الأرجنتين ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية بعد البرازيل، ودولة من مجموعة العشرين مع ناتج محلي أكبر من 500 مليار دولار، ومن المؤسف أن تصل الأوضاع إلى هذه المرحلة في كل مرة، حتى أصبح يضرب بها المثل لدولة يحصل معها التعثر، خصوصاً أن الشعب الأرجنتيني ما زال يتذكر أزمة 2001 وتداعياتها وأبرزها وأخطر شيء فيها كان هناك 5 رؤساء للبلد في أسبوعين، نعم فقط أسبوعين! إن كان بسبب التنحية أو العزل أو الإنابة.
الأرجنتين لها تاريخ طويل مع الأزمات المالية، مثل التعثر في السداد، والانهيارات في عملتها، وأسواقها وسنداتها، إضافة إلى العلاقة القديمة مع البنك الدولي، والذي رافق البلد في جميع محطات أزماته وأصبح معروفاً من قبل جميع فئات الشعب هناك، حتى أن قسماً كبيراً منهم ما إن يسمع اسم الصندوق حتى يشعر أن الوضع سيء حالياً في البلد، ويتبادر إلى ذهنه فوراً الأزمات السابقة والتداعيات التي حصلت.
عند أية أزمة تشهدها الأرجنتين، نلاحظ أن العملة تنزلق بشكل دراماتيكي، ومن السهل أن تفقد نصف قيمتها في جلسات قليلة، أو يتبقى منها ربع قيمتها، وهذا مؤشر خطير وغريب، لأنه حصل ذلك عدة مرات، والأغرب من ذلك، تعامل الشعب هناك مع الحدث بطريقة لن أقول عادية بل كأنه يترقب ذلك، وأنه من فترة إلى أخرى سيمر البلد بهذا الحدث، وبالتالي أصبح الحدث متوقعاً دائماً ونسبة حصوله مرتفعة بشكل ملحوظ.
عندما تتراجع العملة في دول الاقتصادات المتقدمة لا يحصل هذا النوع من الهلع والخوف،
التي تشهده الدول الناشئة، فمثلاً بعد نتائج تصويت بريكست تراجع الجنيه الإسترليني %15 في ساعات. هل حصل انهيار في بريطانيا؟ هل خرجت الأموال الأجنبية فوراً؟ هل تهافت البريطانيون على استبدال عملتهم؟ هل أعلنوا إجراءات استثنائية من أجل وقف التراجع على العملة. لا لم يحصل ذلك على الإطلاق.
مثال آخر في منطقة اليورو، عندما تراجعت العملة الموحدة إلى مستويات 1.04 دولار سابقاً، متراجعاً من 1.25، وكان هناك أيضاً حديث كثير من المحللين عن تعادل اليورو مع الدولار. ماذا حصل؟ هل تفككت منطقة اليورو؟ لا، السؤال لماذا رأس المال لم يكن جباناً في هذه الحالة؟ هذا هو الفارق بين عملة دولة متقدمة وعملة دولة ناشئة.
العملة هي أخطر سلاح ممكن يهدد الدولة، ويقضي عليها اقتصادياً، وفي الدول الناشئة احتياطيات الدول من العملات الأجنبية يلعب دوراً مهماً في الدفاع عن سعر الصرف والسيطرة على الطلب الذي يأتي على الدولار، وبالتالي التهدئة والعمل على استقرار معدل الصرف. السياسة تلعب دوراً مهماً وأساسياً في ذلك، خصوصاً في دولة مثل الأرجنتين التي تتداخل السياسة والأحزاب مع الاقتصاد منذ عشرات السنين، وبالتالي أي اضطراب سياسي يصبح فوراً المؤثر الأول على معدل صرف عملة البلد. ردة الفعل الأولى تكون «خوف الأجانب» وخروج الأموال إلى بلدان أكثر استقراراً. أما داخلياً البعض يحول المدخرات إلى الدولار على الأقل للحفاظ على قيمتها.
هناك بلدان لا يصلح فيها أن يكون معدل الصرف تبعاً لحركة العرض والطلب، وتثبيت العملة يكون طبعاً أفضل بكثير مهما كانت كلفة هذا التثبيت عالية، لأن ذلك يعتمد على حالة كل دولة على حدة، خصوصاً أن الأخبار السيئة تطغى بقوة، وبالتالي ستحصل انهيارات في سعر العملة وستتدهور تباعاً وبالتالي ستكون هناك تداعيات خطيرة تهدد الاقتصاد على كل الجبهات، ولن تستطيع الدولة بشكل مؤكد السيطرة على الأوضاع، لذلك من الأفضل أن يكون التثبيت هو الخيار الوحيد وتجنب انهيار البلد.
رئيس الأرجنتين ماوريسيو ماكري كان أيضاً رئيس أشهر فريق أرجنتيني وهو بوكا جونيور الذي لعب معه النجم دييغو مارادونا في بداياته، وبما أن ماكري هو رجل أعمال أنفق عليه أموالاً طائلة والمفروض أن الكرة علمته اللعب الجماعي ولكن في السياسة فشل في ذلك، قام إلى الآن بتغيير ثلاثة وزراء مالية وثلاثة حكام للبنك المركزي للسيطرة على التداعيات في كل مرة وللمفارقة، هو أيضاً متزوج للمرة الثالثة. أما مهنته الأساسية قبل دخول عالم السياسة فهي كانت في مجال الهندسة والمشروعات وبالتالي فهو مهندس مدني.
الانتخابات والشعبوية تؤثر بقوة على الشعب الأرجنتيني الذي ليس عنده مشكلة أن يصوت ضد الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز والتي تمثل خط «البيرونية» نسبة إلى خوان وإيفيتا بيرون، ثم يدعمها مرة جديدة للمجيء إلى السلطة حتى لو في منصب نائب الرئيس، ودائماً ما تكون العناوين مرتبطة بصندوق النقد الدولي، والتدخل في سياسة الاقتصاد، ويكون هذا العامل هو الذي يحقق الفوز ويغير المعادلة. وفي المقابل لا يكتفي فقط الشعب بالرد في صناديق الاقتراع بل يكون هنالك رد كبير في أسواق المال، فمثلاً العملة والأسهم والسندات تترنح وعوائد السندات والتصنيفات الائتمانية تهوي وتتراجع، وفي المقابل تكلفة التأمين على الديون السيادية وعوائد السندات تحلق. العامل المهم في الموضوع أن معظم الدين بالعملة الأجنبية، وتزداد صعوبة تسديده كلما هبطت عملتهم.