شارك في تحديث مجلة “الاقتصاد” وساهم في باب “رجل وزمان” وأسهم في اقتراح شخصياته
بائع التمور في عنيزة الذي أصبحَ مدير التليفزيون السعودي وحاز من الملك سلمان 2017 وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى
حصل على الماجستير 1969 والدكتوراه في الإعلام 1971 وعاد إلى المملكة ليثري الحركة الثقافية والإعلامية السعودية
كيف شكل انتقاله من عنيزة إلى الرياض نقطة تحول في حياته؟
ما لا يعرفه أكثرُ قرائنا عن الراحل الكبير عبدالرحمن صالح الشبيلي، علاقتُه الوطيدة والقوية بمجلة “الاقتصاد”.. فعلى الرغم من ظروفه العملية وارتباطاته آنذاك، إلا أنه أصرّ على حضور اليوبيل الذهبي للمجلة.. هو كان “حاضراً” ــ وسيبقى ــ في الفيلم التسجيلي “الوثائقي” عن المجلة، والذي عُرضَ في الاحتفال الذي أقامته غرفة الشرقية، بمناسبة مرور خمسين عاما على صدور أول عدد من مجلتها، وأول إصداراتها الصحفية، لكنه كان سعيداً جداً، وعبّر عن فرَح غامر، عندما اتّصل به رئيس تحرير “الاقتصاد” يُحدّثه عن أبرز فقرات الحفل الذي أقيم احتفاءً بالمجلة التي شارك مرات في تطويرها، كلما دعاه الدّاعي إلى المشاركة، وكان مُساهما فاعلاً في عملية تحديثها الأخيرة، خصوصاً في باب “رجل وزمان”، وكان مُتابعاً لأعداد المجلة، مُشاركا بالرأي الصائب والسّديد في اقتراح الكثير من الشخصيات التي تركت بصمة في هذا الوطن المعطاء ، كما كان حريصاً على متابعة “الباب” الذي أعطاه من فكره وإبداعه، ووضع فيه ملامحَ من تصوره لما ينبغي أن يكون عليه “فن” كتابة السيرة التي تتناول الرجال، واقترح الكثير من شخصيات “رجل وزمان”، والعديد من موضوعاته.. تشهد على فرحته باليوبيل الذهبي لـ “الاقتصاد” تلك الحيوية التي بدا عليها ــ رحمه الله رحمة واسعة ــ في الاحتفال الذي أقيم بالمناسبة، وذلك “الحضور” اللافت في أحاديثه وحواراته مع الجميع.. الإعلامي الكبير، والأكاديمي الشهير كان أحد الجنود المجهولين في حياة مجلة “الاقتصاد”، وذلك ملمح من ملامحه التي لم يعرفْها أحد..
كان مخزناً للفكر المتجدد، والتطوير الذي لم يتوقف، ومثالاً في النزاهة والإخلاص في العمل، ونموذجاً في العصامية.. مسيرته عبق أصيل ورحلة حياته عمق نبيل، وحكايته هي حكاية وطن وسيرته جزء من مسيرة التطوير التنموية في المملكة، وترك بصماته الخالدة بما ملكه من فكر ومعارف وتجربة، وما شكله حضوره من ثقل في الساحة الثقافية والإعلامية، عبر سنوات طويلة من العطاء الممتد.
متعدد المواهب والاهتمامات.. كان إعلاميا بارزاً وأحد الرواد في مجاله لإسهاماته السباقة والتي سبق بها عصره في خدمة الثقافة والإعلام خصوصاً إسهاماته البارزة في تطوير الإعلام المرئي والمسموع في المملكة، وكان أكاديمياً ناجحاً نال حب واحترام تلامذته، وكان إعلامياً ضالعاً في اللغة، وعاشقاً لصناعة الكلمة والسرد الفني، عرف سر انتقاء الكلمات والعبارات في أسلوب رشيق وسلس، وكان كاتباً حصيفاً ورصيناً مهتماً بكتابة السيّر ومؤرخاً للصحافة والإعلام، ترك خلفه العديد من المؤلفات القيمة والثمينة.
