لطالما تساءلت في صغري: لماذا كان والدي (حفظه الله) يُصرّ على إرسالي إلى متجر معين، غالبًا ما يكون اسمه على اسم صاحبه، لشراء سلعة معينة، حتى لو كانت هناك خيارات أقرب مكانيًا، وربما في أحيان كثيرة أقل سعرًا!
الأمر نفسه انطبق ـ في فترة ما ـ على والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، كانت تُصرّ على متاجر معينة، وتعاملت مع بعضها لعقود من الزمن، رغم تطور مدينة الطائف وتعدّد الخيارات!
كبرت وتعلّمت أنها ببساطة (الثقة)، الثقة في تجار معينين اكتسبوها مع الزمن، تجار الزمن الجميل الذين كان واحدهم يخبرك عن عيوب بضاعته قبل مزاياها، ويطلعك على أسرار استيراد أو تسعير دون أن تسأل، تجار بكلمة واحدة، وتعامل واحد، تجار يعلمون يقينًا أن السمعة هي رأس المال الحقيقي، وليس البضائع أو المتجر.
أتأمل الأمر على نطاق أكبر قليلاً اليوم، على نطاق الشركات المساهمة التي تدرج في السوقين الرئيسية والموازية، وأجد أن نظرية ذلك المتجر الصغير، وذلك التاجر البسيط لا زالت سارية لكن المكترثين بها يقلّون مع الزمن.
لا يستحي بعض من أصحاب الأعمال من التخارج العلني الدراماتيكي من شركاتهم، يقيمونها عاليًا وغاليًا، يبثون عنها الاخبار الإيجابية عبر وكالات الإعلان ومستشاري التسويق، ثم يدرجونها وبقدرة قادر تبدأ الاخبار السلبية في الظهور، وتبدأ الأرباح في الانخفاض، بل وتبدأ الخسائر من أول أو ثاني ربع، ثم يفاجأ المستثمر الصغير جدًا الذي أمل فيهم وفي سمعتهم خيرًا أن الشركة تعلن بعد سنوات قليلة طلبها تخفيض رأسمال المال، أي أنها بعبارة أخرى تخفّض سمعتها وسمعة ملاكها أو مديريها.
بالطبع يعمل معظم هؤلاء على طريقة “اضرب واهرب” فهم يعرفون أن لا أحد سيثق في أي شركة يطرحونها مستقبلاً، أو حتى يشاركون في ملكيتها أو إدارتها، والعكس صحيح دائمًا، فهناك عائلات وأسماء معينة أخلصت في العمل من أجل مصلحة المساهمين، وعاملت استثمارهم كما تعامل مالهم الخاص سواء بسواء، فكسبوا ثقة الناس، وثناءهم، بل وحتى الدعاء لهم بدوام التوفيق.
هذه الأسماء باتت بحد ذاتها علامات فارقة عند اتخاذ قرار الاستثمار، يصبح لدى الفرد نوع من الطمأنينة إذا رأى أحدهم في مجلس الإدارة أو على سدة إحدى الشركات الأخرى، يعلم أن الأمانة والنزاهة ستصحبه أينما حل، وإنه يُحافظ على سمعته في السوق لأنها أهم ما يملك.
هناك حد أخلاقي واضح يقف عنده التاجر الحقيقي النزيه، فهو لا يفتقد للشطارة لكنه يسخرّها لمصلحة العمل الجماعي الذي أوكل إليه، فالشركة المساهمة هي ملكية جماعية، ودائرة أصحاب المصلحة فيها تتسع أكبر من غيرها من الشركات الأخرى.
ربما لا تجد الجهات المختصة مداخل قانونية على بعض من يهملون استثمارات وأموال الناس في شركاتهم، لأن لا أحد أثبت عليهم خلط اللبن بالماء، لكن هناك رب عليم حكيم شديد العقاب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهناك أيضًا قوائم سوداء وبيضاء لدى عامة الناس وصغار المستثمرين يضعون فيها من خيّب ظنّهم، ومن حاز على ثقتهم، فأختر عزيزي صاحب الشركة في أي قائمة تريد أن يورد اسمك وتاريخ عائلتك التجاري.
يعتقد البعض ان الناس تنسى، وهذا غير صحيح، ولقد سمعت تعليقات تؤكد ذلك، وأذكر أن أحد رجال الأعمال المؤسسين لأحدى أفضل الشركات وأكثرها تميزًا أصدر مذكرات بسيطة عفوية عن حياته ونمو أعماله فكان الجميع يشيد به وبما كتب رغم ضعف جاذبية الكتاب، لكن الصدق وصل إلى قلوب الناس، والأهم أن نتائج أعماله وصلت إلى عقولهم، ولمن استثمر في شركته وصل صدقه وأمانة إدارته إلى جيوبهم.