الفائدة تقرير

“الفائدة”.. إشارة مرور عالمي!

تبدو الفرصة مناسبة للمنطقة الخليجية لاستغلال بيئة الفائدة المنخفضة في دعم برامج التنويع الاقتصادي، وتوسيع الاستثمارات الاستراتيجية، وتطوير قطاعات المستقبل.

انخفاض جاذبية العائد على الأصول الأمريكية يفتح الباب أمام تحركات مالية كبيرة نحو أسواق ناشئة أو دول تتمتع بفرص نمو أعلى، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على الاقتصادات الخليجية.

 

ليست مجرد أرقام، بل إشارة توجيهية تؤثر على سريان الأموال، وتكلفة الاقتراض، وقرارات الاستثمار، وأيضًا على أسعار الأصول ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم أجمع؛ فعندما يُقرر الفيدرالي الأمريكي خفض الفائدة، يلتقط كل من البنوك والمؤسسات المالية والمستثمرين إشارات تُفيد بأن الاقتصاد الأمريكي ربما يتباطأ، أو أن التضخم تحت السيطرة، أو أن هناك رغبة في دعم النشاط الاقتصادي. وفي تلك الحالات، فإن خفض الفائدة يعني أن الاقتراض أرخص، والشركات قد تنشط، والمستهلكين والأسواق يستجيبون.

ففي ديسمبر عام 2025م، أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، ليصل النطاق المستهدف إلى %3.5 – %3.75، وهو التخفيض الثالث خلال العام الماضي، وذلك استجابةً لتباطؤ التضخم والمخاطر الاقتصادية، مع إشارة إلى احتمال تخفيضات إضافية في 2026م – 2027م، علمًا بأن القرار شهد تصويت ثلاثة أعضاء بالرفض، مما يدل على وجود خلافات داخل اللجنة حول وتيرة الخفض في المستقبل.

وبشكل عام، فإن تحركات الفيدرالي الأمريكي بشأن الفائدة سواء بالتخفيض أو الارتفاع تثير انتباه القوى الاقتصادية العالمية، وتطرح التساؤلات حول كيف سيؤثر هذا القرار على تدفقات الأموال؟ وعلى العملة الأمريكية؟ والتضخم؟ واقتصادات الدول الأخرى، لاسيما الدول التي ترتبط بالدولار.

 

المؤشر الأكثر تأثيرًا في العالم

ويُعدّ قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، واحدًا من أهم التحركات النقدية التي شهدتها الأسواق خلال العام الماضي، ليس فقط لأن الفائدة الأمريكية هي المؤشر الأكثر تأثيرًا في العالم، بل لأن هذا الخفض تحديدًا جاء في لحظة حرجة تتقاطع فيها مخاوف التباطؤ الاقتصادي مع مساعي السيطرة على التضخم، إضافةً إلى توترات جيوسياسية عالمية وتقلبات في حركة رؤوس الأموال.

وبلا شك فإنه عندما يُعلن الفيدرالي الأمريكي خفض الفائدة، يتغير المزاج الاقتصادي العالمي كاملاً؛ فمن ناحية يعيد المستثمرون تحديد اتجاهاتهم، والبنوك حساباتها، ومن ناحية أخرى تربط الدول سياساتها النقدية بشكل مباشر أو غير مباشر بما يحدث في أمريكا، وتبدأ الأسعار في أسواق العملات والسلع تنخفض أو تنتعش وفق ما يراه الفيدرالي مناسبًا لمسار الاقتصاد الأمريكي.

وللإجابة عن سؤال، لماذا خفض الفيدرالي الأمريكي الفائدة؟ ينبغي النظر أولاً إلى الوضع الاقتصادي الأمريكي خلال النصف الثاني من عام 2024م، وبداية عام 2025م؛ حيث واجه الاقتصاد الأمريكي مؤشرات تباطؤ في بعض القطاعات، على رأسها قطاع الإسكان، إلى جانب ضعف نسبي في الطلب الاستهلاكي لاسيما استهلاك الطبقة المتوسطة التي بدأت تشعر بتآكل قوتها الشرائية، وذلك رغم تباطؤ وتيرة التضخم، ومخاوف من أن بيانات الوظائف والإنتاج قد تظل مرتفعة التذبذب بسبب الإغلاق الحكومي وتأخر بعض التقارير الإحصائية.

