ليست الكبسة التي ذهب لها ذهنك عزيزي القارئ، خاصة إذا كنت تقرأ في الظهيرة، حيث ضبطت الساعة البيولوجية لغالبية مواليد السبعينيات والثمانينيات تناولها في هذه «الحزة»، وليست اللمسة المرتبطة بها «رومانسياً» في تلك الحماقة الاجتماعية التي فلسفت رحلة العبور إلى القلب مروراً بالمعدة.
إنها «كبسة» الزر في لوحة المفاتيح أو «لمسة» الشاشة التي غيرت قواعد اللعبة في حياة البشر بشكل عام، وقواعدها في عالم الأعمال بشكل خاص، حيث تركز الحكومات والشركات جهودها على التحوُّل الرقمي في كل شيء في مهمة ليست سهلة خصوصاً في العالم العربي، حيث البنية التحتية أضعف، والبنية «الفكرية» كذلك، حيث إشكالات وتعقيدات أكثر، لكن واقع الحال يقول إنه لا مناص من ذلك حتى لو «شكلياً» كما يحدث في بعض الدول.
تحركات وتحولات يفترض أنها ستؤدي إلى تقليل التكاليف، ورفع مستويات العمل، وتقليص الأيدي العاملة، لكن كل ذلك ليس مضموناً، وبعضه ليس واضحاً، إذ إن كل الحلول الرقمية، والسحابية، وما في حكمها تمتلك تقنياتها وبرمجياتها الشركات العالمية، أو ربما يجدر تسميتها الشركات العملاقة في الغرب والشرق، وهي تبيع ما يساعد على هذه التحولات بأثمان ثبت لدى كثير من الشركات والجهات الحكومية أنها أعلى عندما يتعلق الأمر بهذا الجزء من العالم.
بعض الدول لا تزال بعيدة لجهة التنظيم، أو سن القوانين، فأغلب الدول العربية مثلاً لا تزال تنتظر اعتماد التوقيع الإلكتروني، وبعض الدول لا تدرك إلى اليوم ما هي «لعبة البيانات»، وما هي الإمكانات المتأتية من تحليلها، فضلاً عن استثمار ذلك، بما يعود عليها وعلى اقتصادها بالنفع، خاصة أن لهذه التحولات والرقمنة أثماناً أخرى تُدفع، على رأسها ارتفاع أرقام البطالة، طالما جهات التعليم تعيش على «طمام المرحوم»، وسرعة التغيُّر في مخرجاتها أقل كثيراً من سرعة التغيُّر في العالم، بل حتى أقل من سرعة التغيُّر في العالم العربي، فتنشأ لدينا ازدواجية غريبة ستظهر نتائجها السلبية أكثر مع الوقت، وستكون من مهددات نجاح هذه التحولات التي يعيشها العالم، ولابد أن نعيشها معه، بغض النظر عن السؤال الفلسفي: هل بالفعل لابد أن نعيش كل ما يعيشه العالم؟.
الأحداث تتلاحق في عوالم التقنية، وبالكاد يلتقط الناس أنفاسهم، وبالكاد تتعرف الشركات وبعض الجهات الحكومية على احتياجاتها الحقيقية، وعلى كيفية التفريق بين ما هو لازم لاستمرار الأعمال وتطورها ونموها، وبين ما هو «موضة» ستستهلك سريعاً وسيأتي بعدها غيرها، لكن التسويق العالمي، والسطوة الإعلامية لبعض الشركات والتكتلات العالمية، إضافة إلى «هوس» بعض مسؤولي التقنية في الجهات والشركات وعلاقاتهم الشخصية، وربما حتى الصورة الذهنية عنهم شخصياً تجعلهم في سباقات محمومة أحياناً لنيل كل ما هو جديد، حتى لو لم يكن ضرورياً في بنية وتطور أعمالهم في هذا المجال، وليس له التأثير الذي يمكن ذكره على سيرهم في هذا الاتجاه.
تبدو التقنية أحياناً كالزواج في نظر بعض الرجال، «شر لا بد منه»، وهي في الحقيقة ـ وربما كالزواج أيضاً ـ خير لمن يعرف كيف يؤسسها، ويتبادل معها المنافع بدون إفراط ولا تفريط.
المهم في هذه القصة ذات التفاصيل الكثيرة أن من ينتج التقنية يعرف إلى أين هو ذاهب، وإلى أين ستوصله، ومتى ستنتهي أهميتها أو صلاحيتها، وهي النقاط التي تغيب عن مستهلكها، ولذا فاليد «العليا» هنا لشركات التقنية، وهي دائماً كذلك لمن ينتج.
كبسة الزر أو لمسة الشاشة هي في الحقيقة «فعل» يروم الوصول للأفضل في قطاعات الحكومة والأعمال، لكن من يحرك هذه الأفعال، ويتحكم في أوقاتها والعوائد منها، هم من ينتجون التقنية، وسيكون على من يريد التفوق وقيادة الأمم اقتصادياً أن يكون هو من يقرر «كبسات» و«لمسات» الناس وعلاقاتهم بالتقنية.