تحقيق

عمال العالم أين ذهبوا؟

البحث عن الأيدي العاملة.. أزمة عكسية باتت تواجه الاقتصاد العالمي

في أواخر عام 2021م تم الإعلان عن حوالي مليون وظيفة شاغرة في كندا

انخفاض معدل البطالة في بريطانيا حتى يوليو2022م إلى أدنى مستوى منذ 48 عامًا

9.1 مليون وظيفة شاغرة في ألمانيا بالربع الثاني من عام 2022م ونقص العمالة يُفقدها حوالي 84 مليار دولار

إحصاء أكثر من 11 مليون وظيفة شاغرة في شهر يوليو 2022م بالولايات المتحدة الأمريكية

تقارير تؤكد أن العمال لم يغادروا بالضرورة سوق العمل تمامًا، ولكنهم يعيدون تقييم مسارات حياتهم المهنية

نتيجة للرؤى التنموية الجديدة في دول مجلس التعاون الخليجي استطاعت رغم زيادة الطلب على العمالة لديها أن تُحفز العاملة من الاتجاه إليها

 

مزارع ومصانع حول العالم خفّضت إنتاجها، ومطاعم أغلقت أبوابها، وشركات بناء وتشييد متأخرة في إنجاز مشروعاتها، ومستشفيات أوقفت بعض أقسامها، وثمة مؤشرات وتقارير عدة تؤكد بأن العالم بعد أزمة جائحة كورونا، بات يواجه أزمة ممتدة ومختلفة تتمثل في نقص الأيدي العاملة في قطاعات كثيرة، وخاصة في الدول المتقدمة مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، وألمانيا، وغيرها، إذ أفاد تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) وهي منظمة اقتصادية دولية تضم 38 دولة، في منتصف عام 2022م بأن هذه الدول مجتمعة ـ ودول أُخرى حول العالم ـ تشهد نموًا كثيرًا للافتات الوظائف الشاغرة، وأصبح نقص الأيدي العاملة يثير مخاوفهم كونه يمتد إلى قطاعات أُخرى عديدة، فبعد أن كانت هناك صعوبة في إيجاد الزبائن أصبحت الصعوبة الآن في العثور على مرشحين للوظائف في مجالات بعينها.

صعوبات في التوظيف

مع ظهور جائحة كورونا، واجه سوق العمل العالمي بالفعل أزمة كبيرة، حيث ارتفعت معدلات البطالة بسبب وقف التعيينات الجديدة، والإغلاق الكلي أو الجزئي لبعض الوظائف والقطاعات منخفضة الأجر، مثل: الصناعات التحويلية، وتجارة التجزئة، وبعض الأنشطة الإدارية، وهو ما جعل مدير منظمة العمل الدولية حينها “جاي رايدر” السابق، يصف في يونيو 2021م تأثير جائحة كورونا على عالم العمل بأنه “كارثي” وأسوأ بكثير من تأثير الأزمة المالية لعام 2008م.

ولكن مع بدء التعافي الاقتصادي من أزمة كورونا، أخذت ترتفع معدلات الطلب في العديد من أنحاء العالم على العمال المهرة والموظفين، في مقابل نقص كبير للأيدي العاملة، وواجهت الشركات صعوبات في التوظيف ليس فقط في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، ولكن أيضًا في أوروبا الشرقية وتركيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما جعل البعض يعتبر أن العالم لم يشهد في تاريخه الحديث تطورًا كان له مثيل مثل هذا التأثير على مفهوم العمل بحد ذاته، فالأزمة الناجمة عن قلة الأيدي العاملة بدأت تتصاعد مع نهاية 2021م في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا بالمقارنة مع ما قبل الوباء، وبات هناك حاجة واضحة لموظفين جدد، فأظهرت دراسة لـ”مجموعة بوسطن للاستشارات” بوجود قرابة الـ 9. 1 مليون وظيفة شاغرة في ألمانيا بالربع الثاني من العام الجاري 2022م، وأنها طرحت في شهر أغسطس 2022م نحو 887 ألف وظيفة في مجالات اجتماعية وفي البناء والمعلوماتية، علمًا بأن نقص العمالة يُفقد ألمانيا وحدها  حوالي 84 مليار دولار من ناتجها الاقتصادي.

جاي رايدر

عدد غير كاف من العمّال

وتشير تقارير متزامنة إلى وجود عجز بشري في قطاعات متنوعة مثل التعليم في تكساس بالولايات المتحدة وخدمات الضيافة في إيطاليا، وفي أواخر عام 2021م تم الإعلان عن حوالي مليون وظيفة شاغرة في كندا، أي أكثر من ضعف العام السابق، غالبيتها في قطاعات المطاعم والبناء والتمريض، وأظهرت كذلك بيانات مكتب الإحصاء الوطني البريطاني انخفاض معدل البطالة إلى 3.6% خلال ثلاثة أشهر حتى يوليو2022م وهو أدنى مستوى له منذ 48 عامًا.