وعلى مستوى شخصيته المتفردة، كان صاحب أخلاق نادرة وخصال نبيلة وسجايا كريمة، وكان شخصية محبوبة نال احترام كل من عرفه او سمع به، وشخصية مؤثرة في محيطها الاجتماعي والثقافي والإعلامي والإداري.. وراء كل نجاح قصة كفاح وطموح وعمل دؤوب ومخلص، وهو ما يتجسد في سيرة الراحل الدكتور عبد الرحمن بن صالح الشبيلي رحمه الله الذي أعطى الإعلام أغلى أيام عمره، وصفوة أفكاره، وخلاصة تجاربه.
الميلاد والنشأة
ولد الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مدينة عنيزة بالقصيم، أواخر عام 1363هـ 1944م، في أسرة مستورة الحال، شقيقاً لثلاثة إخوة وأربع أخوات، كان والدهم طالب علم وشاعراً، ارتبط كثيراً بشيخ المدينة ذائع الصيت عبدالرحمن السعدي وأقرانه في حينه، له محل بسيط لبيع الحبوب والتمور، جرّب السفر إلى الهند فترة قصيرة مثل عديدين من جيله.
وألحق الأبوان طفلهما بالابتدائيّة في سنّ الخامسة، وبدأت حياته وبصورة مبكرة تميل للجدية والطموح، لكن الأبواب بدت موصدة من كل الاتجاهات الماديّة والتعليميّة والأسرية. وببلوغ العاشرة من العمر، فُتح في عنيزة أحد المعاهد العلميّة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، فرغب والده أن يلتحق به، وكان المعهد يخصّص مكافأة شهريّة قيمتها 80 ريالاً لطلابه.
وكان هذا التحوّل قد غيّر مجرى حياته التعليميّة، فلقد استمر في هذا المعهد حتى أنهى كليّة اللغة العربيّة بالرياض، وكان أهم مكسب من هذا التحوّل الإلمام بقدر من العلوم الشرعيّة والعربيّة، والذي شكّل أساساً مهمّاً لحياته العامة، وفي نشاطه الإعلامي والثقافي اللاحق.
الانتقال إلى الرياض
ثم شكل انتقاله من مسقط رأسه إلى الرياض منعطفاً مهماً في حياته، واستطاع ان يواصل تعليمه، وفي بداية دراسته في الرياض عام 1379هـ/1959م بدأ يشعر بنبض طموحه، ويحس بالرغبة في تغيير مجرى دراسته، من غير أن يخسر سنوات دراسته السابقة، فقرر أن يجمع بين دراستين؛ نهاريّة في كليّة اللغة العربيّة، ومسائيّة تمنح الكفاءة والثانويّة.
وجمع بين الدراسة في جامعة الملك سعود وكليّة اللغة العربيّة، مع تنسيق مواعيدها وامتحاناتها. وفي بداية عام 1383هـ / 1963م تخرّج من هذه الكلّية، منتظراً تعيينه في أحد المعاهد، علّ الرياض تكون من نصيبه ليتسنّى له إكمال السنتين المتبقّيتين عليه في كليّة الآداب.
هنا جاءت صدفة لم يكن يتوقّعها، فوزارة الإعلام حديثة التكوين في ذلك العام في جدّة، وجّهت دعوة لكلّيته لاختيار خرّيجين يجيدون اللغة العربيّة تستثمرهم للعمل الإعلامي، وكان ترتيبه عند التخرّج هو المطلوب للترشيح، وشاء الله أن يختار له الإعلام مهنةً ثم تخصّصاً للدراسات العليا، في تحوّل غيّر مجرى حياته في اتّجاه آخر.
مع صعوبتهما قرر أن يجمع بين دراستين نهاريّة في كليّة اللغة العربيّة ومسائيّة تمنح الكفاءة والثانويّة ونجح في التحدّي
أسهم في تأسيس إذاعة وتلفزيون الرياض 1965 وتولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية ومجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر وعمل مديرا عاما للتليفزيون ووكيلاً لوزارة الإعلام
عمل إعلامياً 14 عاماً جمع بين الإدارة والتخطيط وإنتاج أربعة برامج وثائقيّة وأكاديميا 17 عاماً بالتدريس وعضوا بمجالس إدارة الجامعة وشارك في وضع اللوائح التعليمية وترأس لجانا مركزيّة
الولوج إلى العمل الإعلامي
باشر الشبيلي عمله في إذاعة جدة عام 1383هـ / 1963م قبل عام من افتتاح إذاعة الرياض، لكن قلبه ظل معلّقاً بإكمال عامين باقيين له في جامعة الملك سعود، فتقدم بطلب إلى إدارة الإذاعة لنقله إلى الرياض، للعمل مع فريق التحضير لافتتاحها.
