اقتصاد

الاقتصاد العالمي.. إرهاصات التضخم تكبح النمو

صندوق النقد الدولي: تراجع النمو ليصل إلى %2.7 عام 2023م مع احتمال بأن تتدنى النسبة إلى %2

خبراء: الصدمات هذا العام ستنكأ الجراح الاقتصادية التي التأمت جزئيًا في مرحلة ما بعد وباء الكورونا

نمو الناتج المحلي الحقيقي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيتراجع من %5 إلى %3.6

اقتصاد بريطانيا ينكمش بأعلى نسبة بين الدول السبع الكبرى خلال العام الجاري 2023م

السؤال لم يعد: “هل سيشهد الاقتصاد ركوداً كاملاً؟”، ولكن أصبح: “متى سيحدث ومدى عمقه وحدته“؟

 

تزايدت التقارير التي تتحدث عن تراجع النمو العالمي، محذرةً من تداعيات ذلك، في وقت لم يعد لدى العالم الوقت لالتقاط أنفاسه، من الأزمات المتتالية والمتسارعة، التي يتعرض لها.

أحدث هذه التقارير، والتي نُشرت في شهر ديسمبر العام الماضي، هو تقرير صندوق النقد الدولي، حول آفاق الاقتصاد العالمي، الذي توقع تراجع النمو ليصل إلى %2.7 عام 2023م مع احتمال بأن تتدنى النسبة إلى %2.

وفي الإطار نفسه، أعلنت منظمة “التعاون والتنمية” في الميدان الاقتصادي خلال نوفمبر 2022م عن توقعاتها بتراجع النمو العالمي من %3.1، إلى %2.2 عام 2023م قبل أن ينتعش قليلاً إلى %2.7 عام 2024م.

 

كان البنك الدولي، قد ذكر في تقرير سابق له خلال يناير 2022م إنه في أعقاب الانتعاش القوي في عام 2021م من المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي تباطؤًا حادًا؛ حيث سيُسجِّل معدل النمو العالمي تراجعًا ملحوظًا من %5.5 في عام 2021م إلى %4.1 في عام 2022م و%3.2 في عام 2023م، مع انحسار الطلب، وإنهاء تدابير الدعم على مستوى سياسات المالية العامة والسياسات النقدية حول العالم.

صعوبات في إنجاز المشاريع

وفيما رأت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، “كريستالينا جورجييفا”، أنه قد يتم خفض التوقعات للنمو الصيني بفعل “قيود مكافحة كوفيد وصعوبات القطاع العقاري”، والذي يواجه بدوره سلسلة من عمليات إفلاس المطورين وصعوبات في إنجاز المشاريع، فإن توقعات متزامنة أشارت إلى أن اقتصاد بريطانيا سوف ينكمش بأعلى نسبة بين الدول السبع الكبرى خلال العام الجاري2023م، وذلك في ظل معاناة بريطانيا من التضخم، الذي أدى نقص العمالة ودعم الطاقة “غير الموجه” إلى تفاقمه.

 

ودفعت تلك التوقعات، المستشار الاقتصادي لصندوق النقد الدولي “بيار أوليفييه غورينشاس”، لإطلاق تصريحات متشائمة بأن “الأسوأ لم يأت بعد، كثير من الناس سيعانون العام الجاري وأن الصدمات ستنكأ الجراح الاقتصادية التي التأمت جزئيًا في مرحلة ما بعد الوباء”.

كريستالينا جورجييفا

وفيما يتعلق بمنطقتنا العربية، فإنه من المتوقع، وفقًا لصندوق النقد الدولي أن يبلغ نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما نسبته %5، لكنه قد يعود للتباطؤ ليبلغ %3.6 في العام الجاري، بسبب تفاقم الأوضاع العالمية.

 

وينطبق ذلك على اقتصادات الدول النفطية، والتي أدى ارتفاع أسعار النفط ونمو إجمالي الناتج المحلي غير النفطي إلى تعويض ارتفاع أسعار الغذاء، حيث قدر الصندوق أن تنمو تلك الاقتصادات بنسبة %5.2 بنهاية عام 2022م على أن يتراجع النمو إلى %3.5 عام 2023م، وذلك بفعل تناقص زيادة الإنتاج المقررة في ظل اتفاقية “أوبك بلص”، وتراجع أسعار النفط، وتباطؤ الطلب العالمي.