وفي الولايات المتحدة، تنتشر لافتات “مطلوب موظفين” أمام المطاعم ومحطات الحافلات وغيرها، وتم إحصاء أكثر من 11 مليون وظيفة شاغرة في شهر يوليو 2022م في حين لم يكن عدد الباحثين عن عمل يتخطى الـ 6 ملايين، وهو ما جعل غرفة التجارة الأميركية تقول “لدينا عدد كبير من الوظائف وعدد غير كاف من العمّال … ويطال هذا النقص القطاعات كافة”.

صياغات جديدة لتنظيم العمل

وقد اضطرت الكثير من الشركات والمؤسسات في بعض الدول خلال العامين (الماضي، والجاري) بسبب قلة العمالة اللجوء إلى إعادة وضع صياغات جديدة لتنظيم العمل، إذ حتم نقص العمالة مثلاً على صيدليات في ولاية ويسكونسن الأمريكية الإغلاق في توقيت معين لعدم توافر صيادلة، واضطرت بعض مستشفيات ولاية ألبرتا الكندية لوقف عمل بعض وحداتها بسبب نقص الأطباء، وأغلقت مطاعم في كوينزلاند بأستراليا لعدم وجود ندلاء.

كما فقدت ماليزيا، وهي التي تحتل المرتبة الثانية عالميًا في إنتاج زيت النخيل بحسب بلومبرج نتيجة لنقص العمالة حوالي 30% من إنتاج الزيت، ما أثر على ارتفاع أسعار الزيوت عالميًا، وانخفض كذلك إنتاج الروبيان في جنوب فيتنام، وهي أحد أكبر المصدرين له في العالم، بنسبة تتراوح بين 60% إلى 70% عمَّا كان عليه قبل الوباء.

 

آثاره لا تكون موزعة بالتساوي

وفي العادة لا يمكن القول بأن نقص العمالة يحدث في كل مكان، كما أنَّ آثاره لا تكون موزعة بالتساوي داخل البلد الواحد، فبريطانيا مثلاً تعاني من نقص للعمالة أكثر حدة عن بقية الدول الأوروبية حتى عن ألمانيا؛ إذ أدى خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى تقييد تدفُّق عمال الاتحاد الأوروبي إليها، كما لم تتأثر الصين والهند إلى حد كبير بنقص الأيدي العاملة الحاصل نظرًا لزيادة عدد السكان لديهم وارتفاع معدلات فئة الشباب العامل فيهم.

وكذلك دول الخليج العربي، التي استحدثت مجالات عمل جديدة خارج نطاق النفط وفق رؤى تنويع المدخلات الاقتصادية التي تنتهجها، والتي رغم قلة مواردها البشرية حفزت كثيرًا من الشباب العربي وغيره للعمل لديها، وذلك نظرًا للأولويات الاقتصادية والرؤى التنموية الجديدة المتبعة في دول مجلس التعاون الخليجي، والتي من شأنها استطاعت رغم زيادة الطلب على العمالة لديها أن تُحفز الأيدي العاملة من الاتجاه إليها لاسيما مع توفيرها للعديد من المحفزات المستقبلية.

أسباب الظاهرة العكسية

وتتعدد الأسباب وراء تلك الظاهرة العكسية، التي تمثلت في نقص اليد العاملة في العديد من البلدان، ومنها: خروج ما يُطلق عليهم “مجموعة جيل الطفرة السكانية” من القوة العاملة، وهم الجيل، الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تقاعد عدد قياسي من هؤلاء العمال.

وتشير وكالة الإحصاء الكندية إلى أنه “لم يحدث أن كان عدد الأشخاص الذين اقتربوا من سن التقاعد بهذا الارتفاع من قبل”، حيث اقترب أكثر من واحد من كل خمسة عمال (21.8%) من سن التقاعد الإلزامي البالغ 65 عامًا، علمًا بأن التحول الديموجرافي نحو شيخوخة السكان يعود جزئياً إلى انخفاض معدل الخصوبة، مع ولادة 1.4 طفل فقط لكل امرأة، ومع ذلك تمتلك كندا أكبر نسبة من الشباب بين سكانها، مقارنة بدول مجموعة السبع، بعد الولايات المتحدة وبريطانيا.

موجات من الاستقالات

وعلى الرغم من أن أبناء جيل الطفرة بدأوا في الانسحاب من سوق العمل قبل جائحة كورونا، غير أن “الإحالات على التقاعد تسارعت” في بداية الأزمة الصحية.

ومن الأسباب أيضًا وراء موجات الاستقالات في الكثير من أنحاء العالم، أن الجائحة ولّدت تغييرًا جوهريًا في ذهنية العاملين وأولوياتهم، خاصة في ظل أعراض كوفيد الطويلة الأمد (إصابات بالمرض طويلة الأمد).

