كنا أشرنا ــ في العدد السابق ــ إلى أن حجم الضرر العالمي من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا الجديد، كوفيد 19، قد بلغ قرابة تريليوني دولار، وبعد قرابة شهر، واستنادا إلى تقديرات مجموعة العشرين الأخيرة، تضاعف الرقم ثلاث مرات حيث ضخت حكومات العالم حوالي 7 تريليونات دولار، لمواجهة «توابع» الزلزال العالمي الكبير غير المسبوق، والذي هزّ أركان ودعائم وقواعد الاقتصاد العالمي، وإطفاء ما نتج عن الزلزال وتوابعه من حرائق أشعلتها الأزمات التي أصابت الاقتصاد العالمي بعجز كامل وشامل، في الوقت الذي ترجّحُ أكثر التوقعات الدولية وصول إجمالي الخسائر الاقتصادية قريبا إلى 9 تريليونات دولار.
نحن بصدد جائحتين، إحداهما تعصف بأرواح البشر، وبالإنسانية كلها، والأخرى تعصف بالاقتصاد العالمي.. ومع هذه الجائحة التريليونية، لا يمكن لأي راصد أن يصف بدقة عالية مدى التداعيات التي يعيشها العالم، والتي لم تترك تأثيراتها على الاقتصاد فحسب، بل تخطت ذلك بكثير إلى جوانب مصيرية مرتبطة ببقاء الانسان، إذ أن الهول كبير مع استمرار تفشّي هذا الفيروس القاتل.
وربما من حسن حظ العالم أن السعودية تقف على رأسي هرم أكبر تجمعين عالميين، وتضع في أيديها مفاتيح تأثير كبرى، تتمثل في قيادتها لمنظمة «أوبك» أكبر تحالف لمنتجي البترول في العالم، في وقت تقوم على رئاسة مجموعة العشرين لهذا العام 2020، وهي أكبر منظومة لتجمع دولي مؤثر على الاقتصاد العالمي.
المملكة تتولى مسئولية كبرى مرهقة، وتحمل تحديات مستقبل العالم على كاهلها، إذ الفيروس لم يبق ولم يذر من تداعيات سلبية تهاوت على إثرها قطاعات حيوية لم يكن يخطر على البال يوما أن تتعطل، وفي مقدمتها يأتي نشاط الطيران المشلول حاليا، خير مثال.
تداعت السعودية إلى إدارة المشهد بكل اقتدار فباتت تصارع على جبهتين، الأولى تسعى فيها بكل قوة لفرض واقع جديد لأسواق الطاقة ذات الأسعار المتدنية بفعل تباطؤ الاقتصاد بالأصل وتأثيرات «كورونا» اللاحقة، بتطبيق آليات التوازن والمنطق والمصلحة للجميع على مستوى مصدري البترول. فبرغم معرقلات التعنت لبلدان كروسيا والمكسيك، دعت السعودية إلى اجتماعات متواصلة لتجمع «أوبك بلس» لدعم استقرار الاقتصاد العالمي عبر تعزيز أسعار النفط. اجتماعات «أوبك بلس» انتهت بعد لقاءين استثنائيين على مدار يومين منفصلين، شهدت ماراثونا طويلا من انعقاد الجلسات بساعات ممتدة انتهت إلى موافقة جماعية أخيراً بخفض الإنتاج قرابة 10 ملايين برميل يومياً.
ليس هذا فحسب، فقد كانت رسالة المملكة واضحة في اجتماع وزراء الطاقة بمجموعة العشرين، حيث حثت على اتخاذ التدابير الطارئة وتسخير النفط لمحاربة «كوفيد19-»، بل دعت لتوجيه أولوية المنتجين إلى توفير الإمدادات، بما يعزز عملية التشغيل والإنتاج، ودعم صحة الإنسان في العالم.
لم تتوقف الجهود السعودية على ذلك فحسب، بل فعّلت رئاستها لمجموعة العشرين، وقامت بترتيباتها العاجلة، وحفزت الأعضاء بعدم الاستسلام للوباء وضرورة الاستمرار في انعقاد الجلسات واللقاءات الرسمية افتراضيا – عبر الدوائر التلفزيونية ومن خلال الإنترنت – فواصلت مجموعات العمل للمرأة والأعمال والتوظيف والصحة والمجتمع لقاءاتها، كل يمارس دوره بانضباط، بل تم بنجاح انعقاد الاجتماعات الوزارية، ودعت إلى قمة استثنائية افتراضية – في بادرة هي الأولى من نوعها – لقادة العشرين لوضع الحلول العاجلة في مواجهة الوباء، وصدرت عنها سلسلة قرارات، كان أبرزها وضع خارطة طريق تمكن من الحفاظ على مستويات الأداء الاقتصادي بشكل يحمي الوظائف والمنشآت الصغيرة ويحفز الأنشطة والقطاعات ومجالات العمل، مع وضع أداور فاعلة لمنظمات العالم الاقتصادية.
ومن إجراءات مواجهة كورونا على الصعيد العالمي إلى مواجهة الفيروس على الصعيد المحلي، سجلت السعودية نضوجاً مبهراً في تعاطيها مع الأزمة مع اشتدادها، فتدرجت من الحظر الجزئي في الزمان والمكان، إلى المنع الكلي ضمن سلسلة من الإجراءات والتدابير الصحية والاجتماعية التحوطية التي وضعت الإنسان مواطناً أو مقيماً قيمة عالية.
ما رأيناه من تدابير اقتصادية كانت بالفعل مدعاة للفخر، حيث سبقنا دولا متقدمة في طرح مبادرات تحفيزية، وإعفاءات حكومية، وتقليصات إجرائية، وتسهيلات مالية وقنوات تمويلية جديدة بما يقارب 190 مليار ريال، مع تطوير أدوات تمكينية، بينها تأجيل السداد، وإلغاء الرسوم، وتمديد فترات الترخيص والانتفاع، وتفعيل المعاملات الإلكترونية والوسائل الرقمية في كافة الأنشطة، ودعم %60 من رواتب الموظف السعودي في القطاع الخاص بحزمة قوامها 9 مليارات ريال. كل ذلك وسط إشراف صارم من الجهات المعنية بوفرة التموين وتقديم التوصيل إلى المنازل، ووضع آليات عمل لضبط الحركة الخارجية.
لا أبالغ بالإفصاح عن مشاعري التي تدعمها الشواهد، فإن كان هناك تقرير دولي أو مؤشر عالمي لأبرز الدول وأكثرها فعالية وصرامة وقوة في مكافحة فيروس كورونا، فإنني لا يخالجني الشك في أن المملكة العربية السعودية من أولى الدول في هذا المجال، إن لم تتصدر القائمة لعوامل أسبقية المبادرات ونوعية الإجراءات المنفذة والأساليب المتبعة للحفاظ على الإنسان قبل الاقتصاد. أخيرا: حماك الله يا وطن .. و«كلنا مسئول».