في رواية “آنا كارنينا” يقول تولستوي: “جميع الأسر السعيدة تتشابه، لكن كل أسرة تعيسة فهي تعيسة على طريقتها”، ويمكنني التصرف والقول بالعكس تمامًا، وفي كلا الحالين لا أحسب الحكم دقيقًا.
استحضرت هذه العبارة وأنا أتأمل في عناوين ومواضيع حول خصوصية الناس المستخدمين لتطبيقات وبرامج التواصل أو الخدمات، وتصاعد هذا الموضوع مع الأحداث الجيوسياسية والصراعات التي تنشأ في العالم والتي كشفت أن المستباح ليس الخصوصية فقط، لكن أيضًا كثير من الحريات، وثبت أن من يملكون ويشغِّلون كثيرًا من المنصات العالمية ليسوا محايدين، بل يستغلون تأثيرهم وتأثير منصاتهم للانحياز لطرف أو أطراف ضد آخرين.
في جميع الحالات والقصص والقضايا التي تابعناها خلال السنوات القليلة الماضية حول التصنّت على المستخدمين، أو المتاجرة ببياناتهم، أو مصادرة الآراء التي لا تتفق و”هوى” بعض الدول والتكتلات لم يتم استئذان الناس، أو حتى إعلامهم.
رغم اعترافات “اباطرة” التقنية بهذا الانحياز إلا أن هذا لم يُحرِّك كثيرًا من المستخدمين رغم أن بعض الدوائر الحقوقية والاجتماعية في أكثر من دولة تحاول مناكفتهم، لكنها مناكفة تشبه محاربة الدول للتدخين، تعرف ضرره، لكنها لا “تود” الاستغناء عن ضرائبه.
كلما زاد عدد الذين لا يهتمون لذلك زاد “الخبث” في هذه “السوق”، وازدادت محاصرة الناس وزاد التحكم فيهم درجة أخرى، والمضحك المبكي أن هذه الأشياء أو هذه السوق باتت للبعض كأنها قيد لا فكاك منه.
الكثيرون ـ وأنا منهم ـ لا يكترثون على خصوصيتهم لأن مقدار ما وضعوه من معلومات قليل، وقدرتهم على إدارة “إعدادات الخصوصية” جيدّة، ويفعلون ذلك بحذر الكبار، كبار السن، وهم غالبًا ليسوا ممن يشاركون بصور كثيرة، أو خصوصيات شخصية أو عائلية، فضلاً ـ وهذا الأهم من وجهة نظري ـ أن عدد التطبيقات والبرامج التي يستخدمونها محدود جدًا.
أيضا الكثيرون ـ وأنا لست منهم ـ إما لا يعلمون، أو لا يتخيّلون التأثير على المدى البعيد، أو يعلمون ويعرفون التأثير لكنهّم لا يبالون، أو لا يستطيعون الفكاك من إدمانهم، والتصنيفات في هذا الشأن عديدة لكن هؤلاء أبرزهم.
أصبح حال البشر مع هذه الشركات التي لا يحذرون منها أو يتعاملون معها بقدر، يشبه حالات كثيرة يعرف البشر فيها الضرر ولا يتجنبوه، مثل علاقتهم بالبيئة أو بعض الأغذية والمشروبات المضرة كمثالين واضحين ومهمين.
الأخطر اليوم، أن هذه الشركات تقدم اعترافات ذكية الصياغة، وهي مع الوقت ستخفف من المساءلة القانونية التي تنفذها الحكومات، والمساءلات الإنسانية والأخلاقية من البشر، مستخدميها الذين يخدمونها أكثر مما تخدمهم.
حقائق تعيسة للثقافة الإنسانية والاجتماعية، وربما سعيدة لثقافة الاستهلاك، وشرب “الحداثة السائلة”، وشركات تقنية جميعها تتشابه في الاستغلال، “لكن كل شركة نزيهة فهي نزيهة على طريقتها”.
امتلاك التقنيات والخوارزميات ومعه امتلاك الشركات العملاقة في هذا المجال أصبح يوازي امتلاك الأسلحة الفتاكة، وربما بعد جيل أو اثنين يتجاوز ذلك إلى قدرات تحكم في الناس تؤثر عليهم أكثر من الأسلحة.
كل شيء تفعله أو تستخدمه باعتدال لا يضرك، لكنّك كفرد أو حتى صاحب أعمال إذا أدمنت وسائل لا يمكنك الاستغناء عنها فضلاً عن التحكم فيها فأنت في وضع “المخاطر العالية” كما يقول أهل الائتمان وخبراؤه.
يجب ألا يتشابه الناس جميعًا في استخدامهم وإدمانهم لهذه الأشياء، كما يجب أن يتشابهوا في سعادتهم أو تعاستهم، فلكل إنسان أو عائلة بصمتها الشخصية والروحية التي تشكل هويتها التي يجب ألا ترتهن أبدًا إلى أي إدمان أو تضع رقبتها في أيدٍ لا تعرف يقينًا، هل هي أيد صديقة أم عدوة؟ كلّما اشتعلت حرب جديدة في هذا العالم تكشفت بعض خفاياه وبانت حقائقه.