واختار ملايين الأشخاص التقاعد مبكرا، خشية على صحّتهم، مستفيدين من ارتفاع أسعار الأسهم في البورصة والعقارات لإجراء صفقات بيع والانتفاع من مدخراتهم.

وتوقفت النساء أيضًا عن العمل في 2020م بأعداد كبيرة، بسبب إغلاق المدارس طوال سنة ونصف السنة، ولم تعد كثيرات منهن للعمل بسبب نقص اليد العاملة في دور الحضانة!

وأخيرًا، فإن أحد الأسباب الرئيسية، لما تعانيه بعض الدول من نقص في العمالة، هو ما حدث من تراجع حاد في الهجرة بسبب تدابير الحجر.

وأدت جائحة كورونا في العديد من البلدان المتقدمة، إلى حدوث تحولات مهمة في أسواق العمل، نتيجة حدوث موجة كبيرة من الاستقالات، في ظل وجود عدد قياسي من العمال، الذين لم يعودوا إلى وظائفهم بعد انتهاء حالات الإغلاق العام.

 

يعيدون تقييم مساراتهم

ففي الربع الثالث من عام 2021م بلغ عدد حالات الاستقالة في الولايات المتحدة الأمريكية  4 ملايين حالة، وهو رقم قياسي بلغ 3% من إجمالي فرص العمل في الأنشطة غير الزراعية، وكانت نسبة الاستقالات أعلى في بعض قطاعات الخدمات، مثل خدمات الإقامة والغذاء (7%)، والترفيه والضيافة (6%)، والتجزئة (5%)، مما يشير إلى أن العمال يبحثون عن فرص أفضل في قطاعات أعلى إنتاجية.

وظهرت تقارير تؤكد أن هؤلاء العمال لم يغادروا بالضرورة سوق العمل تمامًا، ولكنهم يعيدون تقييم مسارات حياتهم المهنية، أو يغيرون القطاعات، التي يعملون فيها، أو يبدأون أعمالهم الخاصة، أو يتجهون إلى العمل الحر.

تحول في سوق العمل

وهكذا، فقد أدت الجائحة والإغلاقات والعمل عن بعد إلى خلق فرص عمل جديدة في قطاعات معينة، وتحول في سوق العمل بالعالم، مما جعل البعض يقوم بإعادة توجيه المسار المهني بهدف تحقيق الذات وضمان وظائف أكثر مرونة وأكثر مواكبةً للتطورات والتقلبات الحادثة.

ومن أبرز الوظائف، التي انتعشت، وظائف الصحة والرعاية، حيث تشير بيانات موقع (LinkedIn) العالمي إلى أن الرعاية الصحية شهدت توظيفًا بشكل عام أكثر من أي صناعة أخرى خلال العام 2020م.

وكذلك زادت وظائف التصنيع والتحميل والتخزين، حيث شهدت صناعة الخدمات اللوجستية نموًا هائلاً مع زيادة عمليات التسوق عبر الانترنت وطلبات التوصيل إلى المنازل، كما سرّعت الجائحة من الاعتماد على التقنيات الجديدة وقطاع التكنولوجيا والمعلوماتية.

ومن المستبعد في العديد من الدول المتقدمة أن تعود اليد العاملة إلى مستويات ما قبل الجائحة، بسبب تقدم السكان في العمر، وتغير الأولويات، ولذلك تحاول الشركات اتخاذ التدابير الكفيلة باجتذاب الموظفين أو الاحتفاظ بهم، بدءاً من زيادة الأجور.

خفض الاستهلاك المفرط

وبالإضافة لمحاولة اجتذاب الناس إلى سوق العمل، فإن هناك جهودا من بعض الحكومات، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، لخفض الاستهلاك المفرط، حتى لا تضطر الشركات إلى مواجهة عجز في الموظفين.

وقامت كندا، من جانبها، بالاستثمار في تعليم وتدريب الشبان وتعزيز استقبال المهاجرين، كما استحدثت برنامجًا لرعاية الأطفال لتشجيع النساء على العودة إلى ميادين العمل في وقت أقرب بعد الولادة، لكنها ألغت قرارًا بزيادة سن التقاعد إلى 67 بعد عدم قبول شعبي للقرار، كما لجأت بعض الدول، إلى تشجيع أو على الأقل التخفيف من قيود الهجرة، مثل أستراليا وأسبانيا، من خلال التوجه نحو تقنين المقيمين بصورة غير قانونية، فيما تدرس ألمانيا تخفيف شروط منح تأشيرات الدخول.

وأخيرًا، فإنه على أصحاب العمل أن يواكبوا التطورات والتغييرات الحادثة، بعد أن أصبح العمال والموظفين يتمتعون بقدرة أكبر على التفاوض من أجل الحصول على ظروف عمل أفضل، الأمر الذي يفرض على أصحاب العمل منح الموظفين امتيازات صحية واجتماعية أكبر ودخل أعلى وتهيئة بيئة ملائمة وجاذبة بشكلٍ عام.