهارات جديدة والشعور بمزيد من الانتماء للشركة، علاوةً على التطوير في تصميم المهام الوظيفية، فعلى سبيل المثال، طلب أحد المسؤولين في إحدى الشركات من موظفيه كتابة مواصفات وظيفية مثالية، وقام هذا المسؤول باستخدام آرائهم ودمجها في أدوارهم الفعلية، وهذه فكرة رائعة، وأدى تطبيقها إلى تحسين الأداء، وزيادة المشاركة وديناميكية فريق أقوى، بالنظر إلى أنه عندما يشعر الموظفون بأنهم مسموعون ومُقدّرون، ويستطيعون رؤية مستقبلهم مع الشركة، يزداد احتمال بقائهم فيها.