وفي أثناء عمله القصير في الإذاعة، عاش تجربة تأسيس إذاعة الرياض بكل ظروفها، ثم انتقل إلى التلفزيون، وسعى بعد عامين للدراسات العليا. وأمضى في العمل الإعلامي التنفيذي أربعة عشر عاماً، جمع فيها بين العمل الإداري والتخطيطي وإنتاج أربعة برامج وثائقيّة خاصة به، وحاز في أثنائها شهادتي الماجستير والدكتوراه.
أول سعودي ينال الدكتوراه في الإعلام
ابتعث إلى الولايات المتحدة الامريكية ليكمل دراسته، وحصل على الماجستير في الإعلام عام 1969م من جامعة كنساس في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم حصل على الدكتوراه في الإعلام من جامعة أوهايو في عام 1971م، لينال الشرف باعتباره أول سعودي يحصل على الدكتوراه في الإعلام، وعاد إلى المملكة ليثري الحركة الثقافية والإعلامية فيها.
أستاذاً اكاديمياً
وشارك الشبيلي في العمل الاكاديمي بصورة فاعلة عبر التدريس لسنوات في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود، ثم أصبح وكيلاً للوزارة لشؤون الجامعات، عاصر فيها كلاً من الشيخ حسن آل الشيخ ود.عبدالعزيز الخويطر ود.خالد العنقري.
وسار في الوسط الأكاديمي سبعة عشر عاماً، أسهم فيها إلى جانب التدريس، في عضويّة مجالس إدارة الجامعة، وتعامل فيها مع معادلة الشهادات الأجنبيّة، وشارك في وضع اللوائح والقضايا التعليمية المشتركة، وترأس بعض اللجان المركزيّة في الوزارة، واللجان الجامعيّة.
العمل التليفزيوني
تعددت اهتمامات الشبيلي بين الكتابة الصحافية التي بدأها بالمقالة الأسبوعية، ثم المقالة الدورية المتعمقة، ومن ثم تطوير الأفكار لتتحول إلى بحوث متخصصة ودراسات ومحاضرات، فضلاً عما قدمه من البرامج التلفزيونية والإذاعية، لكن التلفزيون كان شغفه الجميل بامتياز.
كان تخرج الشبيلي في كلية الآداب قسم الّلغة العربيّة سلماً إلى عالم الإذاعة ثم الإعلام المرئي والمكتوب، ليعرفه كل الشعب السعودي من خلال شاشة التليفزيون التي يطل منها كمقدم برامج، ليصبح أحد رواد الإعلام المرئي في المملكة، لما قدمه وساهم به في بداية تأسيس التلفزيون، بالإضافة إلى إسهامه في تأسيس عدد من المؤسسات الإعلامية السعودية على أسس علمية ومهنية راسخة.
وأسهم الشبيلي في تأسيس إذاعة وتلفزيون الرياض سنة 1965م، كما تولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية ومجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر، وأيضًا تولى منصب مدير عام التلفزيون، كما شغل منصب وكيل وزارة الإعلام.
وبعد التحاقه بالتلفزيون ومعاصرته لمرحلة النشأة والتأسيس والتطوير للجهاز، ختم الشبيلي عمله في التلفزيون بتولي إدارته كمدير عام التلفزيون عام 1971، ويذكر الشبيلي بفخر أنه أول من أضاف في الإذاعة دعاء “اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة” بعد بث أذان الحرم، ولا يزال يُقرأ منذ الستينيات وحتى اليوم.
أضاف إلى الإذاعة دعاء “اللهمّ رَبّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة” بعد بث أذان الحرم منذ الستينيات إلى اليوم
مؤرخ الصحافة السعودية وأثرى المكتبة العربية بـ 55 مؤلفاً متنوعاً في السيّر والتراجم وتاريخ الصحافة والإعلام
14 عاماً في وزارة الإعلام و17 بوزارة التعليم العالي و12 في مجلس الشورى و12 عاماً في النشاط الثقافي والاجتماعي إضافة إلى عضويته في المجلس الأعلى للإعلام
ويذكر ايضاً انه تولى مهمّة تسجيل خطاب العرش بعد العصر في قصر الملك فيصل بالمعذر في 27 من شهر جمادى الآخرة سنة 1384 بحضور الأمير سلطان، والشّيخ محمّد النّويصر، ود. رشاد فرعون، ود. كنعان الخطيب، ثمّ طار إلى جدّة لإذاعته ليلًا مع نشرة الأخبار.