بيار أوليفييه غورينشاس

أسباب تباطؤ النمو العالمي

تشير معظم التقارير والدراسات، إلى أن التوقعات المتداولة حول تباطؤ النمو العالمي، ترجع للعديد من الأسباب، لعل أبرزها الأوضاع العالمية غير المستقرة والمضطربة، وخاصة في ظل تبعات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد الأوروبي، وعواقب سياسة “صفر كوفيد” في الصين، فضلاً عن التباطؤ الحادث في الاقتصادات المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وأوروبا، على الطلب الخارجي في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، خاصة في ظل عدم امتلاك الحكومات في كثيرٍ من الاقتصادات النامية لسياسات دعم النشاط الاقتصادي، وهو ما قد يفاقم من مخاطر حدوث هبوط حاد جرّاء الموجات الجديدة لجائحة كورونا، واستمرار تعطل سلاسل الإمداد، وضغوط التضخم، وسرعة انتشار متحور أوميكرون، ما يعني استمرار تعطل الأنشطة الاقتصادية في الأمد القريب، بسبب تداعيات الجائحة، وكذلك التزامن بين تداعيات الجائحة وارتفاع معدلات التضخم وعدم اليقين بشأن السياسات العامة، فضلاً عن الوضع غير المألوف للإنفاق الحكومي والسياسات النقدية، وأيضًا التحديات التي تواجه قطاع العقارات في أجزاء مختلفة من العالم، سواء فيما يتعلق بانخفاض الاستثمارات في القطاع أو تشديد شروط الائتمان، وهو ما يمكن أن يؤثر بشكل كبير على النمو الاقتصادي العالمي.

تراجع طفيف في معدلات التضخم

ومن الملاحظ أن هناك تراجعا طفيفا في معدلات التضخم، كان أحد أسبابه استئناف أوكرانيا في أغسطس 2022م تصدير الحبوب للمرة الأولى منذ بداية الحرب، حيث أدى ذلك على المستوى العالمي إلى بدء انخفاض أسعار السلع الأساسية، مثل: القمح أو الذرة.

 

ولكن يرى بعض المتابعين والكثير من الخبراء أن من السابق لأوانه التعويل على ذلك، إذ أن تطورات الحرب وتقلبات الطقس في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تؤدي إلى صعوبات في التصدير مرة أخرى، وإلى اضطرابات جديدة في الإمدادات الغذائية.

ركود اقتصادي أعمق

وتشير التقديرات إلى أن الركود الاقتصادي العالمي من المحتمل أن يكون هذه المرّة أعمق مما حدث مع بداية جائحة كورونا، بل وربما أشد من الركود، الذي صاحب أزمة عام 2008م، في ظل أن أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي يتجه خلال العام 2023م إلى الركود، كما أن أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين)، من المحتمل أن تستمر في التعثر”.

 

وفضلاً عن ذلك، فإن الاقتصاد العالمي يمر بأكبر أزمة طاقة منذ السبعينات، وهو ما تسبب في ارتفاع التضخم “إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود”، وألقى بالطبع بتأثيراته على النمو الاقتصادي حول العالم.

 

ويؤكد بعض الخبراء أن السؤال لم يعد “هل سيشهد الاقتصاد ركوداً كاملاً؟”، ولكنه أصبح:”متى سيحدث ومدى عمقه وحدته؟”، وإذا كانت الاقتصادات الكبرى المتقدمة ستتأثر بالركود، فإنه من الواضح أن الاقتصادات النامية والصاعدة ستتأثر أكثر.

 

وفي هذا السياق، يشير مسح المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن استمرار ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وزيادة تكاليف المعيشة ستؤدي إلى اضطرابات في بعض المناطق، وتوقع %79 من الاقتصاديين الذين استطلع مسح المنتدى آراءهم أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى اضطرابات اجتماعية في الدول الفقيرة وذات الدخول المتوسطة، في مقابل 20 في المئة توقعوا حدوث اضطرابات في الدول ذات الدخول العالية.