ومع ذلك، ظل التضخم فوق المستوى المستهدف في بعض من الشهور خلال العام الماضي، مما جعل الفيدرالي في معضلة مستمرة بين التحفيز والسيطرة على الأسعار، وفي نهاية المطاف، اتخذ البنك قرارًا بالتيسير التدريجي بدلاً من التمسك بالمسار المتشدد، وذلك عبر ثلاثة تخفيضات متتالية، كان آخرها الخفض الأخير لشهر ديسمبر 2025م، في محاولة لموازنة مخاطر التباطؤ مع هدف استعادة زخم النمو دون السماح للتضخم بالارتفاع مرة أخرى.

رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) ، جيروم باول

مرحلة إعادة تموضع اقتصادي

ولم يكن هذا الخفض معزولاً عن السياق الدولي، فالعالم يمرّ بمرحلة إعادة تموضع اقتصادي بعد صدمات سنوات ما بعد جائحة كورونا الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

وقد شكَّل تراجع الدولار خلال فترات الخفض جزءًا من هذه الصورة، حيث إن انخفاض جاذبية العائد على الأصول الأمريكية يفتح الباب أمام تحركات مالية كبيرة نحو أسواق ناشئة أو دول تتمتع بفرص نمو أعلى، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على الاقتصادات الخليجية التي ترتبط سياساتها النقدية بشكل وثيق بالدولار الأمريكي.

وبالفعل تأثرت دول الخليج بقرار خفض الفائدة، حيث سارعت البنوك المركزية الخليجية إلى خفض أسعار الفائدة بالمعدل نفسه تقريبًا، فقد خفض البنك المركزي السعودي معدل اتفاقية إعادة الشراء “الريبو” بمقدار 25 نقطة أساس إلى %4.25، كما خفض معدل اتفاقية إعادة الشراء المعاكس “الريبو العكسي” بمقدار 25 نقطة أساس إلى %3.75، وأيضًا خفض مصرف الإمارات المركزي سعر الأساس على تسهيلات الإيداع لليلة واحدة بـ25 نقطة أساس من %3.90 إلى %3.65، كما تحرك مصرف قطر المركزي نحو خفض الفائدة 25 نقطة أساس، حيث أصبح سعر فائدة الإيداع %3.85، كما خفض سعر فائد الإقراض ليصبح %4.35، وسعر إعادة الشراء ليصبح %4.1.

ويبدو أن استجابة دول الخليج لخفض الفائدة جاء في إطار الحفاظ على استقرار أسعار الصرف المرتبطة بالدولار ومنع فجوات في التدفقات النقدية بين الأسواق. ولا شك أن هذا الارتباط النقدي يُعد ميزة من جهة لأنه يمنح الاقتصادات الخليجية استقرارًا ماليًا ويعزز ثقة المستثمرين، لكنه في الوقت نفسه يقيد قدرة هذه الدول على تبني سياسات نقدية مستقلة بالكامل. ومع ذلك، فإن الخفض الحالي للفائدة يأتي في توقيت مناسب للدول الخليجية التي تبنّت خلال الأعوام الأخيرة خططًا واسعة للتنويع الاقتصادي، كما أن خفض تكلفة الاقتراض يساعد في تمويل المشروعات الكبرى التي تشكل العمود الفقري لرؤاها الاقتصادية المستقبلية.

عامل محفز للنشاط الاقتصادي

كما يمكن النظر إلى تأثير الخفض على القطاع المالي الخليجي من زاوية أخرى، باعتباره عاملاً محفزًا للنشاط الاقتصادي في المدى القصير. فتكلفة الاقتراض للأفراد والشركات تتراجع، مما يشجع على توسع الأعمال والاستثمار في قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا، الخدمات اللوجستية، السياحة، الطاقة المتجددة، وغيرها من الأنشطة التي تحظى بدعم حكومي. إلا أن هذا التحفيز يأتي مصحوبًا بمخاطر، فأي زيادة مفرطة في الطلب قد تؤدي إلى ضغوط تضخمية محلية، خاصة أن دول الخليج تعتمد بشكل كبير على الواردات في معظم السلع الأساسية. ولذلك، فإن الفائدة المنخفضة قد تنعش السوق، لكنها قد ترفع الأسعار في الوقت نفسه إذا لم تكن السياسات المالية داعمة للاستقرار.