وبعد رحلته المهنية والإدارية المعطاءة في التلفزيون، عاد إلى رحاب الجامعة أستاذاً في مجال الإعلام، ثم اتجه إلى الإدارة التعليمية كوكيل لوزارة التعليم العالي في بداية تأسيسها مع الراحل حسين بن عبد الله آل الشيخ.
الحس الإعلامي المتفرد
عشق الشبيلي الإعلام وأحبه واعتكف في عالمه، وسبر أغوار الأفق الإعلامي بدراية وخبرة وإتقان، وارتبط اسمه بمسيرة الإعلام في المملكة، فلا يُذكر الإعلام السعودي إلا ويُذكر عبد الرحمن الشبيلي لما ساهم به في تطوير الإعلام السعودي، لاسيما الإعلام المرئي في بداية تأسيس التلفزيون في الرياض.
وتميز الشبيلي بالمهارة والإتقان في العمل الإعلامي لما يتمتع به من حس إعلامي دقيق ومرهف، وتعددت مهاراته بين السرد الإعلامي الذكي، والقدرة على الطرح الإعلامي الرصين ومعالجة المشاكل بجرأة متوازنة وعقلانية، وشارك زملاءه العمل كمذيع ومعد للأخبار، ومدير لندوات تلفزيونية، ومنسق للبرامج.
وجمع الشبيلي بين الاحتراف المهني في الإعلام وخبراته في حقل التعليم ومعرفته بالمنهجية الأكاديمية ليجعل للإعلام ومضامينه رسالة فكرية وثقافية تساهم في تطوير وتنوير المجتمع وفي الدفع بالعجلة التنموية والحركة الثقافية في البلاد.
كاتباً ومؤرخاً
للدكتور عبد الرحمن الشبيلي إنتاج ثقافي وعلمي كبير، وثق خلاله مقالات ومقابلات، والعديد من البحوث والدراسات، وأثرى المكتبة العربية من خلال تجربته التأليفية بـ 55 مؤلفاً متنوعاً معظمها في مجال كتابة السيّر والتراجم للعديد من الشخصيات المؤثرة في المجتمع، وجزء منها في تاريخ الصحافة والإعلام مما يجعله مؤرخ الصحافة السعودية، ومن أهم هذه المؤلفات (نحو إعلام أفضل)، و (إعلام و أعلام)، (صالح العبد الله الشبيلي – حياته وشعره)، (الإعلام في المملكة العربية السعودية – دراسة توثيقية)، (محمد بن جبير)، (صفحات وثائقية من تاريخ الإعلام في المملكة العربية السعودية)، (الملك عبدالعزيز والإعلام)، (الأمير مساعد بن عبد الرحمن آل سعود)، (أعلام بلا إعلام)، (خالد بن عبدالرحمن السديري)، (الشيخ عبدالله بن خميس)، (عنيزة وأهلها)، (تراث حمد الجاسر)، (إبراهيم العنقري)، (محمد الحمد الشبيلي)، (محمد أسد هبة الإسلام لأوروبا)، (سوائح وأقلام في السياسة والثقافة والإعلام)، (الملك فيصل بن عبدالعزيز).
تجربة الشوري والتقاعد
وبعد تجربته في الإعلام والتعليم العالي عن طريق الصدف، سارت الرياح بقاربه إلى مجلس الشورى في بداية تكوينه، اكتسب فيها خبرات ثمينة؛ قانونيّة وشوريّة وبرلمانيّة، لا تتوافر في محيط آخر، وعاصر فيها فترة تأسيس المجلس في عهد رئيسيه الشيخ محمد بن جبير ود.صالح بن حميد.
ويمكن وصف مرحلة الشورى، التي انشغل فيها باجتماعات المجلس وأعمال لجانه، بأنها كانت محطّة هادئة، مهّدت للانتقال إلى حقبة تقاعديّة متدرّجة منسابة، أدخلته بعد اثني عشر عاماً من عضويّة المجلس، إلى العمل التطوّعي في جهات ثقافيّة خيريّة عدة، والانشغال في العمل الثقافي.
