نافذة

ابتذال ”الذات”

الذات كلمة كبيرة عميقة تؤشر لمراحل إنسانية وثقافية درسها علم الإنثروبولوجيا لرصد مراحل التطور الإنساني مع كل عصر، أو مع كل موجة مثل موجة “الفردانية” التي نعيشها في مرحلة الحداثة السائلة، كما يسميها الراصدون المتابعون أو الباحثون المتخصصون.

 

هذه الكلمة ابتذلت كثيرًا في الفترة الأخيرة، وتم تسليعها تجاريًا تحت مسمى “تطوير الذات” عبر دورات يُعلن عنها كل من هب ودب في عالم التواصل الاجتماعي، ومن قبل ذلك كل مسؤول موارد بشرية يقدمها لمنسوبي شركته عبر مقاولين يتكرّر محتواهم المستنسخ من كتب أصبحت من كثرتها باهتة مملة، لا تمت للذات بصلة فضلاً عن علاقتها بتطويرها.

 

في هذا السياق لا أنسى طرفة جميلة رأيتها في مقطع فيديو لشاب سوداني خفيف الظل يعلق فيها على بعض محتويات هذه الدورات حيث يتندر على قصة أغمض عينيك وقل بماذا تشعر حتى “تخرج الأسد في داخلك” أو “العملاق في داخلك” وقل ماذا أصبحت؟ فهو يقول إنك فقط “زول مغمض عينيه” ولست أسدًا أو عملاقًا.

 

لا أنكر حاجة الإنسان عمومًا والموظف أو صاحب العمل بشكل خاص إلى التطوير وحل المشكلات التي تواجهه، أو تعديل ما يراه بحاجة إلى تعديل من مهاراته وعاداته وأسلوب عمله، لكن ذلك لا يُبرر هذا الكم الهائل من الكتب، ومن أصحاب الحسابات في الإعلام الاجتماعي الذين يمتهنون ذلك تحت مسمى “مدرب” أو “خبير” ولا نعرف تحديدًا هل لديهم تراخيص، وهل خضعوا لأنظمة وقوانين التدريب في المملكة أو في البلاد التي أتوا منها؟

 

ومن أهم الثغرات في هذا المجال أن جلّ الكتب المترجمة تحكي قصصًا مكررة من بيئات متشابهة لكنها لا تشبه بيئتنا (بيئتنا العملية والاقتصادية)، ورغم وجود أخلاقيات إنسانية عامة ومشتركة للعمل والإنتاج، إن هناك مناطق الاختلاف الثقافي والديني، فضلاً عن اختلاف بنية وطبيعة المنشآت الاقتصادية.

 

مفاهيم كثيرة عن الذات والإنسان والعمل قدمت في هذه السوق بمنظار محدود وسطحي، وتشبيهات كثيرة لا زالت منذ عقود تقدم لشخصيات مثل (غاندي ومانديلا) الذين نحترم نضالهم وقيمتهم الوطنية في أوطانهم، والإنسانية في كل العالم، إلا أن اجترار القصص نفسها ومحاولة إلباسها ألبسة تتعلق بالعمل والإنتاج أصبح مملاً، وغير مُجدٍ خاصة للأجيال الجديدة.

 

المشكلة الأعمق والأخطر أن كثيرًا ممن لا تنجح معهم الوصفات الجاهزة التي تقدمها هذه الكتب أو الدورات يقعون في لوم أنفسهم وربما الإحباط إذا لم تنجح معهم خطة “كيف تنجح في شهر واحد” على سبيل المثال، أو طريقة فلان الفلاني الرئيس التنفيذي للشركة العملاقة لأربعين عامًا! لأن طريقة أغلب هذه الكتب والدورات هي تحميلك المسؤولية بأن العيب فيك إذا لم تنجح وليس في الوصفة أو ثقافتها أو البيئة التي جاءت منها.

 

هناك غياب واضح للتأصيل العلمي لمعظم المحتوى المقدم للناس، وهناك رداءة ملحوظة في نسبة غير قليلة من هذه الكتب على مستويات المحتوى والترجمة، وحتى أحيانًا تسطيح أشياء عميقة أو إعطاء أشياء سطحية أكبر من حجمها الحقيقي في حياة الإنسان أو الموظف الباحث عن تحسين وضعه.

فلا تُعلق تطوير مهاراتك وانتاجيتك -وليس ذاتك بمعناها العميق- على مدرب يعطيك قوالب جاهزة، اقرأ واستفد من بعض التجارب التي تدعو إلى التأمل وتدفع إلى التفكير وليس إلى تقبل فكرة جاهزة.

 

ولا تنس أن في القرآن الكريم أكبر وأعمق التوجيهات لبناء الذات والمهارات والنجاح في العمل، وتذكّرْ أن هناك ملهمين في بلدك قادوا قاطرات النجاح بأساليب انبثقت من ثقافتنا وحياتنا، والأهم أن تتذكر أنك أنت من يصنع “أنت” ومن يعمل على ذاته ويعرف الطريق إلى حياة عملية أنجح وأفضل.