تصور هبوب عاصفة على خيمة وبدل أن يتم تثبيت أعمدتها وعضد أشرعتها وحماية محتوياتها يُعمد إلى إرخاء حبالها ودفع ما بداخلها نحو الخارج ليتطاير بالهواء، ثم يتساءل بعدها (استغباءً) عن أسباب النتائج الكارثية!
ذات الأمر يحدث في الاقتصاد العالمي حينما يتم التعامل مع “التضخم” بطريقة تشبه صب “أحدهم بعينه” الزيت على النار لأمر يكنّه، ثم يبحث بعدها عن ضحية لإلقاء اللوم عليه بزيادة رقعة النار.
أقرب المسببات الحاضرة التي أدت إلى زيادة معدل التضخم في العالم هي الحرب بين روسيا وأوكرانيا ومحاولة فرض التحول السريع نحو الطاقة النظيفة في العالم إضافة لتآكل قيمة الدولار الأمريكي الشرائية وإرهاصات السيطرة والتنافس الدولي.
ليس مفارقة أن تلتقي كافة المحاور السابقة بشكل رئيس بالولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في الوقت الحاضر وتعاني مثل غيرها من عامل التضخم، فكيف كان تعاملها مع تلك المعضلات؟
على مستوى الحرب الروسية الأوكرانية لم تعمد إلى نزع فتيل الحرب قبل بدايتها، وهي القادرة على ذلك، بل وضعت ثقلها باتجاه استعار الحرب، وعلى جانب حماية المناخ والتحوّل للطاقة النظيفة ضغطت بقراراتها عالميًا نحو هذا التوجه (مع علمها المسبق بعدم وجود أي استعدادات تقنية دولية كافية لهذا التحول السريع) مما أدى إلى التراجع في عمليات الاستثمار الخاصة بالنفط الأحفوري وتكريره، وبالتالي إرباك سوق الطاقة العالمي.
وعلى جانب قيمة الدولار طبعت المليارات منه وقامت بضخها في الأسواق (التيسير الكمي)، وخفّضت أسعار الفائدة قبل سنوات قرب الصفر المئوي، ثم عادت لترفعها مؤخرًا، وفي كلتا الحالتين أثّرت هذه العملية سلبًا على عامل التضخم ومعدل فائدة الديون في معظم دول العالم (مصيدة الديون).
أما على صعيد المنافسة الدولية، فتفرّدت بالعقوبات والقرارات على بعض الدول لتحجيمها اقتصاديًا وضغطت على الآخرين لاتباع قراراتها وإن كانت ضد مصالحها، وبلغ حد التدخل الأمريكي إلى أسواق الطاقة وذلك بإفساح المجال للمضاربة المحمومة بالأسعار في البورصات واستخدام مخزونها النفطي الاستراتيجي كأداة تلوح به بين الحين والآخر بغية التأثير على الأسعار ،إضافة إلى التدخل في آلية انسياب سوق الطاقة من خلال دفع الاتحاد الأوروبي لحظر استيراد النفط الروسي عن طريق البحر وفرض سقف سعري للشحنات المؤمَّنة منه وبالتالي قرّر الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا على تحديد سقف لأسعار النفط الروسي عند (60) دولارًا.
والمفارقة الأكبر أن الولايات المتحدة ضغطت باتجاه تقليص وحظر الدول التي تسميها “حليفة لها” في أوروبا من استيراد النفط والغاز الروسي لتبيع الأخيرة عليها (الغاز) بزيادة سعرية تبلغ أربعة أضعاف سعر بيعه في السوق الأمريكي، فكانت محصلة الخطوات الأمريكية السابقة كلها تصب في صالح تأزيم الأمور وزيادة معدل التضخم عالميًا، ورغم إدراكها لذلك إلا أنها تصر ّعلى تعزيز هذا المسار، فيا ترى ما الهدف من دفع العالم نحو الحافة الاقتصادية؟
من جهة يُنظر إلى السلوك الجائح من قبل الإدارة الامريكية وطريقة تعاملها مع الأمور هو إصرارها على التعاطي مع العالم بشكل منفرد من خلال مفهوم ” أمريكا أولاً ” وعلى البقية الانصياع وتحمل التبعات رغم أن هذه التبعات بدأت تصيبها بشكل أو أخر نتيجة المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم، ومن جهة أخرى هي محاولات لاستعادة ما فقد من الهيمنة الأمريكية في العالم بعد ظهور منافسين مصرّين على تغيير الواقع لصالحهم ولابد من صدّهم أو تأخيرهم حتى وأن تطلب الأمر أن يعضّ الجميع على أصابعه.
وقفات:
- خطورة الخطوة غير المسبوقة المتعلقة بتحديد سقف لسعر النفط الروسي تكمن في أنها تفتح بابا لإمكانية سحبها في المستقبل وتحت أي مبرر على أعضاء آخرين في تحالف “أوبك بلس” وهي بمثابة تطبيق عملي غير مباشر لأحد أوجه مشروع القرار الأمريكي المسمى بـ نوبيك (NOPEC).
- تساؤلات مُلحة عما يحدث في العالم من تأزم هل هو نتاج قرار سياسي ممنهج أم انعكاس لواقع حتمي؟ ولماذا دولة كالصين لازالت لوقت قريب تتبع سياسة الإغلاق المتعلقة بجائحة كورونا بخلاف بقية دول العالم؟
- مركزية الدولار وقيمته في العالم هو سلاح أمريكا الاقتصادي الذي تشهره للمحافظة على مصالحها الذاتية وتجيره أحيانًا إلى “رسن” للي عنق اقتصاديات دول العالم، لذلك هناك محاولات جادة من بعض الدول والتكتلات الاقتصادية للحد من تأثير هذا الكابوس تدريجيًا!