الشبيلي الإنسان
الحديث عن الخصال الحميدة والسجايا النادرة والفضائل الإنسانية التي تميز بها الدكتور عبد الرحمن الشبيلي حديث لا ينتهي، وليس من السهل إعطاؤه حقه، وقد كتب عنه نخبة من المثقفين والإعلاميين والمسؤولين في وصف دماثة خلقه وطيب معشره، وصدق مشاعره، وهو ما اكسبه حب الناس من كل المدن والمناطق ومن مختلف التيارات والمدارس الفكرية والإعلامية.
وهو كما يصفه من عرفوه، كان إنساناً رقيقاً يميل للصمت والهدوء والصفاء وعفة اللسان، ويعكس بهاء الخلق وحسن السمت، وترتسم فيه قيماً من المشاعر الفياضة، ورجاحة عقل، ورزانة منطق، وسداد في الرأي، وصدق في القول والفعل لا يقبل الزيف.
يميل للتوافق ويحاذر الاقتراب مما يثير الخلافات ويعمق الخصومات، وتميز في ممارسته لمهنة المتاعب بالقدرة على انتقاد العيوب وإيصال المعلومة بقلم المخلص وعين البصير، بعيداً عن المبالغة والتطرف في الرأي، وبدون الدخول في مصادمات او أي نوع من الجدال والسجال الإعلامي.
حياة حافلة ووسام الملك
لم تكن حياة الشبيلي المهنية ولنصف قرن من الزمان عادية، بل كانت مختلفة وحافلة بالتجارب منذ ولادته حتى وفاته، فقد بدأت حياته من بائع التمور في بلدته الى مدير التليفزيون السعودي، وحاز العام 2017 على أعلى تقدير في بلاده، عندما قلده العاهل السعودي الملك سلمان، وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى.
حيث قضى – كما يخبرنا هو- 14 عاماً في وزارة الإعلام، 17 عاماً في وزارة التعليم العالي، 12 عاماً في مجلس الشورى و12 عاماً في النشاط الثقافي الاجتماعي حتى وافته المنية، بالإضافة إلى عضويته في المجلس الأعلى للإعلام.
دَوّنَ ذكرياته ثم رحل
في نوفمبر 2018 وقبل وفاته بحوالي ثمانية أشهر، صدرت الطبعة الأولى من السيرة الذاتية للدكتور عبدالرحمن الشبيلي بعنوان «مَشَيْناها… حكايات ذات»، ووثّق فيها سيرته العريقة والأنيقة، ويروي من خلالها حكايات الذات الأنيقة التي عاشها، وتجاربه التي مر بها منذ طفولته.
الرحيل المؤلم
عندما اختطف الموت الشبيلي في باريس في يوم الثلاثاء 30 يوليو 2019، كان رحيله صدمة موجعة ليس لأهله وذويه وأصدقائه ومعارفه فحسب، بل لكل من سمع عنه وعن سيرته المتفردة، وهي سيرة تنبض بالنبل والخلق الطيب واللطف والتواضع والعطاء والادب والإبداع الثقافي والفكر المتجدد والإخلاص للوطن.
لقد رحل طيب السيرة بعد أن أفني عمره في أداء رسالته وخدمة وطنه وقيادته بتفانٍ وإخلاص، لكنه خلف ذكرى عطرة ومشرقة، وتجارب ملهمة وإنجازات ثقافية وإعلامية وأكاديمية وعلمية لا تكاد تحصى، وستظل هذه التجارب والإرث الثقافي بلا شك مرجعاً للباحثين ونبراساً للإعلاميين وقدوة يحتذي بها الجيل الجديد من النشء وجموع المواطنين.
في وداع أبي طلال.. مُحبّوك كانوا هناك!
هو ــ بحق، وفيما قَلّ ودَلّ ــ كما وصفه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للفضاء مؤسس ورئيس مؤسسة التراث الخيرية (وطني مخلص لثقافة وتاريخ بلاده طوال حياته، وإعلامي متميز أثرى الساحة الثقافية والإعلامية، وإضافة إلى ما عرف عنه من اهتمام بالتراث الوطني، فهو موثق للتاريخ الشفهي للمملكة).
لقد كان الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، رحمه الله، أحد “التنويريين” الرواد من أبناء المملكة، ذلك الجيل الذي أخذ على عاتقه “ترسيخ” الثقافة الوطنية، ونشرها، وتعميقها بين أبناء المملكة، كما أخذ على عاتقه إحياء التراث الوطني، وتاريخ المملكة بين الأجيال الجديدة من السعوديين.