الاحتمال الأكبر هو التباطؤ

من الواضح أن الاحتمال الأكبر لما سيحدث للاقتصاد العالمي في 2023م هو”تباطؤ في النمو”، فضلاً عن تضخم مرتفع، في عدد من الدول”، كما أن احتمالات وأخطار الركود الاقتصادي العالمي، ستتزايد إذا استمرت البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة في مواصلة سياساتها القائمة على رفع سعر الفائدة في محاولة للسيطرة على ارتفاع معدلات التضخم”.

 

وقد أصدر البنك الدولي في سبتمبر 2022م دراسة حول توقعات الركود الاقتصادي العالمي بنهاية العام السابق 2022م والعام الجاري 2023م وتضمنت الدراسة ثلاثة سيناريوهات لأداء الاقتصاد العالمي، وهي:

 

السيناريو الأول: تباطؤ في النمو الاقتصادي مع تفادي اقتصادات كبرى الركود الحاد، ويستند البنك في ذلك إلى تقديرات النمو وارتفاع معدلات التضخم، لكنّه يحذر من أن السياسات النقدية الحالية للبنوك المركزية قد لا تكف للحد من ارتفاع التضخم.

 

السيناريو الثاني: تباطؤ شديد وحاد في النمو الاقتصادي العالمي، بحيث يتفادى الاقتصاد الركود عام 2023م لكنّه قد يشهد هبوطًا حادًا في النمو نتيجة التراجع الكبير في النشاط الاقتصادي مع عدم انخفاض معدلات التضخم حتى في حال زيادة البنوك المركزية وتيرة رفع أسعار الفائدة.

 

السيناريو الثالث: حدوث ركود حاد في الاقتصاد العالمي مع زيادة الأخطار واضطراب الأسواق نتيجة السياسات النقدية في ظل ارتفاع معدلات التضخم، وفي هذه الحال سيتراجع الناتج الاقتصادي بشكل كبير يصعب تعويضه خلال فترة قصيرة عندما يأتي الانتعاش من الركود.

 

ومع أن الضرر الأكبر سيكون من نصيب الاقتصادات الصاعدة واقتصادات الدول النامية، لكنّ التطورات السلبية التي شهدها الاقتصاد البريطاني مؤخرًا، ولم تركز عليها دراسة البنك الدولي، تشير إلى أن السيناريو الثالث هو الأرجح.

طرق المواجهة لتجاوز الأزمات

تسعى العديد من الدول من أجل رفع معدّلات النمو وتجاوز الأزمات الماثلة، كما أن مكافحة التضخم في هذه المرحلة يُعد أولوية، إذ أن الارتفاع الكبير في الأسعار يؤدي إلى تراجع القدرة الشرائية حول العالم، الأمر الذي يفرض على البنوك المركزية الإعلان بوضوح عن قرارات السياسات مع الحفاظ على استقلاليتها، لأن ذلك من شأنه تثبيت توقعات التضخم والحد من درجة التشديد المطلوب للسياسات النقدية.

 

كذاك يجب قيام البنوك المركزية بمراعاة التداعيات العالمية غير المباشرة لتشديد السياسات النقدية، أما في الاقتصادات الصاعدة والنامية، فيجب على هذه البنوك أن تعمل على تقوية القواعد التنظيمية الاحترازية الكلية، وتكوين احتياطات من النقد الأجنبي.

 

كما يتعين على واضعي السياسات الاقتصادية، ضمن جهودهم لمكافحة التضخم، اتخاذ خطوات لتعزيز سلاسل الإمدادات العالمية، بما في ذلك المساهمة في تخفيف القيود على سوق العمل وزيادة المشاركة في القوى العاملة وتقليص ضغوط الأسعار وتسهيل إعادة توزيع العمال المسرحين.

 

وأخيرًا، يجب تعزيز الإمدادات العالمية من السلع الأولية والمواد الغذائية ومنتجات الطاقة، مع تسريع التحوّل إلى مصادر الطاقة منخفضة الكربون واتخاذ تدابير للحد من استهلاك الطاقة، وتقوية شبكات التجارة العالمية.