ولا يمكن تجاهل هنا أن تأثير الخفض على أسواق الأصول، فالفائدة المنخفضة تعيد تشكيل حركة رؤوس الأموال داخل وخارج المنطقة. فقد يزداد الإقبال على الاستثمار في العقار الخليجي أو الأسهم الإقليمية بسبب تراجع العائدات في الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه قد تشهد بعض الأسواق ارتفاعًا في تقييماتها بشكل سريع، وهو ما يتطلب رقابة تنظيمية لمنع تشكل فقاعات مالية. أما أسعار السلع، وعلى رأسها الذهب، فمن المعتاد أن تستفيد من تراجع الفائدة الأمريكية، إذ يبحث المستثمرون عن ملاذات بديلة في ظل انخفاض العائد الحقيقي على السندات الأمريكية، ما قد يرفع الطلب العالمي على الأصول لاسيما الثمينة منها.

تحركات في التجارة العالمية

وفي السياق الدولي الأوسع، ينعكس قرار الفيدرالي على أسعار العملات، إذ يؤدّي الخفض عادة إلى تراجع الدولار، وهذا بدوره يخلق تحركات في التجارة العالمية وفي ميزان المدفوعات للدول التي تعتمد على الدولار سواء في التسعير أو الاحتياطي النقدي. وفي الحالة الخليجية، فإن ضعف الدولار قد يرفع تكلفة الواردات من أوروبا وآسيا، بينما قد يعزز من تنافسية الصادرات المرتبطة بالطاقة، خصوصًا إذا شهد السوق العالمي ارتفاعًا في أسعار النفط أو الغاز خلال الفترة المقبلة.

وعلى الرغم من الإيجابيات التي يأتي بها خفض الفائدة، فإن ثمَّة مجموعة من المخاطر كاحتمال أن يؤدي التوسع الائتماني إلى تضخم مفرط يصعب السيطرة عليه لاحقًا. كما أن الاستناد إلى سياسة نقدية ميسرة لفترة طويلة قد يزيد مستويات الدين الخاص أو الحكومي، مما قد يخلق ضغوطًا مالية مستقبلية. ويتطلب هذا الأمر إدارة حذرة للإنفاق الحكومي ومتابعة صارمة للقطاع المصرفي لتجنب أي تراكم غير محسوب للمخاطر الائتمانية.

وعلى ضوء البيانات فإن السيناريو الأقرب حول مستقبل الفائدة، يشير إلى إمكانية استقرار الفائدة الأمريكية في نطاق منخفض نسبيًا خلال النصف الأول من عام 2026م، لاسيما إذا استمر التضخم في التراجع التدريجي واستعادة الاقتصاد الأمريكي لتوازنه. ومع ذلك، تبقى إمكانية عودة الفيدرالي للرفع واردة بخاصة إذا ظهرت موجة تضخمية جديدة أو حدثت صدمات اقتصادية عالمية، وهو ما يعني أن دول الخليج يجب أن تبقى مستعدة لأي تغيّر مفاجئ في السياسة النقدية العالمية. وبالتالي فإن الفيدرالي يتبع نهجًا أكثر مرونة مما كان عليه في فترات التشديد السابقة، إذ يتحرك وفق ما تقتضيه البيانات وليس وفق مسار ثابت طويل الأمد.

ومن هنا، تبدو الفرصة مناسبة للمنطقة الخليجية لاستغلال بيئة الفائدة المنخفضة في دعم برامج التنويع الاقتصادي، وتوسيع الاستثمارات الاستراتيجية، وتطوير قطاعات المستقبل.

وعلى الحكومات الخليجية أن توازن بين الاستفادة من انخفاض تكلفة الاقتراض وبين الحذر من مخاطر التضخم، وأن تستمر في دعم القطاعات الإنتاجية التي تضيف قيمة للاقتصاد بدلاً من التركيز فقط على الإنفاق الاستهلاكي. كما أن تعزيز مرونة الاقتصاد، سواء عبر توسيع القطاع الخاص أو عبر الاستثمار في التقنية والطاقة المتجددة، سيجعل دول الخليج أقل تأثراً بتقلبات الفائدة الأمريكية مستقبلاً.

وخلاصة القول إن خفض الفائدة الأمريكية لعام 2025م، ليس حدثًا عاديًا، بل محطة اقتصادية ستعيد ترتيب خارطة الاستثمار العالمي، وتمنح دول الخليج فرصة مهمة لالتقاط زخم جديد في مسار التحول الاقتصادي، لكن النجاح في الاستفادة من هذا التحول يتطلب سياسات مالية ونقدية حكيمة، واستثمارًا واعيًا للفرص، وأيضًا استعدادًا دائمًا للتعامل مع عالم اقتصادي يتغير بسرعة أكبر من أي وقت مضى.