الأمير سلطان يضيف أيضا: “سمعت من سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – يحفظه الله- ثناءه على الدكتور عبدالرحمن، ووصفه للراحل بأنه من رجال الدولة المخلصين، ورأيته منذ وقت مبكر حاضراً في مجلس الملك سلمان، ولم أره يوماً في غير حضور ذهني ملفت وأدب في الحوار وعناية بالمظهر والمخبر حتى بات يعرف به بين عامة الناس”.
جمع الأمير سلطان بن سلمان أبرز ملامح الراحل الكبير، وأهم سمات شخصيته الفذّة، في كلمات قليلة، كما قدم لنا رأيَ خادم الحرمين الشريفين ورؤيتَه لأبناء الوطن المخلصين، ممثّلة في عبدالرحمن الشبيلي.. ولذلك كله، ولسمات وخصائص وخصال الراحل الكبير، استحق حب الجميع، وأجمع الكل على احترامه وتقديره، ونظر الجميع إليه من زوايا متعدّدة، لنرى كم كان عبدالرحمن الشبيلي مُخلصا لوطنه، مُخلصا لقيادة بلاده، مُحبا لأبناء هذا الوطن، حريصا على “هويّته” وثقافته الوطنية.
من هنا، استحق محبة الجميع وتقديرهم لإخلاصه وعطائه لوطنه، واحترام مسيرة كفاحه ونجاحه في كافة المجالات التي أبلى فيها بلاء حسنا.
كان الشبيلي مدرسة إعلامية وعلامة فارقة في تاريخ الإعلام السعودي، كما كان علامة مهمة في التأريخ للإعلام السعودي، وتوثيق محطاته المختلفة، إذ ساهم خلال نصف قرن في تأسيس صناعة الإعلام في السعودية، مساهما في إنشاء الإذاعة والتليفزيون، ولم يقتصر عطاؤه على ذلك، بل كان إعلاميا “في الميدان”، نزل إلى العمل في أرض التليفزيون، وقدم الكثير من البرامج التي استحوذت على إعجاب مشاهدي التليفزيون، ومستمعي الإذاعة، وحظيت كلها ــ على تنوع مجالاتها، وتعدد ثقافات جمهورها، وتباين أذواقهم وميولهم ــ بإعجاب الجميع.
أثرى الدكتور الشبيلي بعمله المنتظم المشهد الثقافي والإعلامي، وأولى التوثيق عناية خاصة، وبرع منذ بدايات اشتغاله بالعمل التليفزيوني في الشهادات الشفاهية وتدوين التاريخ باستنطاق شهوده، وترك لأجيال ممتدة من السعوديين إرثا كبيرا مما قام به في توثيق صفحات من تاريخ بلاده، كما ترك للجميع إرثاً عظيماً من لقاءاته مع قادة الدولة ورجالاتها.
فقد أجرى الكثير من اللقاءات والمقابلات والأحاديث، على رأسها: مقابلات تلفزيونية نادرة مع كبار قادة البلاد الذين أسهموا في بناء البلاد، ومع شخصيات رفيعة المستوى ساهمت في تأسيس المملكة، فحاور الأمير “الملك” فهد بن عبدالعزيز، والأمير نايف بن عبدالعزيز، والأمير “الملك” سلمان بن عبدالعزيز، وغيرهم كثير.
كانت برامجه التليفزيونية من أكثر البرامج التليفزيونية شُهرة، وأكثرَها استحواذا على اهتمام المشاهدين، وسجّلت نسبة عالية من المشاهدة والإقبال الجماهيري الواسع، ومن أكثرها بقاء إلى اليوم في ذاكرة المشاهدين، لقاؤه التليفزيوني بالملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، مروراً بلقاءات مهمة في برنامجه “شريط الذكريات” مع الأمير مساعد بن عبدالرحمن وسعود بن هذلول ومع الأمير خالد بن أحمد السديري رحمهم الله وغيرهم الكثير.
ولما ترجل عن العمل الحكومي، تفرغ لتوثيق سير أعلام الإعلام، فكتب ما يزيد على خمسين كتاباً، ختمها بتوثيق سيرته الذاتية، قبيل أشهر من رحيله، بكتاب «مشيناها.. حكايات ذات».
كان الراحل الكبير أحد أبرز موثقي الإعلام، ويرى كثير من زملائه الإعلاميين والأكاديميين وتلامذته في المجالين أنه رحمه الله نذر عمره لخدمة الإعلام السعودي، ومفاصل التنمية والثقافة بالمملكة العربية السعودية.
رحم الله أبا طلال.
كان اللغويُّ المتمكِّنُ والإعلاميُّ الشَّهير، والمقالي الهادفُ، والمؤرخُ الراصدُ، والوطنيُّ المخلصُ، وهو حصيلةُ موهبةٍ أصيلةٍ وطموحٍ علميٍّ وأدبٍ معرفيٍّ وخبرةٍ حياتيِّةٍ مليئة بالتجارب الغنية.
ولعل من الصَّعب أنْ نختزلَ كلَّ مناقبِ الفقيدِ، مهما حاولنا، فهو رائدٌ في كلِّ المجالاتِ، زاخرُ العطاءاتِ، متنوِّعُ الإبداعات، عالجَ قضايا الإنسان من منطلق الوطنيِّة والإيمان.
ولا يختلف اثنان ممن عرفوه على أن الراحل الكبير قد اجتمعت فيه صفات قلما تجتمع في إنسان: دماثة الخلق، والتواضع، ونظافة اللسان، والثقافة الواسعة، وسرعة الاندماج مع الآخرين وخدمتهم ومجاملتهم، حتى إن كان ذلك على حساب وقته وصحته.
ويرى كبار مفكرينا ومثقفينا وأدبائنا وإعلاميينا ــ يشاركهم الرأي كبار الأكاديميين الذين عرفوه ــ أنه رحمه الله كان مدرسة بأخلاقه ونبله وتواضعه الجم، وكان لطيفاً متواضعاً شديد الإصغاء لا يقطع حديث محدثه، يجذب محدثه بحسن سماعه ولا يتكلم إلا إذا إنتهى محدثه من حديثه، كما كان بشوشاً في حديثه صاحب طرفة نادرة.
وفي رثائه، كتب كبار المفكرين والأكاديميين والإعلاميين والمثقفين السعوديين: طُوبَى لأبي طلال، ألَّف وصنَّف وبحثَ ودقَّقَ، فرحلَ عنَّا مخلِّفاً بين ظهرانينا ما ينفعُ الناسَ ويُكسبُه الأجرَ والحمد.
كانت كلماتُه ضوءاً يُنير للناس طرقاتهم إلى العلم والثقافة والمعرفة، ويدل الناس إلى دروب الهُويّة، ويرشدهم إلى معالم الثقافة الوطنية.
“هنيئاً لك أبا طلال ولكل مَن يُعلِّق القناديلَ ليضيءَ بها الدُّروبَ للآخرين”. هكذا كتب في رثائه بعضُ أصدقائه المخلصين، وهم كثير.
ولقد نعاه بحزن وأسى وبإحساس عميق بفداحة الخسارة، عشراتٌ من الكتاب والإعلاميين، واحتشدت في ذلك كافة الصحف والكثير من برامج الإذاعة والتليفزيون، حديثاً عن دور “أبو طلال”، وعطائه الثقافي والإعلامي والأكاديمي، لتؤكّد أن المملكة فقدت برحيله عموداً من أعمدة الثقافة والكلمة، ورأى بعضُ الأقلام أن البلاد “فقدت برحيله نخلة نجدية شامخة عشقت أرضها وتراثها”، وقد كان أديباً خلوقاً ومثقفاً متواضعاً وإعلامياً شغوفاً.
لذلك، لم يكن غريبا أن يشهد موقع مقبرته ــ لحظة أن ووري جثمانُه التراب ــ حضورا طاغيا وحشدا كبيرا من المشيعين، من الأدباء والمثقفين والإعلاميين وغيرهم من المواطنين الذين حرصوا على توديعه، رغم حَر الصيف اللاهب.
كلهم كانوا هناك، عند مقبرته، يشهدون على صدق أدائه في محبة بلاده، انتماء لوطنه، وولاء لقادته، وعشقاً لتاريخ بلاده وهويته، ما يعكس محبة الناس للرجل، الذي نسأل الله ان يجعلهم جميعا من شهود الصدق له يوم الشهادة.
قصي البدران